العيد في السودان… انقطاعات الفرح

لا تشيع بين السودانيين ثقافة التوفير ، كما يشتهرون بحرصهم على الكرم. لكنهم الآن أمام امتحان حقيقي لقيم متوارثة، عُرفوا بها إقليمياً وعالمياً إذ لم يعد بالإمكان إكرام الآخر بذلك السخاء المعهود، ولم يعد بالإمكان الاحتفاء بالمناسبات كما كان يجري في السابق ،واضطر كثير من الناس الى التنازل عن الكثير جداً من مظاهر وطقوس الاحتفال بالأعياد.
2022-07-13

شمائل النور

كاتبة صحافية من السودان


شارك
مراجيح العيد في احدى قرى السودان

كثيراً ما يتردد عند السودانيين بيت شعر المتنبي الشهير ("عيدٌ.. بأية حال عدت يا عيد، بما مضى أم بأمر فيك تجديد") للتدليل على تلاشي مشاعر الفرح في الأعياد، أو للإشارة إلى أن العيد لم يعد إلا يوماً اعتيادياً. هناك من يعتبر القول يحمل نظرة سوداوية تحاول باجتهاد كبح مشاعر الفرح في النفوس، إلا أن الواقع بات يعبّر بشكل صارخ عما كان يجيش في نفس المتنبي، وهو تساؤل واقعي لطالما أن الناس ينتظرون الأعياد لفرد مساحات الفرح التي باتت تضيق لصالح مساحات أخرى خلّفتها التحولات السياسية، والاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها المجتمعات السودانية منذ سنوات.

وتعبّر التهاني والتبريكات التقليدية بين الناس عن التغييرات الكبيرة التي طرأت في السنوات الأخيرة. فعلى سبيل المثال، وفي وقت مضى، لم تكن تلك التهاني تخرج عن الدعاء بالزواج، الذرية، حج بيت الله ولم الشمل لأسر المغتربين والمهاجرين، لكن الهم العام بات الآن يتسيّد التهاني الاجتماعية، بالدعاء للوطن نفسه أن يحفظ من التشظي ومن شرور حاكميه وسط شِقة كبيرة بين الطبقة السياسية والمواطنين.

صلاة العيد في الاعتصام…الثورة مستمرة

رفعت لجان المقاومة بولاية الخرطوم اعتصاماً كان قد نٌفذ في مدن الولاية الثلاث، الخرطوم، بحري وأم درمان. قررت اللجان رفع الاعتصامات عقب صلاة العيد على أن تعاود المقاومة بعد انتهاء عطلته التي ربما تمنح وقتاً أفضل للترتيب والتنسيق. وكانت الاعتصامات التي نُفذت عقب مواكب 30 حزيران/ يونيو جاءت رافضة للانقلاب ومنادية بالحكم المدني الذي لم تتوقف المطالبة به منذ سقوط البشير في نيسان/أبريل 2019.

مثّل سقوط البشير محطة فاصلة في التحولات والتغييرات التي تشهدها البلاد على كافة المستويات. ولا يزال السودانيون يتذكرون أول عيد بعد سقوط البشير، "عيد المجزرة" التي ارتكبت حين فُضّ الاعتصام العام في ساحة مقابلة للقيادة العامة للقوات المسلحة في حزيران/ يونيو 2019 ، بينما كان الجميع يتأهب للاحتفال بعيد استثنائي بعد سقوط البشير، "عيد انتصار إرادة الشعب". وكانت الاستعدادات في ساحة الاعتصام تعانق السماء فرحاً. استيقظ السودانيون قبل يوم من عيد الفطر على بشاعة لا تزال محفورة في النفوس، حيث غدر المجلس العسكري بالمعتصمين أمام القيادة مخلفاً عشرات القتلى. ولأول مرة ينقسم السودانيون في تعيين يوم العيد، حيث أعلن المجلس العسكري -الحاكم آنذاك- يوماً، بينما حدد تجمع المهنيين -قائد الحراك آنذاك- يوماً آخر، فانقسم السودانيون ولا يزالون. منذ ذاك العيد وحتى اليوم لا يزال الحراك الثوري مستمر ولا يزال سفك الدم مستمر، ولا يزال الأفق مسدود... إثر ذلك تحولت الأعياد إلى مجرد أيام عادية عند الكثيرين.

تعبِّر التهاني والتبريكات التقليدية بين الناس عن التغييرات الكبيرة التي طرأت في السنوات الأخيرة. فعلى سبيل المثال، وفي وقت مضى، لم تكن تلك التهاني تخرج عن الدعاء بالزواج، الذرية، حج بيت الله ولم الشمل لأسر المغتربين والمهاجرين، لكن الهم العام بات الآن يتسيّد تلك التهاني بالدعاء للوطن نفسه أن يُحفظ من التشظي ومن شرور حاكميه، وسط شِقة كبيرة بين الطبقة السياسية والمواطنين. 

يدخل عيد هذا العام على السودانيين وسط انقسامات شديدة الحدة ووضع اقتصادي ضاغط على نحو لم يعد محتملاً، ووضع أمني على حافة التفتت في مناطق كثيرة، ووضع سياسي مسدود تماماً، وشارع لا يعرف الفتور. جرت العادة في ماضٍ قريب أن تفتح الأحزاب دُورها لتلقي تهاني العيد وتبادلها، تحتضنها بيوت الزعماء السياسيين الكبار الذين رحلوا تباعاً خلال السنوات الأخيرة. كما جرت العادة أن يكون هناك عيد رسمي في مؤسسات الدولة السيادية مثل القصر الجمهوري أو دار الحزب الحاكم. لكن توارت اليوم هذه المظاهر بشكل كامل، ولا تتعدى التهاني خطاباً مقتضباً بلا روح أو منشوراً في الصفحات الرسمية لمؤسسات السلطة من باب الواجب فقط.

ربما نلاحظ أن المظاهر الاجتماعية لا تزال محتفظة ببعض ممارساتها في الأعياد، لكنها صارت بطعم فرح أقل. اعتاد السودانيون على اتباع عادات راسخة لا تختلف إلا قليلاً بين المدن والريف، مثل ارتداء الزي الشعبي بالنسبة للرجال (وهي الجلابية البيضاء والعمامة).وذ اللافت أن يد الحداثة امتدت لهذا الزي الشعبي الذي كان يقتصر فقط على اللون الأبيض، فاجتاحته فوضى الألوان مع تعدد في التفصيلات والتصاميم الشبابية أو خلط للتراث مع الجديد في تصميم واحد.

أما النساء، وخاصة المتزوجات منهن، فيتزينَ بنقوش الحناء، وتزدحم مراكز التجميل بهنّ في مواسم الأعياد. وهناك حرص شديد على شراء ملابس جديدة، خاصة للأطفال. وحينما كان الوضع الاقتصادي يسيراً لم يكن الناسبكتفون بشراء الملابس بل حتى البيوت كانت تخصص لها ميزانية للعيد لشراء المفارش الجديدة والستائر وتجديد طلاء الحوائط، بل وحتى تغيير بعض أثاث البيت للعيد فتتحول كل قطعة في البيت إلى حلية جديدة. وعند البعض عادات مضحكة مرتبطة بالعيد، من مثل أنه لا ينبغي ترك أي قطعة ملابس متسخة، وقبل ساعات من العيد يجب أن يكون البيت خالٍ منها لأن "العيد لن يرضى عنك"، وهو الاعتقاد ذاته الذي يفرض على الناس ضرورة ارتداء قطعة جديدة مهما قلّت قيمتها، فالمهم أن تكون جديدة. وهناك المخبوزات بأشكالها وأنواعها المختلفة والمشروبات البلدية المتخمرة ، والأخيرة مرتبطة بعيد الاضحى حيث المشروب المعروف شعبياً ب "الشربوت" مصنّع من التمر المتخمر مع إمكانية التحكم في درجة التخمير بحيث لا يصبح مسْكراً، وهو مشروب مثير لجدل الفتاوي الدينية!

في الأعياد يتبادل الجيران الزيارات مباشرة عقب صلاة العيد ثم يتوجهون الى الأهل والأصدقاء في أوقات لاحقة. وقد اعتاد السودانيون على إقامة مناسبات عقود القران والزواج خلال عطلة العيد بحيث يتمكن أكبر قدر من الأهل والأصدقاء من الحضور.أما الآن فلم تعد مناسبات الزواج مرتبطة بالأعياد على هذا النحو، إذ باتت الظروف الخاصة هي المتحكم الرئيسي في مواقيت المناسبات الكبيرة.

لا يزال السودانيون يتذكرون أول عيد بعد سقوط البشير، "عيد المجزرة" التي ارتكبت حين فُضّ الاعتصام العام في الساحة المقابلة للقيادة العامة للقوات المسلحة في حزيران/ يونيو 2019 ، بينما كان الجميع يتأهب للاحتفال بعيد استثنائي بعد سقوط البشير، "عيد انتصار إرادة الشعب". وكانت الاستعدادات في ساحة الاعتصام تعانق السماء فرحاً. ولكنهم استيقظوا على بشاعة لا تزال محفورة في النفوس.

في مواسم الأعياد تزدحم الأسواق الشعبية بالحركة بشكل تضطر فيه السلطات الى إعادة برمجة حركة السير تفادياً للاختناقات المرورية وتفتح الأسواق أبوابها حتى ساعات الصباح. وتتمدد مساحات طقوس العيد كلما خرجنا من المدن الكبيرة نحو الأرياف. وكل هذه المظاهر بدأت في الانحسار بشكل لافت بل أن بعضها لم يعد موجوداً مقارنة بسنوات مضت. فحتى الأرياف تراجعت فيها طقوس العيد، وربما كان ذلك بسبب الهجرات الكثيفة نحو المدن أو لانتقال إيقاع المدينة إلى الريف، وهوما ليس بعيداً عن فلسفة ترييف المدن وتمدين الريف.

تحولات اقتصادية تلقي بظلالها الكثيفة على حياة الناس

مرت تباعاً أربع سنوات على السودانيين مع تحولات ظاهرة أحدثتها" ثورة ديسمبر2018 ". خلال هذه السنوات شهدت المجتمعات السودانية تغييرات جوهرية على المستويات السياسية والاجتماعية، والأهم على المستوى الاقتصادي الذي أثّر عميقاً في حياة الناس بل تحكم حتى في مشاعر فرحهم. وجراء هذا الوضع الاقتصادي الآخذ في الانزلاق نحو الهاوية، يجد السودانيون أنفسهم أمام واقع جديد يتشكل، يفرض المشقة والعنت فرض عين، فلا أحد بإمكانه النجاة من التردي الاقتصادي الذي بات خلال السنوات الأخيرة يطال الفقير والغني، حيث تعاني الكثير من المناطق شحاً أو انعداماً في الخدمات الأساسية.

ولأن السودانيون اعتادوا إشاعة الفرح خلال المناسبات العامة مثل رمضان و الأعياد، فقد ألقت التحولات السياسية - الاقتصادية بظلالها الكثيفة على الحياة الاجتماعية التي باتت هي الأخرى محاصرة بتعقيدات وضغوط كثيرة، استطال أمدها، منذ أن بدأ السودان بتطبيق سياسات صندوق النقد والبنك الدوليين في العام 2013. والسودانيون الذين لا تشيع بينهم ثقافة التوفير كما حرصهم على الكرم، هم الآن أمام امتحان حقيقي لقيم متوارثة منذ سنين، عُرفوا بها إقليمياً وعالمياً حيث لم يعد بالإمكان إكرام الآخر بذلك السخاء ولم يعد بالإمكان الاحتفاء بالمناسبات كما كان في السابق فاضطر كثير من الناس للتنازل عن الكثير جداً من مظاهر وطقوس الاحتفال بالأعياد.

لكن وبالطبع تظل الأعياد مساحة للفرح وإن ضاقت. 

مقالات من السودان

للكاتب نفسه