عدم التدخل بـ"طعم التدخل" في الأزمة العراقية

عزل الأزمة العراقية الراهنة، عن محيطها والعالم، رؤية أقل ما يقال عنها إنها قاصرة وسطحية وتفتقر للعمق، فلو لاحظنا تزامن الأزمة السياسية الحالية في العراق، مع تعقيدات مفاوضات الملف النووي الإيراني، وتزايد ضغوط الحرب الروسية الأوكرانية على أوروبا، وتفجر الأحداث العسكرية في سوريا وفلسطين، لعلمنا أن التوقيت ليس بريئا وأن التزامن لم يكن صدفة
2022-09-01

شارك

أنهى زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، الصراع المسلح بين مناوئيه وأنصاره، عبر خطابه الأخير الداعي للانسحاب من المنطقة الخضراء التي شهدت في الساعات الماضية أعمال عنف دامية، في فصل من فصول الأزمة السياسية التي ستقترب من إنهاء عامها الأول، بما لا يعني إنهاء جذورها التي تعود إلى تركيبة النظام الداخلي وارتباطاته الإقليمية والدولية.

لا يهمني هنا الاستغراق في شرح فصول الأزمة محلياً، بقدر تعلق الموضوع بالمتغيرات الدولية والإقليمية الفاعلة في تأجيجها أو تصفيرها، فعزل الأزمة العراقية الراهنة، عن محيطها والعالم، رؤية أقل ما يقال عنها إنها قاصرة وسطحية وتفتقر للعمق، فلو لاحظنا تزامن الأزمة السياسية الحالية في العراق، مع تعقيدات مفاوضات الملف النووي الإيراني، وتزايد ضغوط الحرب الروسية الأوكرانية على أوروبا، وتفجر الأحداث العسكرية في سوريا وفلسطين، لعلمنا أن التوقيت ليس بريئا وأن التزامن لم يكن صدفة.

إن من شأن الربط بين تلك الملفات، إظهار صورة واضحة لمسببات الأزمة العراقية الحالية وآفاق نهاياتها، إذ أن الملف النووي الإيراني وصل إلى مراحل حاسمة رغم تعقيداته الكبيرة، في وقت بدت فيه أوروبا قلقة بشدة من قطع إمدادات الغاز والنفط الروسيين بفعل العقوبات المتبادلة بين الطرفين نتيجة الحرب الأوكرانية، في ظل إعلان النرويج تقليص صادراتها من الغاز بسبب أعمال الصيانة التي ستبدأ في أيلول سبتمبر المقبل، ومع اقتراب فصل الشتاء الذي ستزداد معه الحاجة إلى الطاقة، ما جعل أوروبا تتجه إلى دول الشرق الأوسط، حيث بدأت فعليا باستيراد كميات إضافية من النفط بواقع مليون برميل يوميا من العراق والسعودية، بدءا من تموز يوليو الماضي، حسبما أفادت مجلة "بلومبرغ" الشهيرة.

القلق المتزايد من مآلات أزمة الطاقة، دفع دول الاتحاد الأوروبي للإسراع بحسم صفقة الملف النووي الإيراني وتذليل العقبات التي تعترضه، وحل الخلافات بين الطرفين الرئيسين، وهما الولايات المتحدة وإيران، وذلك لتحقيق نقاط عدة، أبرزها تعزيز سوق الطاقة بمجهّز واعد (وهي إيران) من شأنه الحفاظ على استقرار أسعار النفط وضمان عدم فورتها مجددا، والمساعدة في خفضها تدريجيا، بالإضافة إلى عامل آخر لا يقل أهمية، وهو الاستفادة من دور طهران في تهدئة التوتر بمنطقة الشرق الأوسط، لدراية الأوربيين بثقلها كلاعب أساسي في دول المنطقة الغنية بالنفط، وأهمها العراق الذي يرفد السوق العالمية بنحو 3.5 ملايين برميل نفط يوميا، يطمح لزيادتها إلى أكثر من الضعف مستقبلا، إذ لن يكون من مصلحة الغرب تفجر أزمة من شأنها إشعال سوق النفط العالمية.

هذا كله جعل أوروبا تنظر إلى الاتفاق النووي مع إيران كمنقذ لها من "الابتزاز الروسي"، حتى أن واشنطن وللمضي بهذا الاتفاق، قدمت "تنازلات" أغضبت إسرائيل مؤخرا (التي ردت بقصف كثيف في 5 آب أغسطس على أهداف إيرانية في سوريا وفلسطين)، ما جعل إيران تتلقف الفرصة في الوقت المناسب، وتسعى لسياسية الترغيب والترهيب عبر زيادة الضغط على الغرب، حيث قال مستشار الوفد المفاوض الإيراني محمد مرندي، قبل أيام، إن "أوروبا على أبواب الشتاء والولايات المتحدة يجب أن تراعي وضعها، وإيران مستعدة لتزويدها بالغاز"، فاتخذت الجمهورية الإسلامية خطوة بدت قاسية تجاه القارة العجوز، تمثلت برفع يدها عن بعض الملفات التي تمس أمنها الاقتصادي، وقد بات ذلك واضحا من خلال عدم تدخلها في الأزمة العراقية التي تفاقمت فجأة ووصلت إلى مرحلة خطيرة في الساعات الماضية، أدت لغلق آبار نفطية في محافظات الجنوب، والتلويح بإيقاف تدفق البترول العراقي للأسواق العالمية، وهو بيت القصيد في الأزمة الراهنة، والذي يفسر عدم تدخل إيران لأول مرة منذ قيام العملية السياسية في عراق ما بعد 2003، في محاولة تبدو أقرب لاستثمار الورقة العراقية في مفاوضات الملف النووي، أو ما يمكن وصفه بأنه "عدم تدخل" بـ"طعم التدخل"، وهو ما شكل ضغطا أكبر على دول الغرب التي سارعت بالإعراب عن قلقها العميق مما آلت إليه الأوضاع في العراق بعد الاقتتال الذي اندلع فجأة في المنطقة الخضراء بين مسلحي التيار الصدري ونظرائهم في الإطار التنسيقي، وسرعان ما وصل إلى شوارع العاصمة والمحافظات الجنوبية، ما يبدو أنه دفع دول الغرب للقبول ببعض شروط إيران، مقابل تدخلها لتهدئة التوتر الأمني، فالغرب لم يعد مستعدا لتقبل زلزال جديد في أسواق الطاقة.

تشير آخر المعلومات المسربة من مفاوضات الملف النووي، إلى أن الوسيط الأوروبي كانت مقتنعا بالصيغة الأخيرة للاتفاق النووي التي أرسلتها الولايات المتحدة يوم الأربعاء الماضي، وحثه طهران على الإسراع بتوقيع الاتفاقية، وهو ما أزعج الأخيرة، بسبب رفض بعض مطالبها، وأبرزها إنهاء عمل الوكالة الدولية للطاقة الذرية لديها، على الرغم من تضمين الصيغة النهائية الجزء الأكبر من مطالبها التي تشمل رفع العقوبات وإطلاق الأموال المجمدة، فضلا عن السماح لها بتصدير 50 مليون برميل من النفط، بالإضافة إلى الامتيازات الأخرى، لكن طهران التي عودتنا على استثمار النفس الأخير، تأنت كثيرا في الرد على تلك المسودة، الأمر الذي أغضب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي يشعر بضغط كبير لحل أزمة الطاقة في بلاده وأوروبا عبر خطوات عدة شملت اتفاقات مع بلدان مختلفة كان آخرها الجزائر، ولأن الانتهاء سريعا من الاتفاق النووي، يشكل أولوية بالنسبة له، حاول الضغط أكثر على إيران من خلال مطالبتها السبت الماضي، بالإسراع في الموافقة عليه، انطلاقا من قناعته بأن الصيغة الأخيرة جاءت لصالحها أكثر، وأن لا مبرر لأي تأخير، لكن مسؤولا إيرانيا رد عليه أمس الأول الأحد، واتهمه بالعمل على عرقلة الاتفاق في خطوة زادت من تعقيدات الملف.

بعد ذلك بساعات، وبصورة مفاجئة، أعلن المرجع الديني المقيم في قم الإيرانية كاظم الحائري عن اعتزاله المرجعية الدينية، في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ المرجعيات الشيعية، وطالب مقلديه من أبناء التيار الصدري بالرجوع إلى المرشد الإيراني علي خامنئي، في محاولة لاستفزاز الصدر وتهييج الشارع الملتهب أكثر، وفي توقيت محرج، تسبب بضرب الاستقرار النسبي في العراق، وأدى لاندلاع نزاع دموي راح ضحيته 12 عراقيا من جميع الأطراف المتصارعة، وإغلاق آبار نفطية أقلقت دول الغرب من حدوث زلزال سياسي واقتصادي جديد في أهم بقعة للطاقة في العالم.

إن تركيبة النظام السياسي في العراق بعد 2003 أتاحت لكبار اللاعبين فيه الاستفادة منه كساحة حرب خاضعة للمساومات الإقليمية والدولية، ورغم خروجه بالكاد من صراعات دموية قبل سنوات، إلا أنه ظل كورقة بيد أصحاب النفوذ الأكبر وبينها إيران التي تترقب الخروج بأفضل صيغة لـ"اتفاق نووي" طال انتظاره وكثرت تعقيداته، حتى أرغمت الولايات المتحدة على العودة إليه في ظل متغيرات كبيرة طالت المنطقة والعالم.

إن الدول الأكثر نفوذا في عراق ما بعد 2003، سعت بكل قوتها إلى إبقاء الحال على ما هو عليه من التفكك وفقدان البوصلة، مع الحفاظ على استقرار نسبي يمكنها من تمرير مصالحها، وهذا ما يبقيه ورقة قوية في المفاوضات الدولية والإقليمية، ولن يخرج منها طالما ظل النظام السياسي قائما دون إصلاح أو ترقيع، وأن ما حدث أمس واليوم، هو رسالة للجميع بإمكانية تكراره في وقت لاحق، ولأي ظرف آخر، خصوصا وأن الاتفاق المزمع توقيعه بين الدول الكبرى وإيران، سيكون مؤقتا، مدته أربعة شهور قابلة للتقييم.


وسوم: