المواجهات القبلية بالسودان: مسألة الأرض أم لعنة السياسة؟

مع كل نقطة دم تسيل بين المكونات القبلية، تشير أصابع الاتهام على الدوام إلى طرف سياسي رئيسي. هذا التسييس الحاد لقضايا الأرض وضع السودان خلال السنوات الأخيرة أمام شبح انهيار الدولة التي تراجعت مظاهرها حد التلاشي في بعض المناطق بعد "ثورة ديسمبر 2018"، بينما تطل القبيلة بكل سطوتها مع سعي مكونات عسكرية لتحويلها إلى حواضن لمشاريع سياسية.
2022-07-27

شمائل النور

كاتبة صحافية من السودان


شارك
السودان، الاشتباكات القبلية في ولاية النيل الازرق

كما انتشار النار في الهشيم، تتوسع رقعة النزاع القبلي في أطراف السودان. وهو يبدأ عادة بقضية جنائية طرفاها من مكونيْن عرقييْن مختلفيْن، وسرعان ما يتحول الأمر إلى تحشيد قبلي وتحشيد قبلي مضاد، ثم تقع المواجهات بالأسلحة البيضاء، ثم تظهر لاحقاً الأسلحة النارية. وفي الأثناء تنسحب القوات النظامية تماماً لتخلو الساحة للأطراف المتقاتلة، ثم ينتهي الوضع بضحايا بالعشرات، ثم يطفو للسطح الحديث عن "السكان الأصليين" و"الوافدين"، وسط خطاب كراهية متبادَل تعج به مواقع التواصل الاجتماعي.

هذا المشهد بات راتباً. وهو حدث في شرق البلاد بمدينة بورتسودان بين مكوني "النوبة" و"البني عامر" خلال أربع موجات اقتتال منذ سقوط البشير في نيسان/أبريل 2019. كما حدث في غرب البلاد بين "العرب" و"المساليت". وهو أيضاً ما حدث خلال هذا الشهر في جنوب شرق البلاد في ولاية النيل الأزرق المتاخمة للحدود مع إثيوبيا بين قبيلتي "الهوسا" و"البرتا".

حول الموارد والهوية

انتقلت تداعيات أحداث النيل الأزرق إلى عدد من مدن السودان بما في ذلك الخرطوم، حيث تضامن المئات من أبناء "الهوسا" مع ضحايا بني جلدتهم بالنيل الأزرق. وتزامناً مع هذه الأحداث برزت إلى السطح قضية إمارة الهوسا. والإمارة أو "النظارة" هي نظام إدارة أهلية معروف في السودان، يأتي على رأسه أمير أو ناظر وتتطلب إقامة النظارة ملكية أرض، وهو الأمر الذي يمثل أسّ الأزمة.

تمتد شعوب "الهوسا" من السنغال إلى السودان، ولا توجد رواية قطعية بشأن تاريخ  دخولهم السودان، وتقدر أعدادهم بثلاثة ملايين، يتمركزون في المناطق الزراعية حيث يمارسون مهنتهم الرئيسية.

أقام "الهوسا" في ولاية النيل الأزرق إمارة لهم العام الماضي وتمّت تسمية أميرهم، لكن عدداً من القبائل الرئيسية هناك، على رأسها "الهمج" و"الفونج" ترفض ذلك باعتبار أن "الهوسا" وافدون وليسوا "سكاناً أصليين"، ولا يحق لهم إقامة نظارة في أرض غيرهم. وتقول بعض الروايات إن مكوناً قبلياً بالنيل الأزرق سعى في وقت سابق للمطلب نفسه لكن "الفونج" سارعوا إلى إجراء اتصالات مع الحكومة الاتحادية – وقتذاك - وانتهى الأمر دون مواجهات. وأنه في شرق السودان، سعت بعض المكونات العربية المنتقلة بالأصل من الجزيرة العربية، إلى إقامة نظارة لكن المجموعات الرئيسية هناك قاومتها للأسباب نفسها.

الذي حدث في ولاية النيل الأزرق الحدودية ليس جديداً وليس قاصراً عليها، بل تماثله العديد من الحوادث التي تنطلق أساساً من مسألة الأرض أو بشكل آخر من النزاع بين "السكان الأصليين" و"الوافدين". ولأن إدارة الاستعمار البريطاني قسمت خارطة البلاد على أساس جغرافيا القبيلة، تاركة خلفها إرثاً كبيراً للسطوة الأهلية، فإن هذا الوضع اصطدم بمفاهيم الدولة الحديثة التي تقوم على أساس المواطنة، واصطدم كذلك بسيادة الدولة على الأرض. ويظهر ذلك في قوانين الاستثمار وما شابهها.

يظهر دور النظام القبلي أو الأهلي عادة في حل النزاعات الأهلية وتسوية الخلافات حول الأرض، خاصة في مسألتي الزراعة والرعي بشكل رئيسي، حيث تنشأ الاحتكاكات عادة بسبب تلك الأنشطة الاقتصادية. كما أنها شملت مؤخراً أنشطة التعدين. وللإدارة الأهلية تأثير في مجتمع القبيلة يفوق تأثير سلطات الدولة، لكن مساحات الثقة بينها وبين القبيلة ضاقت إثر التوظيف السياسي الصارخ، فتراجع هذا التأثير.

يبدأ النزاع عادة بقضية جنائية طرفاها من مكونيْن عرقييْن مختلفيْن، وسرعان ما يتحول إلى تحشيد قبلي، ثم تقع المواجهات بالأسلحة البيضاء، ثم تظهر لاحقاً الأسلحة النارية. وفي الأثناء تنسحب القوات النظامية تماماً لتخلو الساحة للأطراف المتقاتلة، ثم ينتهي الوضع بضحايا بالعشرات، ثم يطفو للسطح الحديث عن "السكان الأصليين" و"الوافدين"، وسط خطاب كراهية متبادَل تعج به مواقع التواصل الاجتماعي.

الذي يحدث في ولاية النيل الأزرق الحدودية ليس جديداً وليس قاصراً عليها، بل تماثله العديد من الحوادث التي تنطلق أساساً من مسألة الأرض ومن النزاع بين "السكان الأصليين" و"الوافدين". وكانت إدارة الاستعمار البريطاني قسمت البلاد على أساس جغرافيا القبيلة، فتركت خلفها إرثاً كبيراً للسطوة الأهلية، ما يصطدم بمفاهيم الدولة الحديثة التي تقوم على أساس المواطنة، وبسيادة الدولة على الأرض. 

ولا يزال زعماء القبائل في كثير من المناطق يحتفظون بسلطتهم على الأرض والسكان. ويتجلى الصراع حول الأرض عادة في أرياف البلاد، وكلما غابت مظاهر الدولة المدنية استعادت القبيلة سلطتها التقليدية. 

وإن كانت الإدارات الأهلية حُلّت بقرار حكومي في السبعينيات الفائتة وتراجعت سطوتها بشكل كبير، إلا أن نظام الإنقاذ برئاسة عمر البشير (1989 - 2019) أيقظ هذا المارد بتوظيفه سياسياً، ما أحدث حالة استقطاب قبلي حاد امتدت لعقود، خدمت بشكل واضح ذلك النظام خاصة في المعارك الكبيرة مثل الانتخابات. لكن ذلك خلّف أثراً كبيراً طفا على السطح بعد سقوط البشير مستفيداً من حالة التراخي الأمني التي تعقب الثورات في البلدان الخارجة من أنظمة ديكتاتورية، كحالة السودان. كما أن المكون العسكري حاول وراثة الإدارة الأهلية في رحلة بحثه عن حواضن. وفي أوج عملية التغيير بعد منتصف عام 2019 حشد نائب رئيس المجلس العسكري – آنذاك - محمد حمدان دقلو (حميدتي) الإدارات الأهلية في السودان والتي حضرت جميعها إلى الخرطوم ومكثت أياماً طويلة، وظل المكون العسكري يستقبل على الدوام وفود الإدارات الأهلية في السودان، ولم يعد خافياً دعمه لمكون ضد آخر. على سبيل المثال، وفي إطار التنافس المحتدِم بين قادة القطبين العسكرييْن الرئيسين في السودان (الجيش و"الدعم السريع")، ظهرت في شرق السودان خلال موجات الاقتتال بين "النوبة" و"البني عامر" شبهة انحياز كل طرف من الجهتين العسكريتين لمكون قبلي، وكان ذلك ظاهراً إلى درجة أن الانتشار العسكري في الأحياء التي شهدت الاقتتال طاله الفرز على هذا الأساس: كانت قوات الجيش تحرس مناطق "النوبة"، وقوات "الدعم السريع" تحرس مناطق "البني عامر"! وفي شرق السودان قام جزء من "مجلس نظارات البجا" الذي يقوده الزعيم القبلي محمد الأمين ترك، وبالتنسيق مع العسكريين، بقيادة الاحتجاجات ضد حكومة حمدوك، ونفذ عدداً من الإغلاقات للميناء والطريق القومي واستمر بذلك حتى إسقاط الحكومة. 

الحكومات المركزية وخلخلة النسيج الاجتماعي

لما كانت الأرض تمثل مورداً رئيسياً في السودان، فقد كانت على الدوام محل نزاع. ففي إقليم دارفور الذي شهد سنوات من الحرب ولا يزال يغلي بالصراعات القبلية، تداخل الأمر جراء الأنماط المختلفة من الهجرات السكانية بسبب موجات الجفاف. ولأن الزراعة والرعي تمثلان أنشطة رئيسية للسكان هناك، فقد اختلط الحابل بالنابل وتخلخل مفهوم الأرض أو "الديار"، الأمر الذي خلق توترات واحتكاكات اجتماعية تطورت إلى مواجهات قبلية مسلحة بين أصحاب الأرض ("السكان الأصليين") و"الوافدين الجدد".

وبجانب العوامل الانتاجية، فإن الحكومات المركزية لعبت دوراً فعالاً في حدوث مثل هذه الاحتكاكات. تشير بعض الوثائق إلى أن حكومة البشير قسمت أرض قبيلة المساليت ("دار مساليت") بغرب دارفور إلى نحو 20 إمارة منتصف تسعينات القرن العشرين، ومنحت فيها القبائل العربية غالبية هذه الإمارات، وهو الأمر الذي كان سينتهي بلا شك إلى منح تلك القبائل سلطات داخل أرض مكون عرقي آخر، ما يقود إلى الاحتكاكات ثم المواجهات.

حلّت الإدارات الأهلية بقرار حكومي في السبعينيات الفائتة وتراجعت سطوتها بشكل كبير، إلا أن نظام الإنقاذ برئاسة عمر البشير (1989 - 2019) أيقظ هذا المارد بتوظيفه سياسياً، ما أحدث حالة استقطاب قبلي حاد امتدت لعقود، خدمت بشكل واضح ذلك النظام خاصة في المعارك الكبيرة مثل الانتخابات.

ولما كان السودان المترامي الأطراف يعاني خللاً بنيوياً في توزيع التنمية، حيث تنعدم الخدمات الأساسية في أطرافه، فقد لعب هذا العامل دوراً مهماً في مثل هذه الاحتكاكات، حيث يضطر بعض السكان للانتقال إلى مناطق بعيدة للاستفادة من الخدمات مثل التعليم أو الصحة التي تتوفر في المناطق الكبيرة، والتي تقع بالضرورة ضمن حدود قبائل كبيرة، فتنشأ التوترات بسبب التشارك في هذه الخدمات.

وإن كانت الحكومات المركزية التي تعاقبت على السودان خلال العقود الماضية استقوت بالقبائل العربية في دارفور، إلا أن حكومة البشير بلغت الذروة في هذا الأمر حيث سلّحت بشكل علني المليشيات العربية لصالح حربها ضد الحركات المتمردة المتحدرة من العرقيات الزنجية. ولما كانت قبائل عربية رئيسية في دارفور مسنودة بسلاح وسلطات الحكومة المركزية، أخذ النزاع حول الأرض هناك الطابع السياسي الحاد وتحولت المليشيات إلى دولة داخل الدولة. وليس بعيداً عن سياسات التغيير الديموغرافي، فإن قضية الأرض في إقليم دارفور حالياً أو ما يعرف ب "الحواكير" تمثل قضية جوهرية في أي عملية سلام. وهناك بعض القرى التي هُجّر قاطنوها بفعل الحرب ثم قطنتها مكونات عرقية جديدة.

في تشرين الأول/ أكتوبر 2021 أصدرت وزارة الحكم الاتحادي توجيهاً وزارياً يمنع إقامة النظارات والعموميات الجديدة إلى حين صدور قانون للإدارة الأهلية. جاء القرار بعد رصد "لبعض الجهات" - وفقاً للبيان الرسمي - تقوم بتعيين وتسمية نظارات ومشايخ وعموديات. وفي آذار/مارس 2022 أعلنت السلطات المركزية تشكيل لجنة لترسيم حدود ولايات شرق السودان على أساس قبلي، ما أعاد للأذهان سيناريوهات النزاعات القبلية في دارفور. 

ظهرت في شرق السودان خلال موجات الاقتتال بين "النوبة" و"البني عامر" شبهة انحياز كل طرف من الجهتين العسكريتين لمكون قبلي: كانت قوات الجيش تحرس مناطق "النوبة"، وقوات "الدعم السريع" تحرس مناطق "البني عامر"! وفي شرق السودان قام جزء من "مجلس نظارات البجا"، بالتنسيق مع العسكريين، بقيادة الاحتجاجات ضد حكومة حمدوك، مغلقاً الميناء والطريق القومي، واستمر في ذلك حتى إسقاط الحكومة. 

ومع كل نقطة دم تسيل بين المكونات القبلية، تشير أصابع الاتهام على الدوام إلى طرف سياسي رئيسي. هذا التسييس الحاد لقضايا الأرض وضع السودان خلال السنوات الأخيرة أمام شبح انهيار الدولة التي تراجعت مظاهرها حد التلاشي في بعض المناطق بعد "ثورة ديسمبر 2018"، بينما تطل القبيلة بكل سطوتها مع سعي مكونات عسكرية لتحويلها إلى حواضن لمشاريع سياسية.  

مقالات من السودان

للكاتب نفسه