"أرى مغتصبي اليوم على شاشات التلفزة": LAW توثق الجرائم ضدّ النساء في الحرب اللبنانية

رفضاً لطمس قصص النساء اللواتي لم يتح لهنّ روايتها، جاء تقرير LAW بالتعاون مع هيئة الأمم المتحدة للمرأة (UN Women)، ليعرض الحقيقة المروعة للجرائم القائمة على النوع الاجتماعي التي ارتكبت ضدّ النساء والفتيات خلال الحرب اللبنانية بين عامي 1975 و1990.
2022-06-16

شارك
صورة من غلاف التقرير

تحذير: يحتوي هذا المقال على وصف تفصيلي للعنف الجنسي.

“تفاصيل وجهه محفورة في ذاكرتي. هو واحد من مجموعة شبان تناوبوا على اغتصابنا أنا وصديقاتي. لا زلتُ أراه. إنّهم يستضيفونه على المحطات التلفزيونية. لقد أصبح مشهوراً”. بهذه الجملة اختزلت إحدى ضحايا الحرب اللبنانية وجعاً لا يزال يرافقها منذ 42 عاماً، لتوثق غياب العدالة وصعوبة تحقيقها أواستحالتها في بلاد لم يُقرّ فيها قانون يعفي عن مجرمي الحرب وأمرائها فحسب، بل كوفئ فيها زعماء الميليشيات وأتباعهم وتربّعوا على رأس السلطة بدل زجّهم في السجون. بصوتها المتهدّج فقط، ومن دون الكشف عن هويّتها وصورتها، أدلت الضحية بقصّتها عبر فيديو قصير، عُرض داخل “بيت بيروت” في إطار إطلاق التقرير البحثي للحركة القانونية العالمية (LAW) حول “جرائم النوع الاجتماعي خلال الحرب الأهلية اللبنانية”.

وعن تفاصيل ما فعله المغتصب الذي يعتلي شاشات التلفزة اليوم، تخبر الشاهدة عبر صوتها في الفيديو: “سمعنا صوت صريخ آتٍ من بعيد. اقترب فتى صغير كان يركض مسرعاً وطلب منا أن نختبئ. لم نفهم لماذا ولم نتمكّن من الاختباء. ثمّ رأيناهم قد وصلوا! سيارات عسكرية وبداخلها مسلحين. اقتربوا منا واقتادونا جميعًا إلى مكان لا نعلمه. كان عددنا حوالي ١٧ فتاة وكنتُ أكبرهن. ما هي إلّا لحظات، حتى شعرت بلمسات أيديهم على جسدي. كانت تلك المرة الأولى التي يلمسني فيها رجل. اغتصبونا بكلّ الأشكال، وبطرق لا يمكن تخيّلها. تداولوا على اغتصابنا. هناك فتاة تدعى نادية وفتاة أخرى، توفّيتا على الفور. بالمناسبة، هناك أحد المعتدين الذي لا زالت تفاصيل وجهه محفورة بذاكرتي. إنّني أراه عندما يستضيفونه على المحطات التلفزيونية. لقد أصبح مشهوراً”.

ربما ليس أنسب من “بيت بيروت” الذي رُمم بطريقة لا تطمس واقع أن الحرب استوطنت ومرّت من هنا على أحد خطوط التماس الرئيسية (السوديكو) ليبقى شاهداً على ما حصل، لتعلو منه الشهادات على ما حصل كجرائم قائمة على النوع الاجتماعي، وللمرة الأولى بهذا الحجم الموثق بشهادات ضحايا وناجيات وشاهدات وشهود على جرائم استهدفت النساء في الحرب لتُغيّر في سردية طالما كانت شائعة وكأنّ الرجال هم من دفعوا بالدرجة الأولى ثمن التقاتل الداخلي على مدى أكثر من 15 عاماً من العنف الذي شهده لبنان قبل 1975 ولغاية 1990 حين أوقف اتفاق الطائف الأعمال القتالية. وكأنّ النساء كنّ محيّدات عن كل ما حصل.

ورفضاً لطمس قصص النساء اللواتي لم يتح لهنّ روايتها، جاء تقرير LAW بالتعاون مع هيئة الأمم المتحدة للمرأة (UN Women)، ليعرض الحقيقة المروعة للجرائم القائمة على النوع الاجتماعي التي ارتكبت ضدّ النساء والفتيات خلال الحرب اللبنانية بين عامي 1975 و1990.

تعابير الصدمة اعتلت وجوه الحاضرين في القاعة حيث بدت قصص الناجيات والضحايا أقسى من أن تُصدّق، لتظهر شدّة بشاعتها مع كلّ نفس أخذنَه بين الجملة والأخرى. استعدنَ الماضي وكأنهنّ يعشنه في كلّ ثانية من الحاضر. قصص اغتصاب، واغتصاب جماعي، واغتصاب متعدد الجناة، وتشويه للأعضاء التناسلية، وتعذيب جنسي، وقتل للنساء والفتيات بعد اغتصابهن واختطافهن… جرائم لا تنتهي. لقد جني على هؤلاء النساء والفتيات (وأفراد الأسرة الذين شهدوا هذه الجرائم) مرّتين، مرّة بما تعرّضن له، ومرة أخرى بالعجز التام عن محاسبة الجناة، أو حتى بالاعتراف بما حدث، أو باعتذار.

ليس الجميع ناجيات

في قاعة “بيت بيروت” تقف سيدة بين الحضور لتدلي بشهادتها حول تعرّض صديقتَيها للاغتصاب متحفّظة عن ذكر الأسماء: “أعرف فتيات توفّين بعد الاغتصاب، وأخريات شهدنَ على تعذيب الميليشيات لآبائهنّ وإخوتهنّ عبر تقييدهم بالنوافذ واغتصابهم، وأعرف فتاة خُطفت! كما 15 فتاة تمّ أخذهنّ إلى ما كان يسمّى حينها بالمنطقة الشرقية، وبعد مفاوضات عدة تمّت إعادتهنّ إلى عائلاتهنّ في الجبل، إلّا أنّ إحدى الفتيات لم تتمكّن من متابعة حياتها بشكل عاديّ. سعدتُ لرؤيتها بعدما عادت إلى أهلها، ولكنّ الأمر لم يدُم على حاله طويلاً. لقد هربَت بسبب إدمانها المواد المخدّرة والكحول، وما تركه الاغتصاب من آثار جسيمة على حالتها النفسية، وبعد ما يقارب 4 سنوات وصلنا خبر وفاتها من دون أن نعلم سبب الوفاة الحقيقي. هي ضحية الحرب، وذنبها الوحيد أنها فتاة، فالنّساء يدفعنَ الثّمن دائماً”.

ووسط ذهول الحضور أيضاً، تقف سيدة فلسطينية لاجئة في لبنان: “الحرب تترك آثارها على الجميع. لقد خسرت أبي وإخوتي وشقيقتي الصغرى بعدما لجأنا من فلسطين إلى لبنان، حيث داهمت مجموعة من المسلحين منزلنا في بيروت ما بعد منتصف الليل. صفّوا أبوي وإخوتي عالحيط ورشّوهم بالرصاص. أمّا شقيقتي الصغرى التي تبلغ من العمر سنة و3 أشهر، فقد قُتلت برصاصة في الرأس وهي بين أحضاني، سمعتُ صوت طلقة واحدة وبعدها لم أسمع صوت شقيقتي، ولم يبقَ من عائلتي سواي لأحمل في قلبي وذاكرتي مشاهد موجعة لا تفارق مخيّلتي. إحدى أقاربنا أصيبت بشلل، جرّاء إصابتها، وعاد إليها المسلّحون أنفسهم مرة ثانية وقاموا بالاعتداء عليها. لم تنتهِ القصة هنا. بعد فترة أُعيد توقيفها هي وسائق سيارة الأجرة عند حاجز لإحدى الميليشيات، حيث تعرّضا لأبشع أنواع المضايقات”، وتتابع “أما أنا فنجوتُ عن طريق الصدفة. تمّ توقيفي عند أحد الحواجز، وحاول أحد المسلّحين أن يمدّ يده إلى صدري، ليتأكّد إذا ما كنت أخفي شيئاً، توسّلت إليه ألّا يفعل ذلك، ولكنّه أصرّ! إلّا أنّ أحد الشبان الذي تمّ توقيفهم أيضاً أتى في اللحظة الحاسمة وأنقذني من هذا الموقف المهين. هناك جرحٌ لم يلتئم في صدري، أبكي كل ليلة وشعور التعب لا يفارقني، ولكن من يعطيني حقّي؟”

وركزت الشاهدة الثالثة التي روت قصتها مباشرة، على الأثر الذي تركها عليها ما تعرّضت له: “كنتُ محظية أنّ المعتدي أشبع حاجته قبل أن يعبر بجسدي. اكتفى بمداعبة ثديَي. أنا اليوم لا أريد حماية من المجتمع والجمعيات، لأنني أصبحت قوية بما فيه الكفاية. لا أنكر أنّ مرحلة التعافي والتصالح مع جسدي بعد الاعتداء أخذت وقتًا طويلًا. اعتراني الخجل من حجم صدري لسنوات بسبب ما فعله بي المعتدي. وجود مجموعة كبيرة من الأصدقاء الذين يملكون مستوى كافٍ من الوعي إلى جانبي، ساعدني على تخطي فظاعة ما واجهته وتحويل الأزمة إلى فرصة للمواجهة. لقد دفعت ثمن حبّي لرجل من غير طائفة. نعم، نحن النساء ندفع الثمن دائمًا، ولكنّ المؤكّد أننا قويّات. لقد عملت على تطوير نفسي في مرحلة لاحقة، قمتُ بالانضمام إلى تنظيم سياسي ووجّهتُ طاقتي للعمل في كل ما يتعلّق بشؤون المرأة والطفل. ما هو أهم من الانتهاك الجسدي الذي تعرضنا له كنساء في ذلك الحين، هو الانتهاك الاجتماعي لحقوقنا الذي كان يمنعنا من الانخراط في الحياة تحت مفهوم الحماية. واليوم، نحن لا يمكننا أن نطلب من دولة مفككة تضمّ ميليشيات في موقع سلطة أن تحقق لنا العدالة والحماية”.

بقية التقرير على موقع "المفكرة القانونية"

مقالات من لبنان