طرابلس في عين النّفايات... "نحن نستنشق رائحة موتنا"!

يقدّر ارتفاع مطمر طرابلس للنفايات باكثر من 40 متراً، ومساحته 67 ألف متر مربّع. يَمْثُل قرابة البحر مثل تلّة يكسوها العشب اليابس. تنبعث منه غازات سامة ترافقها روائح كريهة تلفّ المدينة كلّما هبّت ريح، بالاضافة إلى عصارات سائلة يمكن تعقّبها بالعين المجرّدة في خيط أسود يصبّ في البحر، مستمرّاً بتلويث التربة وبحر المتوسط والتسبب بقتل أنواع من الأسماك لاحظ صيّادو ميناء طرابلس نفوقها.
2022-09-23

جودي الأسمر

كاتبة صحافية وباحثة من لبنان


شارك
سحب الدخان نتيجة حريق مطمر النفايات تغطي سماء طرابلس

شيء من "أيلول الأسود" في مقياس طرابلس. ظهيرة 14 أيلول/سبتمبر 2022، كانت الغمائم السوداء تتكثّف في السماء، وتأخذ بالتمدّد أمام أعين الأهالي لتشمل محيط المدينة في الميناء والبداوي، فاحتجب النور كأنّها ساعات كسوف. أحكم الخوف قبضته على الشوارع التي ما لبث أن فرغت من المارّة، وتعطّلت الأشغال، والبيوت لازمها النّاس: لقد احترق مطمر النفايات.

لا تدخّلات ممّن يفترض أنهم معنيّون بالأمر. اكتفوا بتصريحات تناشد "حلّاً سريعاً"، كأن ليسوا سبب المشكلة، وأنّ الحلّ ليس عندهم، فيما كان أهالي طرابلس يعيشون بالتجربة الحية ما حذّروا منه طويلاً.

"نحن نتنشق السّموم"، "المطمر سيحترق"، "هذا المطمر جريمة"، "نموت بالسرطانات"... صرخات ارتفعت مراراً وتكراراً منذ تقرّر إنشاء المطمر قبل أربع سنوات. وفيما كان المواطنون يترقبون إخماد الحريق بمعدات بدائية وبمؤازرة من الدفاع المدني وطوافات الجيش، لم يجدوا متنفّساً سوى مواقع التواصل الاجتماعي التي تخللتها موجة من الغضب إزاء "الخفة" في كيل حياتهم بمكيال السلطات. وتأتيهم طمأنة أحد أعضاء المجلس البلدي: "هذا المطمر قابل للاشتعال فقط، لا للانفجار"!

تحوم منذ سنوات أشباح الموت والسرطانات بصورة لافتة بين سكان طرابلس الذين يربو عددهم عن 800 ألف نسمة، بحيث لا يخلو اليوم حي من الأحياء المحاذية للمطمر في الميناء والزاهرية والمئتين والمعرض والبداوي من مرضى السرطان والجهاز التنفسي والكلى وسائر الأمراض المزمنة والقاتلة.

تقرر منذ سنوات في اجتماع رسمي انشاء "مطمر مؤقت" وسط غضب الناس من هذا الحل الفاشل، ولا سيما أن موقع المطمر يقع في مرفق حيويّ هو المنطقة الاقتصاديّة، ويحاذي سوق الخضار الجديد. ولكن الاجتماع انتهى بفرض المطمر بصيغة الأمر الواقع من خلال 33 مليون دولار، لأجل خدمة هي الأسوأ وتكلفتها الأعلى عالمياً. 

وواقع الحال أنّ كلمة "انفجار" اكتسحت المدينة، ولم تأتِ من العدم. فأيّ اشتعال يجعل النّاس بطبيعة الحال يخافون الانفجار. وليس غريباً أن يخاف لبنانيّون وقوع انفجار، هُم مَن اختبروا منذ سنتين صدمة "مرفأ بيروت" في ثاني أكبر انفجار في التاريخ، ولم يُكشف مرتكبوه، كما أنّه وليد سياسة "تطنيش" (لا مبالاة) راكمت أطنان الأمونيوم في المرفأ، والسلطات كانت تعرف، ولكنها تقرّر تجاهل الكارثة إلى حين وقوعها، وتتنصل من مسؤوليتها حين يقع ما يحمّلها كل المسؤولية.

لم يكن سهلاً على طرابلس التصدي للحادثة الأخيرة حتى ساعات الليل، حيث عاود المكبّ الاشتعال وأعيد إخماده. ولفّتْ الأسباب تفسيرات مشتّتة، فيما تحدّث شهود عيان قابلهم "السفير العربي" عن مناورات كان يجريها الجيش بالذخيرة الحية بالقرب من المطمر، الأمر الّذي لم ينفه لاحقاً رئيس اتحاد بلديات الفيحاء حسن غمراوي. وأيّاً كان السبب، فإنّ الاشتعال مهيّأ في أي لحظة بسبب وجود أكوام من الكاوتشوك قرب المطمر، والمضخات التي يفترض أن تفرغ "البيوغاز" المنبعث من تحلل المواد العضوية لا تعمل منذ سنوات. ولا ينتظر المواطنون الرّواية الرسميّة، لأنهم يعرفون أنها تبقى مجهولة وسيصيبها التمييع والتعويل على نسيانها وسط سيل الأزمات المعيشية والفلتان الأمني وسياسة الإفلات من العقاب.

وفي واحد من الخلفيات الكثيرة التي تهيّء لاشتعال المطمر، يجب أن تمتثل شركة "باتكو" المشغّلة للائحة شروط ومؤشر أداء اطلع عليها "السفير العربي"، والمؤلفة من 152 نقطة. ويجزم خبراء أنّ الشركة لا تلتزم أكثر من 30 بالمئة من بنود العقد، كما لم تحفر أي بئر لإستخراج الغاز، والتي يُفترض أن يبلغ عددها 30، ولكن "لم تعد هذه الخطوة ممكنة بسبب وصول ارتفاع الجبل لما بعد حدوده بأشواط"، في توضيح - فضيحة نشرته "باتكو" بدون أي خجل من إعلان تقصيرها.

كلمة "انفجار" اكتسحت المدينة، ولم تأتِ من العدم. فأيّ اشتعال يجعل النّاس بطبيعة الحال يخافون الانفجار. وليس غريباً أن يخاف لبنانيّون وقوع انفجار، هُم مَن اختبروا منذ سنتين صدمة "مرفأ بيروت" في ثاني أكبر انفجار في التاريخ، ولم يُكشف مرتكبوه، كما أنّه وليد سياسة "تطنيش" (لا مبالاة) راكمت أطنان الأمونيوم في المرفأ، والسلطات كانت تعرف، ولكنها تقرّر تجاهل الكارثة إلى حين وقوعها، وتتنصل من مسؤوليتها حين يقع ما يحمّلها كل المسؤولية. 

لا يمكن الحديث عن النفايات في طرابلس بدون التطرق إلى فشل إدارة النفايات على صعيد لبنان. من المعلوم أنّ ملف النفايات مرساة ثقيلة للفساد الذي يُغرِق البلاد، ويشمل كلّ المناطق حيث تنتشر أكوام النّفايات في المساحات العامّة وترتفع جبالها في حلول آنية تعتمدها الجهات الرّسمية في الهروب إلى الأمام.

ومن يسِر في شوارع لبنان سيظنّ أنّ الأرصفة مخصّصة للنفايات، وأنّها مراتع للقوارض لا المشاة. وعوضاً عن معالجتها، تُكدّس الشركات المتعهدة النّفايات في جبال أوّلها وأشهرها في صيدا، وجبال النفايات في ضواحي بيروت الشمالية والجنوبية عند برج حمود الكوستا برافا والنّاعمة، وجبل النفايات القديم في طرابلس والمطمر... وتندرج هذه البؤر ضمن مكبات عشوائية في سائر القرى والبلدات اللبنانية يصل عددها إلى 617 مكبّاً للنفايات الصلبة في عام 2017 بحسب رصد منظمة "هيومن رايتش ووتش"!

يجسّد ملفّ النّفايات صورة عن "التّخلي" المنتهج في لبنان، الأمر الّذي جعل جبال النّفايات رمزاً للفساد، وقد ألهَمَ مطمر النّاعمة في عام 2015 بإطلاق الحراك المطلبي الشعبي تحت شعار "طلعت ريحتكن" (1).

وبحلول كابوس المطمر على طرابلس، قاوَم مواطنون وخبراء القرار بلا هوادة. واجهوه بالاعتصامات والمعارضة الشعبية والدعاوى القضائية المتتابعة وكان آخرها في شباط 2021. علماً أن هذا المطمر شيّد بجانب جبل النفايات الّذي أنشىء عام 1994، وانهارت أقسام منه في عام 2018 بعدما تجاوز مرحلة الإشباع بأشواط، ويتسبّب بمجازر صحيّة وبيئيّة تعانيها المنطقة منذ ثلاثين سنة.

لا ينتظر المواطنون الرّواية الرسميّة التي تخص الحريق المتكرر، لأنهم يعرفون أنها تبقى مجهولة وسيصيبها التمييع والتعويل على نسيانها وسط سيل الأزمات المعيشية والفلتان الأمني وسياسة الإفلات من العقاب. 

يجسّد ملفّ النّفايات صورة عن "التّخلي" المنتهَج في لبنان، الأمر الّذي جعل جبال النّفايات رمزاً للفساد، وقد ألهَمَ مطمر النّاعمة في عام 2015 بإطلاق الحراك المطلبي الشعبي تحت شعار "طلعت ريحتكن". 

لكن كلّ الاعتراضات والشكاوى نامت في أدراج القضاء، ولم تحدّد المسؤوليّات الواجبة على رئاسة الحكومة ومجلس الانماء والإعمار واتحاد بلديات الفيحاء ونواب من طرابلس (2): قرّر هؤلاء في جلسة مغلقة عقدت في 21 حزيران/يونيو 2018 في "قصر رشيد كرامي الثقافي" في طرابلس، إقامة "مطمر صحي مؤقت" إلى جانب الجبل القديم، وفقاً لاقتراح مقدم من الحكومة و"مجلس الانماء والإعمار". وأمام القاعة المغلقة، كان فتيل غضب المواطنين يشتعل في اعتصام واسع منبعه كوابيس الجبل القديم، وأي جودة ستحرص عليها شركة "باتكو" التي لُزِّمت المشروع بالتراضي وبدون عرض مناقصة شفافة ومفتوحة، وقد أثبتت فشلها في إدارة جبل النفايات، وماذا سيضمن أن يكون المطمر "صحيّاً" و"مؤقّتاً"؟ فضلاً عن موقع المطمر في مرفق حيويّ هو المنطقة الاقتصاديّة، ويحاذي سوق الخضار الجديد. ولكن الاجتماع انتهى بفرض المطمر بصيغة الأمر الواقع من خلال 33 مليون دولار، لأجل خدمة هي الأسوأ وتكلفتها الأعلى عالمياً.

يقدّر ارتفاع مطمر طرابلس بما لا يقل عن 40 متراً، ومساحته 67 ألف متر مربّع. يمْثل قرابة البحر مثل تلّة جدباء يكسوها العشب اليابس وتحاذيه خُردة كانت معمل التسبيخ الذي اختفت معدّاته في ليلة لا يُكشف عن أمرها شيء. تنبعث من المطمر روائح فساد وغازات سامة ترافقها روائح كريهة تلفّ المدينة كلّما هبّت ريح، بالاضافة إلى عصارات سائلة يمكن تعقّبها بالعين المجرّدة في خيط أسود يصبّ في البحر، مستمرّا بتلويث التربة وبحر المتوسط والتسبب بقتل أنواع من الأسماك لاحظ صيّادو ميناء طرابلس نفوقها.

وتحوم منذ سنوات أشباح الموت والسرطانات بصورة لافتة بين سكان طرابلس الذين يربو عددهم عن 800 ألف نسمة، بحيث لا يخلو اليوم حي من الأحياء المحاذية للمطمر في الميناء والزاهرية والمئتين والمعرض والبداوي من مرضى السرطان والجهاز التنفسي والكلى وسائر الأمراض المزمنة.

ومنذ بضع سنوات، تصاعدت صرخات سكان شارع لطيفة في حيّ الزاهريّة المحاذي لجبل النفايات والمطمر بسبب موت خمسة أشخاص بمرض السرطان في فترة صغيرة، واثنان منهما قتلا في يوم واحد. كما أفاد تقييم نوعيّ أنّ مستشفيات طرابلس تلحظ ارتفاعاً كبيراً في معدل أعداد المصابين بمرض السرطان في طرابلس، وتحديداً بالجهاز التنفسي والكلى.

شركة "باتكو" المشغّلة للمطمر لم تلتزم بلائحة شروط مؤلفة من 152 نقطة. ويجزم خبراء أنّها لا تلتزم أكثر من 30 بالمئة من بنود العقد، كما لم تحفر أي بئر لإستخراج الغاز، والتي يُفترض أن يبلغ عددها 30، ولكن "لم تعد هذه الخطوة ممكنة بسبب وصول ارتفاع الجبل لما بعد حدوده بأشواط"، في توضيح / فضيحة نشرته "باتكو" بدون أي خجل. 

وفي عينة مخبريّة من تقييم الأضرار، أعدت الجامعة الأميركية في بيروت دراسة تظهر وجود معدلات خطيرة من مادة الديوكسين المسرطنة المنبعثة من الجبل القديم، وهي مثبتة في احتراق المطمر الأخير لأنها ناجمة عن احتراق البلاستيك والنايلون والبطاريات والمعادن. وتتطاير هذه الجزئيات في الهواء، وحين يمتصها الجسم لا يمكن التخلص منها بسهولة، كما تتسرب في المياه الجوفية...

قد يصحّ القول بأنّ "حريق المطمر أصدق نبأً من الأقوال"، لكن لا ضغوطات شعبية ولا مسالك قضائية ولا حرائق، وتالياً، لا رادع أخلاقي يوقف مقصلة المطمر، طالما أنّها ممسوكة بيد سلطة تجد في سياسة التّخلي مطمراً لضميرها الميّت، وليعترض من يشاء، وليُقتل مَن يُقتل. 

______________________

 1 - بعد إغلاق المطمر في تموز/يوليو من العام 2015، وانتهاء العقد مع سوكلين، الشركة المسؤولة عن إدارة النفايات في بيروت وجبل لبنان، من دون التفكير بحلول بديلة لما كانت تقوم به، ووسط نزاع بين النواب المتنفذين على اعطاء العقود الجديدة لشركات تخصهم، راحت آلاف أطنان النفايات غير المفرزة تتكدّس بشكل يومي في الشوارع والشواطىء والغابات والوديان.

 2 - كان رئيس الحكومة حينذاك سعد الحريري، وضمّ الاجتماع كلّاً من النّواب نجيب ميقاتي، سمير الجسر، ديما جمالي، جان عبيد، نقولا نحاس وعلي درويش، بحضور رئيس بلدية طرابلس أحمد قمر الدين وعدداً من الأعضاء. 


وسوم: العدد 518

مقالات من لبنان

للكاتب نفسه

طرابلس/ لبنان "مدينة الأنوار" في رمضان

أنوار رمضان المضاءة اليوم في طرابلس تبدو ذات دلالة ثانية مستجدة. هي وليدة أدوات الحاضر واحتمالاته، فتظهر كفعل تجاوزيّ لكومٍ من الأزمات والعوائق التي تتراكم في ذهنية المواطنين لتخلق وتوطد...