التعليم في العراق.. ضياع دائم بين أصدقاء الرئيس وأصدقاء الحزب

في العام 2021، خرج العراق من التصنيف العالمي لجودة التعليم: ليس في أدنى مرتبة بل خارج التصنيف!! هنا محاولة لتحديد مظاهر ذلك السقوط المدوي ومسبباته.
2022-06-25

علي فائز

كاتب وباحث من العراق


شارك
جامعة المستنصرية في بغداد تأسست في 1957، الصورة من الانترنت.

لا يختلف مشهد التعليم في العراق عن بقية الأوضاع التي تعيشها البلاد، فنظام المحاصصة الذي رسخ جذوره في العملية السياسية بعد 2003 استطاع أن يبتلع كل شيء ويقذفه كحطام. ووفقاً لمؤشر"دافوس" لقياس جودة التعليم في العام 2021، عُدَّ العراق خارجاً عن التصنيف، الأمر الذي أثار موجة غضب وردود أفعال كثيرة، ووُصف بانه انتكاسة كبيرة للبلاد، وخيبة أمل تتحمل السلطات تبعاتها.

وعلقت المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق بالقول:" خروج العراق من التصنيف العالمي للتعليم يؤشر إلى انتكاسة للمنظومة التعليمية، وتراجعاً في مستوى التعليم، ويتطلب موقفاً جاداً ومسؤولاً للسياسات والخطط والبرامج للمؤسسات التربوية والتعليمية في العراق".

وفي آخر تقاريره عن الوضع التعليمي في العراق وموافقته على مشروع بقيمة 10 ملايين دولار أمريكي، كشف البنك الدولي أنَّ أكثر من 90 في المئة من التلاميذ العراقيين لا يفهمون ما يقرؤون (1).

يُعيّن الآلاف من أقارب ومعارف ومناصري المسؤولين والقوى والأحزاب السياسية، ويُحرم اصحاب الكفاءة من أي وظيفة في مؤسسات الدولة ويبقون رهائن خياراتٍ صعبة، فإما الهجرة إلى الخارج أو العيش في فقر مدقع أو موالاة أحد الأحزاب والميليشيات المسلحة للحصول على التعيين عن طريقها، إذ يتم تقاسم الوظائف بالتوافق الذي يبدأ التحاصص فيه من أعلى المناصب إلى أصغرها. 

تعود هشاشة التعليم في العراق إلى تلك اللحظة التي تعرضت فيها دوائر الدولة ومؤسساتها إلى عملية "هيكلة" شاملة، إذ بادرت سلطات الاحتلال بعد 2003، إلى إصلاح المناهج والمقررات وانتخاب العمداء وفقاً لنظام المحاصصة سيء الصيت، وأزيلت كل أثار أيديولوجية البعث التي كانت ترفل بها كتب التاريخ وكتاب التربية الوطنية. وكان للجامعات حرية اختيار البدائل، وكانت هذه البدائل تشبه النظام السياسي وشخوصه بعد 2003، إذ عكست المناهج وجه هذا النظام على الورق، فجاءت خالية من القيم الوطنية العراقية، واتسمت بضعف المعرفة العميقة لتاريخ العراق.

 المناهج التي كُتبت بعد التغيير، عمقت الطائفية وأقصت روح المواطنة، ففي منهج التربية الإسلامية للصف الأول نجد عبارة "المسلمون إخواننا" الأمر الذي يوحي بأنّ غير المسلمين ليسوا إخواناً لنا، وفي المادة ذاتها في الصف الثاني الابتدائي، وفي سياق تفسير سورة الحمد، أكد واضعو المنهج أنّ عبارة "المغضوب عليهم" تنطبق على اليهود، في حين تجنبوا تفسير عبارة "ولا الضالّين" والتي هي بحسب التفاسير الإسلامية تشمل المسيحيين الذين ذُكروا في مواضع عدة تحت اسم "النصارى"... وهذا مثال من مئات سواه. وبشكلٍ عام فقد خضعت مناهج التربية الدينية للسياق (المحاصصاتي)، وأصبحت مواد أيديولوجية تتعامل مع الآخر ضمن الواجب الديني، بدلاً من اعتبار أنَّ الاندماج الوطني يتحقق من مواد معرفية حتى في مجال الدرس الديني تنطلق مع الآخر من منطلق الإنسانية والمشتركات الوطنية. وهكذا غابت عن المناهج الدراسية شخصية المجتمع العراقي وغاب العراق والدولة والهوية العراقية، وحضرت عبارات ذات شحنة تطرفية وعنيفة، وجرى تشجيع الثقافات الفرعية. تصف الدكتورة جمان كبة النظام التعليمي في العراق بقولها: "إنه نظام لا يبني العقول، ولا يؤهل الطلبة بالمهارات الضرورية للتعليم والعمل"(2).

أصدقاء الرئيس أصدقاء الحزب..

 لعل من المشتركات الكبيرة بين شكل التعليم في النظام الحالي وشكله في النظام السابق، هو انعدام الكفاءة. إلا أنّ الفارق كبير في النِسب، ففي ظل نظام صدام حسين، تمّ إبعاد الكثير من الكفاءات، باستثناء من يؤيد حزب البعث، أو من لا يعارض الحزب على الأقل، وبناءً عليه فقد تم قبول الحزبيين في الجامعات بدون مؤهلات تذكر، هذا فضلًا عن الامتيازات التي تقدّم لأبنائهم في القبول الجامعي والحصول على الوظيفة. مقولة صدام حسين "الولاء أهم من الكفاءة" والتي عمل بها النظام البعثي، طبّقتها القوى والأحزاب السياسية بعد 2003، إذ سمح للسجناء السياسيين و"أبناء الشهداء" الذين سقطوا في ظل البعث وأعضاء الحشد الشعبي الخ.. القبول في الجامعات والدراسات العليا بصرف النظر عن المعدل، ووفق قناة تنافسية خاصة بهم!

وبسبب المحاصصة في توزيع المناصب والوظائف، فقد أُسيئت معاملة أصحاب الكفاءات، سواء منهم الذين عادوا من المهجر أو من بقوا في أرض الوطن. ففي الوقت الذي يعيّن فيه الآلاف من أقارب ومعارف ومناصري المسؤولين والقوى والأحزاب السياسية، يُحرم صاحب الكفاءة من أي وظيفة في مؤسسات الدولة ويبقى رهين خياراتٍ صعبة، إما الهجرة إلى الخارج أو العيش في فقر مدقع أو موالاة أحد الأحزاب أو الميليشيات المسلحة للحصول على التعيين عن طريقها، إذ يتم تقاسم الوظائف بين الأحزاب في سياق النظام التوافقي الذي يبدأ التحاصص فيه من أعلى المناصب إلى أصغرها. ولا تُعتمد الخبرة أو التخصّص هنا في اختيار الوظائف، إنما الانتماء الحزبي أو الطائفي أو القومي، الأمر الذي أدى إلى احتجاجات كثيرة في محافظات العراق، كان آخرها احتجاجات تشرين/ اكتوبر 2019.

بادرت سلطات الاحتلال بعد 2003، إلى "إصلاح" المناهج وانتخاب العمداء وفقاً لنظام المحاصصة، وإزالة كل أثار أيديولوجية البعث التي كانت ترفل بها كتب التاريخ والتربية الوطنية. وكان للجامعات حرية اختيار البدائل، فجاءت تلك تشبه النظام السياسي وشخوصه بعد 2003، وخالية من القيم الوطنية العراقية، واتسمت بضعف المعرفة بتاريخ العراق، وهكذا عكست المناهج وجه هذا النظام على الورق.

يذكر أحد أساتذة العلوم السياسية الذي فضّل عدم الكشف عن اسمه، مجموعة من أبناء وأقرباء المسؤولين الذين عُيّنوا في وزارة الخارجية، ومنهم "ابنة هادي العامري حيث عيّنت بوظيفة قنصل في طهران، وشقيقه عبد الرحمن كقنصل في مانشستر، كذلك زوج النائبة عن التيار الصدري ماجدة التميمي الذي تم تعيينه كقنصل في لندن، وخال عمار الحكيم، حبيب الصدر، سفيراً للعراق في الجامعة العربية، وبنت إبراهيم الجعفري موظفة دبلوماسية في بريطانيا، ونجل مسعود البرزاني سفيراً للعراق في إيطاليا"، مضيفاً: "ابن عبد الهادي الحكيم موظفاً في سفارة العراق في بلجيكا، وابن خالد العطية يعمل في سفارة العراق في بريطانيا، وزوج ابنة علي الأديب ملحق ثقافي في بريطانيا، أما جعفر الصدر ابن عم مقتدى الصدر، فقد عين سفيراً للعراق لدى لندن، ولم يختلف الأمر كثيراً مع أحمد الصدر ابن أخ مقتدى الصدر، إذ عين سكرتير أول في السفارة العراقية في لندن".

أغلب هذه الشخصيات لا تمتلك التحصيل العلمي الذي يؤهلها لهذه الأماكن التي تحتاج إلى الخبرة السياسية والتخصصية في العلاقات الدولية، الأمر الذي دفع الأستاذ أن يتساءل بالقول "ألا يجدر بنا أنْ نسمي وزارة الخارجية بوزارة العوائل؟ " هذا على مستوى وزارة واحدة فكيف الحال بباقي الوزارات ودائر الدولة التي تخضع جميعها لمعايير المحاصصة ودرجة القرب من المسؤولين في الوقت الذي يحرم طلبة العلوم السياسية في العراق من التخصص الوظيفي؟

شهادات للبيع..

شاعت بعد 2003، العديد من الظواهر الكارثية في النظام التعليمي في العراق، ومنها الشهادات المزورة، وتعيين مفضلي الأحزاب، وتهديد الأساتذة والعمداء، إلا أنّ أخطر هذه الظواهر هو بيع الشهادات والتزوير. اشتهر الكاريكاتير الذي رسمه الفنان حسيب الجاسم الذي غادر عالمنا في عام 2013، إذ رسم تاجراً يدير محلات كَتب عليها "محلات أبو غافل (وشركاه) لبيع وتزوير (التي شطبها، وكتب في جانبها كلمة "تزويد" الشهادات العلمية والأدبية")، وقد ظهر أبو غافل وهو يحمل ختماً كبيراً، وشهادات مثل العلوم السياسية وشهادة الماجستير والهندسة الخ، ويطلب الزبون ثلاث شهادات اثنان ماجستير وواحدة علوم سياسية. وقد تعمد الجاسم الأخطاء الإملائية ليوصل رسالة للمتلقي أن من يزور ويبيع الشهادات ليس لديه أدنى حظ من التعليم، لكنه قد يكون صاحب الفضل الكبير في توظيفك في كبرى مؤسسات الدولة، نائباً في البرلمان العراقي مثلًا! رسمة الجاسم تختصر حال النظام التعليمي في العراق والذي أودى به إلى هاوية مظلمة.

كاريكاتير للفنان العراقي الراحل، حسيب الجاسم (1951 – 2013)

ولعل أبرز مثال على تزوير الشهادات هو ما حصل مع النائب مشعان الجبوري، والذي هو بحسب موقع "من هم" (دليل الشخصيات العربية) كان عضواً في مجلس النواب لأربع دورات (3)، لكن في الدورة الرابعة له، ألغت المحكمة الاتحادية عضويته في المجلس، وقد جاء القرار بعد دعوى رفعها ضده النائب السابق قتيبة الجبوري بسبب تزويره للشهادة (4).

ماذا عن الجامعة الإسلامية في لبنان؟

يُعرّف الموقع الرسمي الجامعة الاسلامية بكونها "مؤسسة خاصة غير ربحية تابعة للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى تأسست بموجب القانون رقم 67/72، ويعود تاريخ الجامعة إلى عام 1996، تنفيذاً لرغبة السيد موسى الصدر، وقد تحققت هذه الرغبة على يد الشيخ محمد مهدي شمس الدين، وتقع الجامعة في لبنان - خلدة، ولها مواقع فرعية في الوردانية وصور وبعلبك" (5).

مقولة صدام حسين "الولاء أهم من الكفاءة" التي عمل بها النظام البعثي، طبّقتها القوى والأحزاب السياسية بعد 2003، إذ سمح للسجناء السياسيين و"أبناء الشهداء" الذين سقطوا في ظل البعث، وأعضاء الحشد الشعبي الخ.. القبول في الجامعات والدراسات العليا بصرف النظر عن المعدل، ووفق قناة تنافسية خاصة بهم!

في أواخر العام 2021، انتشر خبر يؤكد وجود 27 ألف شهادة جامعية مبيعة لعراقيين من قبل الجامعات اللبنانية. ويشير الخبر إلى "أن الشهادات المبيعة حصل عليها طلاب عراقيون عاديون أو أبناء شخصيات نافذة في العراق، بل ونالها أيضاً مسؤولون ونواب عراقيون". تفاصيل الخبر تشير إلى تورط شخصيات حكومية أدارت مكتباً في منطقة الكرادة في بغداد، ليكون صلة الوصل بين نواب ووزراء ومسؤولين عراقيين، بالشخص اللبناني صاحب الصفقة، وهو أستاذ جامعي متقاعد في إحدى الجامعات بحسب الخبر. ووفق المعلومات "تصل العمولة التي يتقاسمها الشخص اللبناني مع مسؤولين عراقيين في بيروت إلى نحو خمسة آلاف دولار عن كل طالب ماجستير، وعشرة آلاف دولار عن كل طالب دكتوراه". وبناءً على هذا الخبر، أصدرت وزارة التعليم العالي كتاباً يتضمن تعليمات جديدة بخصوص الدراسة في الخارج، منها إخضاع الرسائل والأطروحات للطلبة العراقيين في الخارج لعملية الاستلال الإلكتروني، وإخضاع الدارسين على نفقاتهم الخاصة لتقييم علمي وعرضهم على اللجان العلمية. كما تقرر تعليق الدراسة في الجامعة الحديثة للإدارة والعلوم والجامعة الإسلامية وجامعة الجنان في لبنان.

وعلى الرغم من مرور عدة أشهر على الحادثة، فإن وزارة التعليم العالي والبحث العلمي لم تعلن عن الإجراءات المتخذة بحق الشهادات المبيعة، ولم توضح سير التحقيق وملابسات الموضوع.

أما عن أبرز الشخصيات السياسية التي حصلت على شهادة الماجستير والدكتوراه من الجامعة الإسلامية في لبنان، فهم كل من: فائق زيدان (رئيس مجلس القضاء الأعلى) وأحمد الصدر (ابن أخ مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري) الذي قام برفع اسم الجامعة من سيرته الشخصية في موقع تويتر بعد الفضيحة، الشيخ عدنان الشحماني (رئيس مركز بغداد الدولي)، حميد نعيم الغزي (الأمين العام لمجلس الوزراء)، وبعض نواب الكتلة الصدرية نذكر منهم على سبيل المثال، مها الدوري، وحيدر حداد الخفاجي، علماً أنّ اغلب السياسيين والشخصيات الحزبية في العراق وأبناء المسؤولين حصلوا على شهاداتهم من هذه الجامعة! فالحصول على الشهادة الجامعية أصبح موضة لديهم، يرضي تفاخرهم ويتيح قبولهم في المناصب العليا ومعها ارتفاع رواتبهم الشهرية!

صدام حسين والرموز الدينية داخل الجامعات العراقية

لا تتفاجأ وأنت تدخل الجامعات العراقية إذا رأيت صوراً لرموز دينية ليس لها أي علاقة بالدراسة الاكاديمية. تجد هذه الصور في أروقة الجامعات مع بدء العام الدراسي، وبعضها تبقى دائماً، مثل صورة الزعيم الروحي للتيار الصدري محمد صادق الصدر (اغتيل في عام 1999)، عند مدخل كلية الآداب في الجامعة المستنصرية، وهناك غيره من الرموز الدينية في بقية الجامعات. المشكلة التي تتعلق بمحمد صادق الصدر وبصرف النظر عن كونه شخصية دينية مكانها الحوزات والمدارس الدينية، أنه يبيح الغش في الامتحانات المدرسية، إذ ورد في كتابه (6): هل يجوز الغش في الامتحانات الدراسية إذا كان بعض المدرسين يساعدون الطلاب في الغش في الامتحانات المدرسية، أجاب الصدر: "بسمه تعالى: لا دليل على حرمته".

صورة للزعيم الروحي للتيار الصدري محمد صادق الصدر عند مدخل كلية الآداب في الجامعة المستنصرية

هذا على مستوى الحضور الرمزي. أما على مستوى الحضور الفعلي، ففي مطلع عام 2017، زار زعيم عصائب أهل الحق الشيخ قيس الخزعلي، جامعة القادسية لحضور مؤتمر حمل عنوان "طلبتنا والحشد.. بهم صنعنا النصر والمجد". وبعد إلقاء الكلمات الشعرية التي تمجد الجنرال قاسم سليماني (اغتيل في عام 2020) من قبل بعض الطلبة، هتف آخرون "إيران.. برة.. برة" ليتطور الأمر إلى اشتباكات بالأيدي بين الطلبة وحمايات قيس الخزعلي الذين فتحوا النار داخل الحرم الجامعي، وتعرض الطلبة الذين هتفوا بوجه الخزعلي إلى الفصل من الدراسة واتهموا بـ "البعثية".

وأغلب المؤتمرات التي توزع داخل الجامعات العراقية تتعلق بالحشد الشعبي وقادته، وكذلك الحال مع المنشورات، إذ حدث في كانون الثاني/يناير 2021 إصدار منشور يختص بما يسمى "قادة النصر"، ووزع على جميع طلبة الكليات في جامعة الكوفة في مدينة النجف، مع فعاليات تمجد الجنرال قاسم سليماني ورئيس هيئة الحشد أبو مهدي المهندس.

نموذج من المنشورات التي توزع مجاناً داخل الجامعات العراقية

أما حضور صدام حسين فقد كان غريباً وصادماً في الوقت نفسه، إذ بعد مرور عقدين على زوال النظام البعثي في العراق، نجد أفكار وكلمات صدام حسين في مناهج أهم الكليات في العراق على الصعيد السياسي، وهي كليات العلوم السياسية. اذ بقيت أغلب المناهج التي كانت تدرَّس في حقبة الاستبداد على حالها. فعلى سبيل المثال كتاب "علم الاجتماع السياسي" للدكتور صادق الأسود الذي صدر في عام 1991، ما يزال منهجاً لجميع كليات العلوم السياسية، ويتضمن ما يقارب مئة اقتباس مباشر لأقوال صدام حسين في عدة مناسبات. كما أنّ الكتاب يبرر الاستبداد ويجمّله في دول العالم الثالث، ويبين مساوئ الديمقراطية!

في أواخر العام 2021، انتشر خبر يؤكد وجود 27 ألف شهادة جامعية مبيعة لعراقيين من قبل جامعات لبنانية. وأنَّ "الشهادات حصل عليها طلاب عاديون أو أبناء شخصيات نافذة، بل ونالها أيضاً مسؤولون ونواب عراقيون". وتصل العمولة التي يتقاسمها الوسيط اللبناني مع مسؤولين عراقيين إلى نحو خمسة آلاف دولار عن كل طالب ماجستير، وعشرة آلاف دولار عن كل طالب دكتوراه.

وهكذا الأمر مع بقية المناهج مثل "المدخل إلى علم السياسة" لحفاظ علوان، وكتاب المشكلات السياسية في العالم الثالث، لـ"رياض عزيز هادي"، وكتاب "السياسة الخارجية" لأحمد نوري النعيمي... أما كتاب "النظام السياسي، تركيا وإيران"، فقد تم حذف الصفحات التي تتضمن النقد والإساءة للنظام الإيراني والسيد الخميني!

تنص المادة "رابعاً" من قانون حظر البعث في العراق على أن يشمل الحظر المفروض على حزب البعث وأفراده بموجب هذا القانون الأعمال الآتية:

أولا- الانتماء إلى حزب البعث تحت أي مسمى كان.
ثانيا- إجبار أو تهديد أو كسب أي شخص للانتماء إلى حزب البعث.
ثالثا- القيام بأي نشاط سياسي أو فكري من شأنه التشجيع أو الترويج أو التمجيد لفكر حزب البعث أو التشجيع على الانتماء إليه.

شاعت بعد 2003، العديد من الظواهر الكارثية في النظام التعليمي في العراق، ومنها الشهادات المزورة، وتعيين مفضلي الأحزاب، وتهديد الأساتذة والعمداء، إلا أنّ أخطر هذه الظواهر هو بيع الشهادات والتزوير.

في مداخل الجامعات العراقية وأروقتها تُرفع صور لرموز دينية ليس لها أي علاقة بالدراسة الاكاديمية. بعضها يكتفي بالظهور مع بدء العام الدراسي، وبعضها الآخر يبقى بشكل دائم.

والمفارقة الكبرى والتناقض الفج الذي وقعت فيه الطبقة الحاكمة في العراق أنها تطرفت في تطبيق هذا القانون، وتمّ عزل نواب واعتقال عدة اشخاص بموجبه، لكنها تناست أنها تروج لأفكار حزب البعث في أهم الكليات والمناهج، وذلك لعجزها عن الإتيان بمناهج جديدة. وهي استخدمت قضية البعث كشماعة لتصفية الخصوم لا أكثر.

الجامعات الأهلية والزبائنية السياسية

بعد العام 2003، تزايدت أعداد الجامعات الأهلية بالشكل الذي ابتلع الجامعات الحكومية، إذ وصلت أعداد الجامعات الاهلية، بحسب دائرة التعليم الجامعي الأهلي، إلى 199 جامعة معترف بها وفي مختلف الاختصاصات بينما الجامعات الحكومية يبلغ عددها 29 جامعة فقط، حتى هذا العام (7)، وكان أولها كلية الحقوق العريقة والتي تأسست في العام 1921، مع اعلان ولادة الدولة العراقية.

وبحسب المفتش العام في وزارة التعليم فإنّ أغلب هذه الجامعات تابعة لشخصيات وأحزاب سياسية. على سبيل المثال "كلية الإسراء" في بغداد تابعة لـ"ائتلاف دولة القانون" بقيادة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، أما "جامعة أهل البيت" و"كربلاء" و"كلية الحكمة الجامعة" و"أوروك" و"جامعة المعقل"، فهي تابعة لتيار الحكمة بقيادة عمار الحكيم، "الجامعة الإسلامية" في النجف والديوانية، تابعة لرجل الدين السيد صدر الدين القبانجي المنضوي تحت راية المجلس الأعلى الإسلامي، "جامعة الإمام جعفر الصادق" في النجف و"كلية الفارابي" الجامعية في بغداد، و"كلية الطف الجامعة" في كربلاء، و"كلية البصرة للعلوم والتكنولوجيا" تتبع للتيار الصدري، أما "كلية العراق الجامعة" في البصرة فتابعة إلى "عصائب أهل الحق"، و"جامعة المصطفى الأمين" تابعة لـ "كتائب حزب الله في العراق"، و"الجامعة العراقية" تتبع الحزب الإسلامي العراقي... وهكذا!

وتكلف الجامعات الأهلية الطالب العراقي سنوياً مبالغ تتراوح بين ألف وخمسة آلاف دولار حسب نوع التخصص والكلية. وفي السنوات الأخيرة فقدت هذه الأحزاب قوة خطابها السياسي التقليدي القائم على المظلومية التاريخية وإثارة المخاوف من عودة حزب البعث، فصارت تمول نشاطاتها وتجذب الشباب والكوادر التعليمية عن طريق الأموال الضخمة التي تدرها هذه الجامعات سنوياً. فهي تجذب الكوادر التدريسية الموالية للحزب السياسي، أما الطلبة فيكون ولاؤهم للحزب مقابل تسهيلات تقدمها الجامعة. وبحسب أحد الطلبة الذي يدرس في واحدة من هذه الجامعات والذي رفض الكشف عن اسمه، "فإن ولاء الطالب للجهة الحزبية يسقط عنه نصف مبلغ تكاليف سنوات الدراسة، ويتطلب ولاء الطالب حضوره في المؤتمرات والمشاركة في الاحتجاجات والوقفات التي ينظمها الحزب، الأمر يدفع أكثر الشباب إلى تقديم فروض الطاعة والولاء مقابل حجب نصف أجور الدراسة". ويجري كل ذلك في ظل هشاشة وتدهور التعليم الحكومي!

مشاكل وتحديات أخرى

من المؤكد أنه لا يمكن الوقوف على كل مشاكل التربية والتعليم في العراق من خلال مقال أو تحقيق استقصائي واحد، بل هو قد يكون بذوراً متناثرة من الحقيقة. غير أنّه ثمة مشاكل بنيوية وتحديات تواجه النظام التعليمي في العراق تتمثل بعدم وجود خطط استراتيجية تبين متطلبات سوق العمل، فلا يحصل انسجام بينه ومخرجات التعليم مما أدى إلى إهمال التعليم التقني والمهني بشكل كبير. هذا فضلاً عن تدني الدعم الحكومي للجامعات العراقية الرسمية. كما أنه وبسبب نظام المحاصصة وهيمنة القوى الحزبية على النظام التعليمي في العراق فإن الكثير من الرسائل العلمية في مختلف المراحل تعرضت للرفض حين يكون موضوعها يسلط الضوء على العراق ومشاكله أو مستقبل حركات وقوى الإسلام السياسي والأحزاب التقليدية في ظل الحركات الاحتجاجية، بينما نرى رسائل تكتب بخصوص فقه "خامنئي" وبقية رموز النظام الإيراني، وتمجد قادة الميليشيات والحركات السياسية والطقوس المذهبية، كما على سبيل المثال الرسالة التي حملت عنوان "المشي في زيارة الأربعين وأثره على بعض متغيرات الجهاز الدوري التنفسي لمختلف الأعمار من الذكور والإناث" للطالب أحمد محمود المرسومي(8).

بعد العام 2003، تزايدت أعداد الجامعات الأهلية بالشكل الذي ابتلع الجامعات الحكومية، إذ وصلت أعدادها بحسب دائرة التعليم الجامعي الأهلي، إلى 199 جامعة معترف بها وفي مختلف الاختصاصات، بينما يبلغ عدد الجامعات الحكومية 29 جامعة فقط، حتى هذا العام.

هكذا بقي النظام التعليمي في العراق مثل فأرة في دولابٍ دوارٍ، صفعته كف أصدقاء الرئيس في النظام السابق، وأصدقاء الحزب في الوقت الحاضر، حتى صار مرآة تعكس طبيعة النظام السياسي ومستقبل البلاد المحكومة بطبقة سياسية رسخت مثلث الجهل والخوف والتخلف.

______________________

1-  https://cutt.us/8IXre ويبين البنك الدولي في تقريره أن رأس المال البشري في العراق يمثل اقل من 15 في المئة من إجمالي الثروة وهو أدنى المعدلات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.   
2-  جمان كبة، دكتورة عراقية ولدت في بغداد، لها عدة مؤلفات وعملت كباحثة علمية واستاذة جامعية في الولايات المتحدة الامريكية. 
3-  https://bit.ly/3QKUi3G
4-  https://bit.ly/3unuMYT 
5-  https://bit.ly/3xQa9Fq
6-  "مجمع مسائل وردود" اعداد وتحقيق محسن الموسوي، ص: 342 مسألة رقم (1316)
7-  https://col.pe-gate.org/ 
8- https://karbala-tv.iq/view_news.php?p=1725

مقالات من العراق

لطخة تلوث بلد الحضارات

فؤاد الحسن 2024-03-24

قررت وزارة الهجرة والمهجرين العراقية تحديد 30 حزيران/ يونيو من العام 2024 موعداً نهائياً لإغلاق مخيمات النازحين في إقليم كردستان، والتي يبلغ عددها 24 مخيماً، يسكنها نازحون من مناطق مختلفة،...

الموت امرأة من شنكَال

فؤاد الحسن 2024-03-13

نام الناس في الشوارع. وهناك بدأت الطوابير. طوابير استلام الطعام والأسرّة وارتجاء اقنعة التشرد الجديدة. كلما رأيتُ رجلاً أهلكه التعب ونحل جسده عرفته من سنجار، من دون أن أسمع لهجته،...

للكاتب نفسه

فلسطين قضيتنا نحن العراقيين!

علي فائز 2023-11-11

استفز الرئيس الأمريكي جو بايدن ذاكرة العراقيين بعد أن نصح الإدارة الإسرائيلية بأن تكون الحرب على غزّة أقرب إلى ما حدث في الموصل عام 2016، وليس الفلوجة عام 2004، وأرسل...