سوريا: هل من ناجٍ أخير؟

لم تقف الظواهر المناخية في سوريا عند العواصف والأمطار في غير وقتها وزخمها المعتادين، ووصول أمواج البحر المتدافعة إلى منشآت قريبة من الشواطئ للمرة اﻷولى حسب حديث السكان، بل تعدتها إلى ظاهرة أخرى أشدّ وقعاً، وهي تغيّر غير مسبوق في مستوى درجات الحرارة، صيفاً وشتاءً، ارتفاعاً وانخفاضاً، وبروز مظاهر التصحر، وانخفاض شديد في إنتاج المواد الغذائية الأساسية.
2022-09-22

كمال شاهين

كاتب وصحافي من سوريا


شارك
| en
غسان غائب - العراق

تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.

لم تكن العاصفة البحرية المطرية التي ضربت الساحل السوري نهاية حزيران / يونيو 2022، مخلفةً وراءها ضحايا وخسائر مادية كبيرة، الوحيدة في صيف سوريا ذاك العام، إذ أنّ عواصف غبارية هبّت بعد ذلك على مناطق البلاد الشرقية في تموز/ يوليو من العام نفسه، وصل أثرها إلى العاصمة دمشق ومدن أخرى. وعلى الرغم من أنّ نوع العواصف الغبارية معروف في الداخل السوري، ومعتاد، إلا أن قوة هذه وتوقيتها وامتدادها نحو محافظات بعيدة نسبياً مثل السويداء وطرطوس، أثار الأسئلة والمخاوف عما يحدث وما تفسيراته المناخية والطبيعية..

تشابكت هذه الظواهر المتضادة مع تعرض سوريا العام 2021 لأسوأ موجة جفاف منذ سبعين عاماً بانخفاض قياسي في هطول الأمطار، وفق تعبير وزير الزراعة السوري حسان قطنا في تصريحات لإذاعة "المدينة" المحلية ونقلتها مواقع كثيرة، وبينما قدّمت المفوضية الأوروبية وصفاً أقل خطورةً مشيرةً إلى الحدث على أنه أسوأ جفاف تعرضت له البلاد منذ ربع قرن. إلا أن الوضع يتجه ليكون أكثر صعوبة وخطراً.

مظاهر التغير المناخي في البلاد

لم تقف الظواهر المناخية في سوريا عند العواصف والأمطار في غير وقتها وزخمها المعتادين، ووصول أمواج البحر المتدافعة إلى منشآت قريبة من الشواطئ للمرة اﻷولى حسب حديث السكان، بل تعدتها إلى ظاهرة أخرى أشدّ وقعاً، وهي تغيّر غير مسبوق في مستوى درجات الحرارة، صيفاً وشتاءً، ارتفاعاً وانخفاضاً.

سجل شهر تموز / يوليو 2022، ارتفاعاً عن المعدّل السنوي المعتاد وصل إلى خمس درجات حسب إحصاءات مركز اﻷرصاد الجوية، فسجلّت مدينة الحسكة (شمال شرق البلاد) (44 درجة مئوية)، بينما سجلت في الشهر نفسه من العام 2010، 33 درجة مئوية. وهذه الدرجة اﻷخيرة كانت مرتفعة عن تموز/ يوليو من العام 2008 بمقدار درجتين، مما يعني تسارعاً متصاعداً في معدل الفارق الحراري العام. وفي اللاذقية الساحلية والمعروفة بطيب مناخها واعتداله، سجّلت الحرارة قرابة الأربعين درجة مئوية هذا الصيف.

وفق التقييم اﻷولي لشبكة الخبراء المعنية بالتغيرات المناخية في البحر المتوسط العام 2019، فقد قدّر ارتفاع درجات الحرارة في سوريا في العقود بين 1931 و2008 بدرجة مئوية واحدة، في حين أن الارتفاع بين 2008 وحتى 2022 يقدّر بدرجتين مئويتين فأكثر. وفي سوريا يشير اتساع مستوى الفارق الحراري عن المعدل صعوداً وهبوطاً إلى تغيّر غير متوازن في المناخ بما لا يتناسب مع الصفة المتوسطية المعتدلة الحرارة عموماً.

يؤدي تراجع معدلات هطول الأمطار المصحوب بارتفاع درجات الحرارة إلى ظروف مناخية أكثر جفافاً، ويشير التقييم السابق إلى أنّ زيادة درجة مئوية واحدة في متوسط درجة الحرارة العالمية، يؤدي لتراجع بنسبة 4 في المئة في هطول اﻷمطار. فقد تعرضت سوريا بين 2008 و2011 لفترات جفاف قوية نتج عنها عجز كبير في كميات الهطول ترافق مع ارتفاع كميات التبخر والنتح (Evapotranspiration)، نتيجة ارتفاع درجات الحرارة. وبالمثل، فقد عانت سوريا جفافاً مضافاً وقلة هطول الأمطار في السنوات 2019-2022 مع جو حارق وحرائق واسعة.

ومقابل ارتفاع درجات الحرارة صيفاً، حذّرت اﻷمم المتحدة من شتاء قاسٍ للغاية على السوريين منذ 2021، وحسب منظمة CARE فإن تساقط الثلوج ووصول درجات الحرارة إلى ما دون الصفر ليس أمراً غريباً هنا، ولكن تغير المناخ في السنوات الماضية، جعل الوضعَ أكثر حدةً.

قادت تقلبات هذا الطقس بجفافه وبرودته لحدوث أضرار في البلاد، كان أكثرها وضوحاً جفاف مناطق الجزيرة (الحسكة والرقة ودير الزور) ومساحتها ثلث مساحة سوريا، وتعد سلّة غذاء البلاد بمحاصيلها الاستراتيجية، كالقمح والشعير والقطن وملايين الرؤوس من الثروة الحيوانية ومصادر المياه. ففي تقرير منتصف أيار / مايو 2022، أكّد مدير زراعة الرقة -التابعة لدمشق -المهندس "محمد الخذلي" أنّ مظاهر التصحر بدأت تجتاح مناطق واسعة من الجزيرة بسبب قلة الأمطار، وأنّ وضع مواسم هذه المناطق سيء جداً للعام 2022، وأغلب المزروعات لم تنبت مع تسجيل انخفاض كبير في كميات المطر مقارنة مع الأعوام السابقة" وتبعاً للمهندس الخذلي فإنّ "مركز مدينة الرقة سجل الشتاء الماضي 80 ملم في حين بلغت الأمطار 208 ملم شتاء 2019".

التكدس الهائل في أحياء المدن القريبة لمفقَرين نُزعت منهم إلى حد العدم كل مقومات حياتهم المعتادة منذ قرون، قد كان من عوامل الانفجار في 2011.

على صعيد الإنتاج الزراعي، يوضح إنتاج القمح عمق التأثيرات المناخية. فقد شهد إنتاج مادة أساسية في الغذاء السوري بغضون عشر سنوات، تراجعاً بما يعادل قرابة مليون طن.

انخفاض كمية الأمطار ترك أثره على الزراعة المروية أيضاً، فقد خرجت مئات اﻵبار والخزانات السطحية والجوفية عن العمل، مما أدّى بدوره (مترافقاً مع انقطاع للتيار الكهربائي وصعوبة صيانة المضخات) إلى إهمال أقسام كبيرة من المساحات المروية المزروعة، وهذا الوضع ينطبق على مناطق سورية أخرى بدرجات متفاوتة.

إلى جوار الجفاف وتسببه بالنزوح، حضرت حرب قاسية أدت إلى زيادة التلوث المناخي ومظاهره. وخلال أحد عشر عاماً من الحرب استُخدمت مختلف أنواع الأسلحة، الخفيفة منها والقنابل وقواذف الآليات الثقيلة والدبابات، وطائرات حربية تفجّر مئات منها في السماء السورية أو أسقطت براميل بارودها قصفاً، ما دمّر مدناً بأكملها. وفي بعض الحالات سجّل استخدام قذائف اليورانيوم المشع. وهذه الحرب بجميع مجرياتها خلّفت تغيّراً طويل الأمد في درجات الحرارة.

ولم تكتف الحرب بتدمير المدن والقرى، ولكنها التهمت الغطاء النباتي ولوّثت مصادر المياه والتربة، وهجرت الملايين من منازلهم إلى مناطق أخرى، وأثّرت على المجتمع السوري وغيرت عاداته نحو الأسوأ بشكل إجباري، فأصبح الناس يبحثون عن أقل الوسائل تكلفةً للتدفئة، حيث قُطعت مساحات غابية وحراجية كثيرة لاستخدامها في التدفئة والطبخ.

أسباب التغير المناخي بين المحلي والعالمي

في العام 2020، وصلت مستويات غازات الاحتباس الحراري في الغلاف الجوي للأرض إلى معدل قياسي جديد ـ رغم توقف كبير للنشاطات البشرية بسبب وباء كورونا ـ واستمر هذا الاتجاه بالتصاعد العام الحالي. وإذا كان متوقعاً تأثر البلدان المنتجة للكربون، فإن البلدان والمجتمعات التي ساهمت بقدر أقل في الاحتباس الحراري، تأثرت في معظم الحالات بشكل غير متناسب بل وأحياناً مضاعف بسبب اهتراء بناها البيئية والصحية، وهذا يدفع إلى السؤال عما هو نصيب دور سوريا من التغير المناخي في العالم.

تبعاً للأمم المتحدة فإن "أهم أسباب تغير المناخ هو الوقود الأحفوري - الفحم والنفط والغاز - وهو أكبر مساهم في تغير المناخ العالمي، حيث يمثل قرابة 90 في المئة من جميع انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وفوق 75 في المئة من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري التي تغطي الأرض وتحبس حرارة الشمس"، وهذا لا يسبب الاحتباس الحراري فحسب بل تغير المناخ حيث ترتفع درجة حرارة العالم الآن أسرع من أي وقت مضى في التاريخ المسجل. وبمرور الوقت تتسبب درجات الحرارة المرتفعة بتغيير أنماط الطقس وتعطيل توازن الطبيعة المعتاد، وهذا يخلق مخاطر عديدة على الكوكب يابسة ومياه، وعلى سكانه الأحياء جميعاً.

بدأت مظاهر التصحر تجتاح مناطق واسعة من الجزيرة بسبب قلة الأمطار، ووضع مواسم هذه المناطق سيء جداً للعام 2022، وأغلب المزروعات لم تنبت مع تسجيل انخفاض كبير في كميات المطر مقارنة مع الأعوام السابقة. 

في سوريا هناك مصفاة نفط في حمص (وأخرى في بانياس الساحل، ومحطات حرارية عاملة على الغاز والفيول، وعدة معامل تستخدم الوقود الأحفوري، ومساهمتها ككل في الانبعاثات الكربونية للكوكب ضئيلة، حيث قدّرت انبعاثات الكربون في سوريا العام 2018 بأكثر من 25 ألف كغ GtCO2 بقليل تبعاً لـ Country Economy، بينما قدّرت انبعاثات الكربون في العالم في العام نفسه ب 53.5 مليار طن GtCO2 بحسب مكتب الأمم المتحدة للمناخ UNEP، وبالتالي فإن سوريا لا تعد مسبباً حقيقياً لزيادة التغير المناخي في العالم.

إلا أنّ النسب المنخفضة من انبعاثات الكربون في سوريا لا تلغي تأثيرها على السوريين، وتعتبر مصفاة حمص ـ بنيت العام 1959 ـ واحداً من أسوأ مصادر خلق التلوث البيئي الذي تراكم على مدار عقود متسبباً بتأثيرات مناخية ملحوظة، فقد تحولت إلى نقطة استقطاب للأمطار الملوثة، وهذه الظاهرة تلاحظ في مساحة مصفاة حمص، حيث أنّ معدّل كمية الأمطار السنوية فيها يتجاوز كمية الأمطار السنوية في مدينة حمص نفسها، والسبب أنّ "الملوثات العالقة في الهواء تكثف قطرات المطر حولها، يساعد على ذلك أنّ مداخن المصفاة لم تركب عليها فلاتر تصفية، وبالتالي، فإن نواتج احتراق النفط تلقى مباشرةً في الجو، وعلى الرغم من إنشاء وحدات تقطير فإن نسبة الانبعاثات كبيرة" (1). يضاف إلى هذا الأثر الملحوظ، أن المصفاة صبّت مخلفاتها في نهر العاصي وجعلت مياهه غير صالحة للشرب، وعلى الرغم من وجود قسم لمعالجة المياه المستخدمة في المعالجة الكيميائية للنفط ووحدات تقطير، إلا أن فاعليتها طفيفة.

المثال الثاني للتسبب البشري بتغيرات مناخية يتعلق بمصفاة النفط وبالمحطة الحرارية في "بانياس" اللتان تعملان على الفيول، وكلاهما أنشئ على ساحل البحر المتوسط سبعينيات القرن الماضي، بتقنيات لم تلحظ إدارة مشاكل الانبعاثات الكربونية. وبسبب السخام الأسود الذي يبث في الجو منذ أربعة عقود، فإنّ قرى الجبل القريبة المطلة على المصفاة والمحطة، وحتى معمل الإسمنت في طرطوس، تحولت إلى مرتع للأمراض الصدرية والتنفسية، مع سوء متصاعد لمختلف أنواع المواسم الزراعية الشجرية. ويسجل هنا اختفاء ملحوظ لأشجار الفواكه مثل التين والمشمش، وزيادة أمراض شجر الزيتون، ويسجل كذلك اختفاء أنواع من الطيور المقيمة أصبح وجودها نادراً، مثل طائر الحجل. وعلى الأرجح فإن هذه التغيرات المناخية سببها التلوث المتزايد على المنطقة، هذا عدا التأثيرات الأخرى للمصفاة والمحطة الحرارية الملحوظة على الحياة البحرية مثل تلويث الشواطئ بالمخلفات النفطية، وهو ما حدث في 2021 مع تسرب ألفي طن من الفيول إلى الشواطئ من أحد خزانات المحطة الحرارية، وصلت إلى قبرص.

على صعيد موازٍ، وعلى الرغم من أنه لا يمكن استبعاد العوامل البشرية المتمثلة في نشاطات متزايدة، فإن التغير المناخي بات يلحظ في ظهور حرائق الغابات في سوريا بشكل متكرر كل عام. ففي العامين 2020 و2021 شهد الساحل، وهو آخر معاقل الغابات في البلاد، أسوأ موجة حرائق، استهلكت أكثر من 9000 هكتار من بساتين الزيتون والفواكه والأشجار الحرجية، كما اجتاحت عدداً من القرى، وأخلي العديد منها مع نزوح سكاني. ووصلت الحرائق إلى البحر.

بسبب السخام الأسود الذي يبث في الجو منذ أربعة عقود، فإنّ قرى الجبل القريبة المطلة على المصفاة والمحطة، وحتى معمل الإسمنت في طرطوس، تحولت إلى مرتع للأمراض الصدرية، مع تدهور مختلف أنواع المواسم الزراعية الشجرية. ويسجل اختفاءٌ ملحوظٌ لأشجار الفواكه مثل التين والمشمش، وزيادة أمراض شجر الزيتون، واختفاء أنواع من الطيور المقيمة التي أصبح وجودها نادراً. 

وكعادتهم، تجادل السوريون أشهراً فيمن هو وراء إشعال هذه الحرائق، هل هو افتعال بشري أم فعل الطبيعة، خاصة بعد عرض التلفزيون الرسمي لقاءات مع أشخاص قبضت الجهات اﻷمنية عليهم على أنهم مشعلي النار في تلك المواقع. إلا أن اشتعال الحرائق على مستوى الشرق الأوسط ككل صيف العام 2021 وفي دول لديها أنظمة مراقبة حرائق متطورة، مثل اليونان وتركيا، أعطى لتغيرات الطقس أرجحية على نظرية المؤامرة، خاصة مع تكرار الحرائق وتوقيتها الذي يأتي عادة قبيل فصل الشتاء حيث تكون الرطوبة في أدنى مستوياتها والجفاف في أعلاها في تشرين اﻷول/ أكتوبر والثاني/ نوفمبر.

اشتعال الشرق اﻷوسط بالحرائق، رجح دور الحرائق في تغيير أنماط الطقس نفسه. فقد ساهمت درجات الحرارة المرتفعة في إشعال حرائق في مناطق مختلفة، في السهول والجبال المفترض أنها معتدلة وحتى باردة. وهو ما يمكّننا من النظر إلى الحرائق على أنها سبب للتغير المناخي، فهي تؤدي إلى قتل مختلف أشكال الحياة النباتية والحيوانية في المنطقة. وتشير حرائق في منطقة مرسين التركية مطلع أيلول / سبتمبر 2022 إلى مخاطر متصاعدة من وصولها إلى سوريا.

آثار التغير المناخي المجتمعية

شهد شتاء سوريا العام 2019 فيضانات وأمطار غزيرة شمال غرب البلاد والساحل أدّت إلى تدمير المحاصيل الخريفية والشتوية مثل الخضار، كما تسببت بأضرار لحقت بمواقع النازحين داخلياً، وتضررت خيامهم وقطعت الطرق المؤدية إليهم. أجبر هذا الطقس الناس على إنفاق أموالهم لشراء أغذية كانوا ينتجونها. وبسبب أنّ الناس أقل قدرةً على التعامل مع درجات الحرارة المنخفضة، فإنّ الشتاء يكون أقسى وأكثر فتكاً. ففي إدلب ونتيجةً للبرودة الشديدة (وصلت الحرارة إلى ما دون الصفر)، عمد الناس إلى تقطيع أشجار الغابات للتدفئة في وقت غاب فيه الدعم الحكومي ﻷي نوع من أنواع التدفئة.

في العام التالي، 2020، شهدت البلاد حالة معاكسة، هي انعدام هطول الأمطار، الأمر الذي سبب جفافاً غير مسبوق، زاده سوءاً أن مساحات واسعة من الأراضي المزروعة في البلاد لم يكن ممكناً سقايتها، في وقت تراجعت فيه مستويات مياه السدود والأنهار، وهو ما ترك أثره على النشاط البشري وعلى غذاء الناس. وحتى مطلع الشتاء الحالي 2022، يهدد الجفاف حياة عشرين مليون سوري يواجهون صعوبات في الحصول على المياه والغذاء. ويقدّر برنامج الأغذية العالمي أن 12.4 مليون سوري (وهو أعلى رقم مسجل في تاريخ سوريا) يعانون حالياً من انعدام الأمن الغذائي، وهذه زيادة قدرها 4.5 مليوناً عن العام الماضي 2021 وحده.

كما تسبب انخفاض كميات الأمطار بعدم إنبات الأعشاب والمحاصيل، ودفع أصحاب المواشي إلى التنقل بها مسافات طويلة بحثاً عن الغذاء، وسط مساحات تتحول إلى أراض جافة بعد أن كانت مراعي لعقود وقرون عديدة، ومنها البادية السورية. ومع اتساع رقعة الجفاف وارتفاع درجات الحرارة صيفاً، وانخفاضها الحاد شتاءً دون الصفر، تعرضت قطعان الأغنام لنفوق مئات الرؤوس بسبب البرد الشديد، وهذا ظهر بوضوح جنوب سوريا (السويداء ودرعا)، وأدّى تالياً إلى بيع كثير منها بقيم متدنية بسبب عجز أصحابها عن إطعامها.

شهد شتاء سوريا العام 2019 فيضانات وأمطاراً غزيرةً شمال غرب البلاد والساحل أدّت إلى تدمير المحاصيل الخريفية والشتوية مثل الخضار، كما تسببت بأضرار لحقت بمواقع النازحين داخلياً، وتضررت خيامهم وقطعت الطرق المؤدية إليهم. أجبر هذا الطقس الناس على إنفاق أموالهم لشراء أغذية بينما كانوا ينتجونها. 

مسألة الجفاف امتدت إلى فقدان متزايد للوصول إلى مياه الشرب في غالبية المناطق السورية، سواء لتلوث مصادر المياه أو جفافها أو استجرارها في غير الشرب. وتتضح هذه الحالة في القرى المجاورة لنبع السن، أحد أغزر ينابيع الساحل، فعدد كبير من هذه القرى يعاني فعلياً من العطش ويشتري الناس للشرب صهريج المياه سعة خمسة براميل (750 لتراً) بأكثر من 35 ألف ل.س (ثمانية دولارات تقريباً).

في منطقة الجزيرة شرق البلاد، زاد الجفاف سوءاً انخفاض منسوب نهر الفرات، شريان وخزّان سوريا المائي والغذائي، ونتيجة تزايد أعداد السدود التركية على منابع الفرات، واستهلاك تركيا للحصة المائية السورية في مشاريعها الداخلية. فقد انخفضت كمية الوارد المائي السوري دون النصف (200 متر مكعب/ ثانية) بدلاً عن (500 م.م / ثانية)، وهو ما حوّل مساحات واسعة إلى أراضٍ مهملة زراعياً بدأت تظهر عليها علامات التصحر، متسببةً بالعديد من الظواهر المناخية الجديدة، منها انطلاق هجرات سكانية غير واضحة المعالم حالياً إلى مناطق أخرى. وتشير معلومات واردة من منطقة الجزيرة إلى أن أعداد القرى المهجورة بسبب الجفاف تزايد في السنوات اﻷخيرة بما لا يقل عن مئة قرية يتراوح عدد سكانها بين اﻷلف إلى الخمسة آلاف، وليس نادراً اليوم وجود أعداد قليلة من السكان في قرى المنطقة. وهذه الانتقالات البشرية المتزايدة تحصل اليوم بسبب تبعات التغيرات المناخية.

بسبب الجفاف وقلة المردود، يندفع المزارعون لترك اﻷراضي والزراعة إلى مجالات ثانية أو الهجرة خارج البلاد. وبالمقابل، يشير ازدياد عدد سكان المدن إلى أن الهجرة الداخلية / البينية في طريقها للتحول من حالة كامنة إلى حالة عمومية. وكمثال، فقد أعلن المكتب المركزي للإحصاء أن عدد سكان مدينة حماة، وهي متوسطة الحجم وسط البلاد، بلغ العام الحالي 673 ألفاً حسب آخر بيان لانتخابات الإدارة المحلية، في حين كان عدد السكان بحدود نصف الرقم السابق العام 2018. ولا يمكن تفسير هذه الزيادة بالتزايد السكاني الطبيعي، خصوصاً أن المدينة سبق لها أن خسرت جزءاً من سكانها بسبب الحرب في البلد، ولكنها عوضت هذا الفاقد بالهجرات والنزوح إليها.

تسبب انخفاض كميات الأمطار بعدم إنبات الأعشاب والمحاصيل، ودفع أصحاب المواشي إلى التنقل بها مسافات طويلة بحثاً عن الغذاء، وسط مساحات تتحول إلى أراض جافة بعد أن كانت مراعي لعقود وقرون عديدة، ومنها البادية السورية. 

على صعيد الإنتاج الزراعي، يوضح إنتاج القمح عمق التأثيرات المناخية. فقد أنتجت المناطق التي تديرها حكومة دمشق، خلال العام الحالي 2022 وفق تصريح منتصف أيلول/سبتمبر لرئيس الوزراء السوري، 520 ألف طن من القمح، في حين أنتجت مناطق الجزيرة الخاضعة لسيطرة الإدارة الذاتية لشرق وشمال سوريا حوالي 400 ألف طن. بذلك يكون إنتاج مادة أساسية في الغذاء السوري بغضون عشر سنوات، قد شهد تراجعاً بما يعادل قرابة مليون طن، فقد أنتجت سوريا العام 2010 مليوني طن، وكانت قبلها تنتج أربعة ملايين طن. ويوضح الفرق التناقص الكبير في مساحات زراعة المحاصيل الاستراتيجية وارتفاع نسبة جفاف الأراضي، مع العلم أن سوريا تحتاج إلى أكثر من 2.3 مليون طن قمحاً لعام 2022.

هل السوريون متساوون إزاء الكارثة.. القادمة؟

ومع إدراك أن انهيار المناخ سيؤثر علينا جميعاً، إلا أن الجميع لن يتأثر بالطريقة نفسها، حيث أنّ التأثيرات المتزايدة على المجتمعات منخفضة الدخل والمهمشة والنائية والمحرومة من حقوقها، مثل كثير من أفراد المجتمع السوري في الريف والمدن، كلها عوامل تؤدي إلى تعميق نقاط الضعف وعدم المساواة القائمة بالفعل: من ضعف قدرة الرعاة في البادية السورية على التصرف بقطعانهم ومقاومة تأثير الجفاف، إلى محدودية فرص سكان الأحياء الفقيرة وأولئك في الضواحي الهامشية في المدن الكبرى - دمشق وحلب - للتعامل مع آثار الكوارث مثل فقدان مياه الشرب والسكن، وصولاً إلى صغار المزارعين جنوب سوريا وغربها وشمالها الذين يتعرض أمنهم الغذائي وسبل عيشهم الوحيد للتهديد من جراء أشد موجة جفاف منذ عقود.

في منطقة الجزيرة شرق البلاد، زاد الجفاف سوءاً انخفاض منسوب نهر الفرات، شريان وخزّان سوريا المائي والغذائي، نتيجة تزايد أعداد السدود التركية على منابع الفرات، واستهلاك تركيا للحصة المائية السورية. انخفضت كمية الوارد المائي السوري دون النصف (200 متر مكعب/ ثانية) بدلاً عن (500 م.م / ثانية)، ما حوّل مساحات واسعة إلى أراضٍ مهملة زراعياً تظهر عليها علامات التصحر.

في كثير من قرارات السلطات السورية المختلفة تمّ تجاهل أصوات وحاجات الفئات الأكثر ضعفاً لفترة طويلة، في حين لا يتم التعامل - وعلى مختلف المستويات - مع تغير المناخ باعتباره أزمة أصلاً، ناهيك عن اعتباره أزمة للعدالة في بلاد تعاني أخطار التقسيم.

تشير أنباء رسمية من مدينة حلب وريفها، إلى تسجيل حالات إصابة بالكوليرا نتيجة الشرب من مياه ملوثة...

خفضت مجريات الحرب، وقطع مساحات غابية وحراجية كثيرة في سوريا، مساحات الغابات الى ما دون 1 في المئة من مساحة البلاد. أثّر ذلك على مستوى الهواء النقي ككل، وهو ما سيؤثر لاحقاً على هطول الأمطار ويتسبب بارتفاع جديد في درجة الحرارة وقلة الوصول لمياه الشرب، كما سيؤثر على البلدان المجاورة باعتبار سوريا من أكثر البلدان خضرةً بين دول المنطقة، وهذا بالإجمال سيؤدي لتغيير في المناخ على المستوى متوسط الأمد.

كل المناطق السورية تعاني من تأثيرات التغيرات المناخية، في الهواء والماء والطقس والغذاء والحياة، وتبعاً لعلاقات هذه الجغرافيا بعضها ببعض، فإن المتوقع مستقبلياً، تصاعد الطفرات المناخية حدوداً غير قابلة للعكس. فجفاف الأنهار الداخلية والينابيع وتدمير الغطاء النباتي، سيجعل بيئتنا السورية صحراوية، مما يعني زيادة حدة الصراعات بين هذه الجغرافيات على الموارد، كما حدث بشأن القمح. وستوجّه الصراعات مسارات الهجرة الداخلية، وتؤثر كثيراً على استقرار الدولة نفسها وكيانها الوطني المهدد أصلاً.

الهجرة الداخلية / البينية في طريقها للتحول من حالة كامنة إلى حالة عمومية. وكمثال، فقد أعلن المكتب المركزي للإحصاء أن عدد سكان مدينة حماة، وهي مدينة متوسطة الحجم تقع وسط البلاد، قد بلغ العام الحالي 673 ألفاً حسب آخر بيان لانتخابات الإدارة المحلية، في حين كان عدد السكان بحدود نصف الرقم السابق العام 2018.

لقد كان اعتماد اقتصاد السوق على حساب الزراعة (والصناعة) منذ مطلع التسعينيات الفائتة، والذي اشتدت وتيرته بعد ذلك في محطات متعددة، اعتماداً لتلك "الفلسفة" الاقتصادية الجديدة، والتجاهل الذي أحاط بكارثة الجفاف الشديد في مناطق شمال شرق سوريا بين أعوام 2005 و2010 وعدم الاهتمام بإيجاد حلول لحياة الناس، بل ووقف المساعدات التي كانت تمنح لهم، قد أدى إلى هجرات متتالية كثيفة وسريعة. ولعل التكدس الهائل في أحياء المدن القريبة لمفقرين نُزعت منهم إلى حد العدم كل مقومات حياتهم المعتادة منذ قرون، قد كان من عوامل الانفجار في 2011.

وهذه التغيرات على العموم، كلها، ستهدد وتنتهك نطاق حياة ملايين السوريين في الحق في الغذاء والصحة والأمن والسكن، لاسيما في غياب أفق معلن للحل السياسي.

محتوى هذه المقال هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.

______________________

1- في حديث لأحد مهندسي المصفاة مع الباحث، وقد طلب عدم ذكر اسمه


وسوم: العدد 518

للكاتب نفسه