دماء تُسفك في طرابلس الليبية: المجتمع الدولي أول المُدانين

اكتفى "المجتمع الدولي" بإدارة الصراع، ولم يكن يبحث عن حلول. وهو تجنب منح "الشرعية" في ليبيا لأي طرف، فلم يسحب الاعتراف بـ "حكومة الوحدة الوطنية" ولم يدعها إلى الامتثال لقرارات البرلمان وتسليم السلطة بشكل سلمي - خاصة بعد نهاية العمل بخارطة الطريق في حزيران/ يونيو الماضي – ولم يطلق وساطة لتقريب وجهات النظر بين الفرقاء وتجنيب العاصمة الحرب.
2022-09-01

صغيّر الحيدري

صحافي من تونس


شارك
اشتباكات في شوارع طرابلس، ليبيا.

انتهت المعارك التي دارت رحاها بين الميليشيات الموالية لرئيس الحكومة المنبثقة عن البرلمان الليبي فتحي باشاغا ورئيس حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة عبد الحميد الدبيبة في العاصمة طرابلس، لكن باب التأويلات لم يُغلق بعد بشأن ما حدث.

فما حدث كان صادماً سواء على مستوى الخسائر البشرية – 32 قتيلاً و159 جريحاً -أو بخصوص المسارات الجديدة التي أخذتها الأزمة. وتمحورت الأسئلة التي لا تزال تبحث عن أجوبة حاسمة حول تعيين الرابح من هذه المواجهة الدامية، وعما سيلي. لكن السؤال الأهم يدور حول هوية المسؤول عما حدث؟ وحول إمكان تفادي الاشتباك.

"ضربة استباقية"

بعيداً عن حسابات الربح والخسارة، فإن الاشتباكات التي بدأت منذ مساء الجمعة 26 آب/أغسطس كان قد تم التمهيد لها! حبست العاصمة الليبية أنفاسها طيلة أسابيع على وقع التحشيد والتحشيد المضاد بين قوات باشاغا وقوات الدبيبة، وسط غياب تام لأي تحرك قادر على تجنب المواجهة.

بدأت خارطة التحالفات العسكرية تتغير في المنطقة الغربية التي تهيمن عليها الميليشيات، منذ تكليف باشاغا من قبل البرلمان - الذي يتخذ من طبرق شرقي البلاد مقرا له - برئاسة الحكومة الجديدة خلفا للدبيبة في شباط/ فبراير 2022.

وقد تيقن باشاغا من أنه لن يدخل طرابلس بشكل سلمي بعد أن رفض الدبيبة تسليم السلطة، ما جعله يحاول اختراق التحالف العسكري الذي يقيمه رئيس "حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة" خاصة في طرابلس بما أن كل الحلول – بما فيها ابتزاز باشاغا وحليفه قائد الجيش المشير خليفة حفتر بالنفط بعد إغلاق الحقول في نيسان/ أبريل الفائت - لم تفلح في إجبار الدبيبة على التسليم.

تثير المواقف الباهتة للقوى الدولية والإقليمية أسئلة حول المصالح والحسابات التي تقف وراءها. وفي المطروح أولاً وقبل كل شيء موضوع النفط في ليبيا والسيطرة عليه وكيفية إدارة تدفقه، وموضوع الصراع مع روسيا والصين في إفريقيا، ومواضيع الهجرة غير النظامية وسوى ذلك. 

نجح باشاغا بالفعل في استمالة مدير الاستخبارات العسكرية السابق اللواء أسامة الجويلي الذي كان له مسارٌ عسكريٌ مميز، سواء عندما قاد قوات المجلس العسكري في الزنتان التي ألقت القبض في 2011 على سيف الإسلام القذافي، ابن الرئيس، أو عندما قاد عملية التصدي للجيش الليبي في حملته للسيطرة على طرابلس في العام 2019، ما جعله يتولى مناصب مرموقة على غرار وزارة الدفاع وإدارة الاستخبارات العسكرية...

سهّل الجويلي عملية دخول باشاغا في أيار/مايو الفائت إلى طرابلس والمكوث فيها لساعات ليلاً قبل أن يغادر وسط اشتباكات بين قواته وقوات الدبيبة.

منذ ذلك الحين قرر الدبيبة قصقصة أجنحة باشاغا في العاصمة طرابلس، أو تلك التي يمكن وصفها بـ"الخلايا النائمة" أو المتواطئة معه التي يمكن أن تقود انقلاباً ضده في أي لحظة، فقام في خطوة أولى بإقالة الجويلي الذي خرج بعد ذلك عن صمته ليعلن المواجهة المفتوحة مع رئيس الحكومة في طرابلس.

ونجح باشاغا في استقطاب قوى أخرى إلى معسكره مثل "كتيبة ثوار طرابلس" بقيادة هيثم التاجوري الذي بدأ الاشتباك مع قوات الدبيبة ليلة هذه الجمعة الطويلة على سكان طرابلس.

رد الدبيبة ودفع بقواته لتطهير طرابلس بشكل نهائي من فلول قوات باشاغا، ونجح بالفعل في إطاحة تلك الميليشيات حيث فقدت "كتيبة ثوار طرابلس" كافة مقراتها. وبينما كان الجميع يترقب ما ستؤول إليه المواجهة بين قوات الدبيبة والتاجوري، التحق الجويلي بأرض المعركة عندما دعا قواته إلى التوجه نحو العاصمة.

بعيداً عن حسابات الربح والخسارة، فإن الاشتباكات التي بدأت منذ مساء الجمعة 26 آب/أغسطس كان قد تم التمهيد لها! حبست العاصمة الليبية أنفاسها طيلة أسابيع على وقع التحشيد والتحشيد المضاد بين قوات باشاغا وقوات الدبيبة، وسط غياب تام لأي تحرك قادر على تجنب المواجهة. 

كانت النية تتجه لمساندة "كتيبة ثوار طرابلس" في قيادة ما يمكن تسميته بالانقلاب الداخلي على الدبيبة، واقتحام طرابلس كما كانت تخطط له حكومة باشاغا منذ فترة. لكن الدبيبة تحرك ليلحق هزيمة نكراء بالجويلي حيث قصفت قوات "حكومة الوحدة الوطنية" بالطيران المسيّر قواته التي أُرغمت على التراجع إلى مصراتة من حيث قدمت، وفقدان كل معسكراتها في العاصمة.

شكلت هذه الهزيمة المزدوجة للجويلي والتاجوري، على الرغم من الهالة الإعلامية التي أحيطت بتهديداتهما، ضربة استباقية من الدبيبة لباشاغا والقوات المساندة له، حيث عزز الرجل الذي يرفض أي تسليم للسلطة قبل إجراء الانتخابات، سطوة الميليشيات الداعمة له على العاصمة وحصن بذلك موقعه فيها.

تواطؤ دولي

صحيح أن كل الأسئلة التي تزاحمت بعد اشتباكات طرابلس الأسبوع الماضي كانت حول ما إذا كانت هناك جولة جديدة للتصعيد العسكري في ليبيا، أم أن الدبيبة نجح في وأد مشروع الحكومة الجديدة بقيادة باشاغا الذي بات واضحاً غضب البرلمان، أبرز حلفائه، عليه لفشله في دخول العاصمة.

لكن التساؤل الأبرز هو: هل كان من الممكن فرملة القوى المتناحرة على تخوم طرابلس وتجنب الحصيلة الكارثية للاشتباك الذي وقع، وهو أخطر اشتباك منذ حملة الجيش الليبي على طرابلس في 2019.

الثابت أن كل المؤشرات منذ أشهر كانت تؤكد أن باشاغا لن يقف مكتوف الأيدي أمام جعل حكومته حكومةً موازية، بلا أي صلاحيات ولا موارد، باعتبار أن المؤسسات السيادية، ومنها المصرف المركزي، تتواجد في العاصمة التي يتحصن فيها الدبيبة، وهو ما جعله يحشد ميليشياته للاستيلاء على السلطة بالقوة.

مقالات ذات صلة

اكتفى "المجتمع الدولي" بإدارة الصراع، وليس بالبحث عن حلول. وهو تجنب منح "الشرعية" في ليبيا لأي طرف، فلم يسحب الاعتراف بـ "حكومة الوحدة الوطنية" ولم يدعها إلى الامتثال لقرارات البرلمان وتسليم السلطة بشكل سلمي - خاصة بعد نهاية العمل بخارطة الطريق في حزيران/ يونيو الماضي – ولم يطلق وساطة لتقريب وجهات النظر بين الفرقاء وتجنيب العاصمة الحرب.

كانت نية حكومة باشاغا تتجه لمساندة "كتيبة ثوار طرابلس" في قيادة ما يمكن تسميته بالانقلاب الداخلي على الدبيبة، واقتحام طرابلس. لكن الدبيبة تحرك ليلحق هزيمة نكراء بالجويلي حيث قصفت قوات "حكومة الوحدة الوطنية" بالطيران المسيّر قواته التي أُرغمت على التراجع إلى مصراتة من حيث قدمت، وفقدان كل معسكراتها في العاصمة.  

لكن القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا، بالإضافة إلى تركيا، ارتأت مسك العصا من المنتصف بحيث لا اعتراف بباشاغا وحكومته ولا إعلان صريح بالتمديد للدبيبة.

وبدا ذلك جلياً في البيان الذي أصدرته السفارة البريطانية في طرابلس بينما كان الرصاص يلعلع في الشوارع حيث قالت: "تدعو المملكة المتحدة إلى الوقف الفوري للعنف في طرابلس وتدين أي محاولات للاستيلاء على السلطة أو الحفاظ عليها بالقوة".

ينسجم هذا الموقف تماماً مع مواقف الولايات المتحدة التي سارعت هي الأخرى لإصدار بيان باهت لم يتطرق حتى لأصل الصراع الدائر، تجنبت فيه إغضاب أي طرف، والاكتفاء بالدعوة لوضع قاعدة دستورية تُجرى على أساسها الانتخابات... وكأن الحل في ليبيا يقتصر على الانتخابات!

ويثير هذا المواقف أسئلة حول المصالح والحسابات التي تقف وراءها. وفي المطروح أولاً وقبل كل شيء موضوع النفط في ليبيا والسيطرة عليه وكيفية إدارة تدفقه، وموضوع الصراع مع روسيا والصين في إفريقيا، ومواضيع الهجرة غير النظامية وسوى ذلك.

ولذا فلا تجد الميليشيات أي رادع لها سواء قانونياً أو عسكرياً..

تلقى الميليشيات دعماً كبيرا من قبل دول بعينها بحسب تقارير أممية، ناهيك عن وجود قوات أجنبية من روسيا وتركيا.. فالأولى تنشر مرتزقة فاغنر في الشرق الليبي وأغلبها تسيطر على حقول وموانئ النفط، والثانية رسخت موطئ قدم لقواتها ومرتزقتها من جنسيات سورية وعربية في الغرب الليبي.

ومثّلت الفترة الماضية كلها صراع إرادات وأجندات دولية على ليبيا، ومنها ذاك الدائر بين أنقرة وموسكو، اللتان اتفقتا في سوريا وغيرها من بؤر التوتر، لكنهما اختلفتا حول الوضع في ليبيا. فأنقرة يبدو أنها لم تقتنع بباشاغا قائداً جديداً لليبيا على الرغم من التقارب القوي الذي جمع بين الطرفين في السابق عندما كان الرجل وزيراً للداخلية في "حكومة الوفاق الوطني" السابقة.

ويمكن فهم الموقف التركي على أنه رد واضح على التحالف الذي أقامه باشاغا مع قائد الجيش الليبي المشير خليفة حفتر. لذلك لم يستبعد سياسيون ليبيون فرضية أن تكون قوات الجويلي قد تعرضت للقصف بطيران تركي مسيّر.

وكان رئيس البرلمان الداعم لباشاغا، عقيلة صالح، قد قام في الأول من آب/أغسطس بزيارة إلى تركيا لم تثمر أي تغيير في موقف أنقرة لصالح باشاغا على الأقل بشكل معلن. وتتحالف تركيا مع الولايات المتحدة في ليبيا بشكل كبير، لكن أولويات البلدين تختلف، إذ ينحصر اهتمام واشنطن في السبل الكفيلة بإنهاء الحضور الروسي في ليبيا عبر مرتزقة "فاغنر" الداعمة لحفتر.

تلقى الميليشيات دعماً كبيراً من قبل دول بعينها بحسب تقارير أممية، ناهيك عن وجود قوات أجنبية من روسيا وتركيا.. فالأولى تنشر مرتزقة فاغنر في الشرق الليبي وأغلبها تسيطر على حقول وموانئ النفط، والثانية رسخت موطئ قدم لقواتها ومرتزقتها من جنسيات سورية وعربية في الغرب الليبي.  

في المقابل، دعمت موسكو بقوة باشاغا منذ البداية ولا يُستبعد أن يكون حليفها حفتر قد كرس ضغوطاً عليه حتى يجازف بدخول طرابلس وسط أنباء متصاعدة عن تقارب بينه وبين خصمه الدبيبة. ولكن ذلك الدخول بالقوة كان بمثابة انتحار سياسي لباشاغا، خاصة بعد إطلاقه تعهدات بعدم استعمالها. وبرزت بوادر تقارب بين حفتر والدبيبة، وكان تعيين فرحات بن قدارة المقرب من قائد الجيش رئيساً للمؤسسة الوطنية للنفط من قبل رئيس الحكومة في طرابلس أبرز مؤشر على ذلك.

ويبدو أن الدبيبة نجح أيضاً في جر باشاغا إلى المواجهة حيث استفزه مراراً، ورفض نداءاته المكثفة لتسليم السلطة سلمياً. ورفض الجيش الليبي في أكثر من مرة فكرة دعم باشاغا عسكرياً لدخول طرابلس واقتصرت تصريحات قادته على أن "الجيش سيهب إذا طلب منه الشعب ذلك".

لا وساطات ولا تحذيرات

بالتوازي، غابت الوساطات وحتى التحذيرات الأممية خفُتت، باعتبار أن مجلس الأمن الدولي فشل في عدة مرات في تعيين مبعوث أممي جديد منذ استقالة المبعوث السابق الدبلوماسي السلوفاكي يان كوبيتش في كانون الأول/ ديسمبر 2021 أياماً قبل انهيار الانتخابات، ما أضعف البعثة الأممية بشكل كبير.

ونجحت الدبلوماسية الأمريكية ستيفاني ويليامز، التي شغلت منصب مستشارة خاصة للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا، في تطويق التصعيد لفترة بين الدبيبة وباشاغا، قبل أن تغادر في تموز/ يوليو الماضي منصبها. غياب مبعوث أممي أو حتى مستشار على دراية بخارطة الصراع، عزّز تعطل لغة الحوار بين الفرقاء، ومثّل عاملاً إضافياً لطرفي النزاع للتمادي في السجالات الكلامية، فيما كانت الميليشيات تسخّن الأجواء لاسترضاء الحكام أو لتحصين الدبيبة، وبالتالي تعزيز نفوذها.

وبصرف النظر عن البعثة الأممية والدور الضعيف للغاية الذي باتت تقوم به، فإن الثابت أن الأزمة الليبية وخاصة الصراع على السلطة هناك لم يتصدرا أجندة القوى الإقليمية والدولية حيث اقتصرت حساباتها على النفط الذي قد يشكل أحد مخارج أزمة إمدادات الطاقة التي يواجهها الغرب.

في المحصلة، يُنظر إلى "المجتمع الدولي" كمُدان في أحداث طرابلس بعد أن وقف مكتوف الأيدي أمام الأزمة التي فجرتها عملية سحب الثقة من الدبيبة وتكليف باشاغا خلفا له، واتخاذه مواقف رمادية حتى لا يُغضِب أي طرف، بينما كانت التحشيدات العسكرية قرب طرابلس من الطرفين قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في أي لحظة بوجه سكان العاصمة. ويدان "المجتمع الدولي" أيضاً بسبب السياسات التي انتهجها منذ سقوط القذافي والقائمة على تثبيت قبضة الميليشيات على البلاد، وإدارة حركتها، وهي التي تتناحر من أجل تعزيز تموقعاتها.

والمؤكد أن الصراع على السلطة لم ينته بعد، وقد تكون الأيام المقبلة حُبلى بالمفاجآت سواء بإطلاق وساطة من تركيا للحفاظ على الهدوء في طرابلس وتحصين مصالح أنقرة في الغرب الليبي (وقد دعت اليوم باشاغا لزيارتها)، أو بعودة هذا الأخير مجدداً إلى السعي لدخول العاصمة.. وليس من المرجح أن تلعب القوى الدولية الأخرى المنخرطة في الصراع الليبي أي دور لمنع حدوث اشتباك جديد. 

مقالات من ليبيا

القاتل في ليبيا

2023-09-13

الليبيون يعرفون أن المشكلة تكمن في مكان آخر: تنبأ بها عام 2022 تقريرٌ كتبته إدارة ليبيّة شبحيّة: "يجب علينا بشكل عاجل صيانة وتقوية سدَّي درنة، وهناك حاجة إلى سدّ ثالث،...

للكاتب نفسه