المواطنون والسلطة في مصر.. قضية "أيمن هدهود" مثالاً

خروج قصة " أيمن هدهود" بقسوتها للعلن جاء ليؤكد أن وتيرة الاختفاء القسري قد تهدأ لكنها لم تنتهِ وأنه لا يمكن حصر أسبابها، وأن الإعلان عن واقعة كهذه ترتبط بناشط سياسي وباحث معروف تعطي احتمالات قوية عن وجود آخرين مجهولين لا زالوا يتعرضون بشكل دائم لتجربة "الاختفاء القسري"، سواء انتهى بهم الأمر للموت أم لا.
2022-04-22

منى سليم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك
أيمن هدهود

تعيش مصر أجواء حادثة اختفاء قسري جديدة انتهت بفجيعة تَزلزل لها الوجدان، لم  تلتفت لها السلطات، وأعيد السيناريو نفسه بما يخص ردود الأفعال. "الاختفاء القسري" ظاهرة تبلورت ملامحها في مصر على مدار السنوات العشر الأخيرة، وهي تسجل اليوم خطوة نحو صياغة سياق للمواجهة، تتشارك في تعيين ملامحه السلطة كمتهم والمواطنون على اختلاف توجهاتهم ومواقفهم ـ كجمهور وفقيد محتمل.

وفاة الباحث الاقتصادي "أيمن هدهود" في ظروف مريبة بعد شهرين من اختفائه، تستدعي استعراض وقراءة هذا المسار بين أطراف تتغول في اقتراف الفعل، وأطراف تحاول تخفيف الوطأة وتتورط في التواطؤ أحياناً، وأطراف تخوض المواجهة بجرأة ودون تراجع.

التغول في الاقتراف

هذه المرة أيضاً، لم تقدِّم السلطة على المستوى الأعلى مبادرة للاشتباك مع اتهامات ورطتها بها مستويات أدنى. وبينما تبدأ قضية "هدهود" أولى فصولها، قال القضاء الإيطالي الذي يشهد محاكمة أربعة ضباط أمن مصريين متهمين باختطاف وقتل طالب الدكتوراه الإيطالي جوليو ريجيني عام 2016 ، أن الحكومة المصرية "غير المتعاونة" وأن ادعاء السلطات بأنه لا يمكن العثور على المتهمين "خداع كامل".

تقول "المحكمة الجنائية الدولية" أن الجرائم المُتعلقة بالاختفاء القسري والتعذيب بشكلٍ خاص، هي نتاج "منهجية متعمّدة، واسعة الانتشار خاصةً إذا جاءت وفق سياسة دولة بسلطاتها الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية".

صدر العام 2016 تقرير عن "المجلس القومي لحقوق الإنسان" (جهة رسمية) يقول أنه حصل على ردٍ من وزارة الداخلية حول مصير 121 من أصل 191 مختفٍ قسرياً. واعتبر ذلك تطوراً إيجابياً على الرغم من مجهولية مصير 70 مواطناً، وكون أغلب الإفادات جاءت ممن أستطاع التواصل مع أهله بعد ترحيله للسجون، وبعد فترات اختفاء طويلة، وشهادات حول التعرض للتعذيب.    

في القصة الأخيرة، صدرت حتى الآن ثلاثة ردود أفعال من جهات رسمية، ولكن نبدأ برواية أسرة المتوفي: بعد شهرين كاملين من اختفاء الباحث خرج الشقيق الأكبر ليعلن عبر الهاتف على شاشة إحدى القنوات المذاعة خارج مصر تلقيه اتصالاً صباح السادس من نيسان /أبريل الجاري يخبره بوفاة أخيه بمستشفى الأمراض النفسية وضرورة الحضور لاستلامه. وحسب الرواية، فإن هدهود ترك أخيه بعد تناوله العشاء في محيط منطقة "الزمالك"، مطلع شباط/ فبراير الماضي. وبعد أيام من محاولة الاتصال به دون جدوى، قامت العائلة باللجوء لجهاز الأمن العام والبحث في سجلات المقبوض عليهم دون التوصل لشىء، فقدمت بلاغاً عن الاختفاء. وبعد ذلك بأيام وجيزة تلقى أخوه ـ حسب روايته ـ زيارة من أمين شرطة أخبره بضرورة الحضور إلى مكتب الأمن الوطني بقسم شرطة المطرية (شرق القاهرة). وهناك بعد لقاء قصير مع أحد الضباط، أخبره أن شقيقه سيعود للمنزل خلال يومين على الأكثر، وهو ما لم يحدث.

مرت الأيام وشهدت عدة وساطات إلى أن أبلغ أحدهم العائلة بشكل غير رسمي نقل الباحث إلى المستشفى النفسي. توجه الأهل إلى هناك ولم يتم تمكينهم من الزيارة حتى إعلان الوفاة. كانت أول ردود الفعل من وزارة الداخلية في بيانٍ نفى أن يكون تمّ احتجاز أيمن هدهود بشكل غير قانوني، وأِشار إلى تلقي قسم شرطة الزمالك بلاغاً من حارس بناية عن محاولة تعدي "هدهود" على وحدة سكنية، وكونه في حالة نفسية غير منضبطة، وبناء عليه تم اتخاذ الإجراءات الرسمية التي انتهت بإيداعه المستشفى النفسي على ذمة التحقيق. جاء بيان النيابة العامة تصديقاً كاملاً على رواية الشرطة، لكنه أسهب في ذكر وقائع سابقة تشير إلى الاضطراب النفسي للمتوفي (وهو ما لم تُنكره محاميته أو الأسرة).

 غير أن البيان أعطى تفصيلاً هاماً عن تاريخ الوفاة فأشار أنها وقعت قبل شهر كامل مع التأكيد على انتداب متخصص من النيابة حينها الذي أثبت عدم وجود شبهة جنائية وأعطى تصريحاً بالدفن. وذكر البيان تلك الواقعة - وهي خطيرة - وتجاهل إعطاء أي تفسير حول التضارب والثغرات الواضحة في منطق المحاججة، فكيف كان المتهم معلوم الهوية ولم يتم إبلاغ أهله عند وفاته؟ وتطالب المستشفى الأهل تارة بتصريح من النيابة وينكرون تارة أخرى وجوده. استمر هذا التخبط الذي لم يخرج للنور إلا بقرارٍ من رئيس نيابة جزئية - اطلع على تصريح الدفن وشهادة الأهل الذين أشاروا أيضاً إلى ملاحظتهم آثار كدمات على وجه المتوفي - فأمر بفتح التحقيق وإحالة الجثة للتشريح وانتظار تقرير الطب الشرعي عن سبب الوفاة. لكن بيان النيابة العامة لم ينتظر صدور التقرير الأولي للتشريح، كما لم يغفل محرره في نهايته من التحذير من "الانجراف وراء روايات وأغراض أهل الشر الموجهة ضد مصلحة الوطن". وقد صدر البيان مع بدء زيارة لوزير الخارجية المصري إلى الولايات المتحدة، قال أن هدفها تكثيف التواصل والتشاور بين البلدين الصديقين ومواصلة تعزيز كافة أطر العلاقات الاستراتيجية المتميزة بينهما، بينما تواترت تقارير وتحليلات تشير إلى الظلال القاتمة التي ألقتها تلك الواقعة وهي تستحضر في طياتها عدة جرائم تبدأ من الإخفاء وتنتهي بالتورط في القتل.

تقول "المحكمة الجنائية الدولية" أن الجرائم المُتعلقة بالاختفاء القسري والتعذيب بشكلٍ خاص، هي نتاج "منهجية متعمَّدة، واسعة الانتشار، خاصةً إذا جاءت وفق سياسة دولة بسلطاتها الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية".

رد الفعل الرسمي الثالث، كان لـ"المجلس القومي لحقوق الانسان"، وهو جهة رسمية يكفل لها القانون الاستقلالية في ممارسة مهامها، فصدر عنه بياناً يوجه بضرورة شمول تحقيقات النيابة العامة لكل ما يثار حول ادعاء تعرض الباحث للاختفاء القسري قبل وفاته، وأن القائمين على المجلس في انتظار نتائج تحقيقات النيابة العامة في ضوء قرار تشريح الجثمان لاستبيان حقيقة الأسباب التي أدت للوفاة والتحقق مما إذا كانت هناك شبهة جنائية. واهتمت رئيس المجلس، وهي وزيرة سابقة، بإعطاء تصريحات قالت فيها إن المجلس يتابع عن كثب كل ما يتعلق بقضايا الحبس الاحتياطي والشكاوى الواردة بشأن دعاوي الاختفاء القسري، ويفتح أبوابه لتلقي أي شكاوى متعلقة بأي انتهاكات، ويتواصل على الفور بشأنها مع الجهات المعنية وأصحاب الشكاوى.

يأتي هذا البيان تماشياً مع توجه المجلس الذي شهد تطوراً في أدائه عبر السنوات نتيجة عدة أسباب، لعل أهمها تزايد الحملات الحقوقية المحلية والدولية من أجل كشف الانتهاكات الخاصة بالحريات في مصر وعلى رأسها ملف الاختفاء القسري، فصدر تقرير رسمي عن المجلس في العام 2016 جاء فيه أنه حصل على ردٍ من وزارة الداخلية حول مصير 121 من أصل 191 قضية، وعلى الرغم من مجهولية مصير ما يقارب ال 70 مواطناً، وعلى الرغم من كون أغلب الإفادات جاءت عن حالات استطاع أصحابها التواصل مع أهلهم بعد ترحيلهم للسجون على ذمة قضايا جنائية، بعد فترات اختفاء طويلة في أماكن احتجاز غير قانونية، وشهادات حول تعرضهم للتعذيب، إلا أن صدور مثل ذلك التقرير من جهة رسمية كالمجلس الحقوقي، كان أمراً هاماً.

من ناحيةٍ أخرى ساهم طرح تشكيل جديد لعضوية المجلس (نيسان/أبريل 2021) في إيجاد دور أوسع لـ"الوساطة" مع الجهات الأمنية، ونجح بالفعل في تحقيق ذلك في عدد من الحالات، سواء فيما يتعلق بتحسين ظروف حبس البعض أو إخلاء سبيلهم، إضافة إلى المشاركة في صياغة ما يسمى بـ"الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان" والترويج لها أمام المؤسسات الدولية والغربية. غير أن كل ذلك لم يسمح بشكلٍ عام بتأسيس متغير حقيقي في هذا الملف بما يمكِّنه من تفادي النهاية المفجعة لـ"هدهود" أو لآخرين محتملين. وقد أعلنت رئيسة المجلس أنها قد تلقت على مدار عام 2019، شكوى حول حالات اختفاء قسري، لكنها لم تعلن عن مصائر اصحابها.

وعليه يمكن القول وعلى الرغم من الجهود، إن السمة الغالبة على أداء السلطة هو النفي بل والتمترس خلفه مهما تعاظمت حملات الضغط كما في قضية ريجيني من قبل وهدهود الآن. فما قاله رئيس الهيئة العامة للاستعلامات ونقيب الصحافيين المصريين أمام الصحافيين الاجانب عام 2015، هو نفسه ما جاء على لسان قيادات أمنية في المسلسل الرمضاني "الاختيار 3" (1) من طرح مصائر عناصر إرهابية تمّ الإبلاغ عنها كمواطنين تعرضوا للاختفاء القسري، وهو السياق نفسه الذي اختار رئيس الجمهورية التعبير عنه في مؤتمر الشباب بداية العام الحالي 2022، موجهاً حديثه لصحافيين غربيين: "مستعد لتشكيل لجنة تأخذ كافة البيانات التي يتم طرحها وتداولها عن أعداد السياسيين المعتقلين والاختفاء القسري، ويتم الوقوف على حقيقة ذلك، وعند الانتهاء تقوم اللجنة بإعلان نتائجها على العلن"، ثم أردف: "اللجنة ستكشف هل أن ما يتم تداوله حقيقي أم لا"، مؤكداً: "أحيانا تكون البيانات غير دقيقة، والموضوعات لا تكون كاملة"، وأنهى بانحياز واضح، فقال: "هل انتوا بتحبوا شعبنا أكثر مننا.. خايفين على بلدنا أكثر مننا؟.. بلادنا عايزه تعيش والشعب عايز يكبر زي الباقي.. ومحدش يعيقنا ولا يعرقلنا.. ومحدش بيحب شعب مصر أكثر مننا".

تخفيف الوطأة ومخاوف التواطؤ

شغل أيمن هدهود، وهو باحث اقتصادي، يحمل صفة خبير من الجامعة الأمريكية بالقاهرة، عضوية هيئة عليا لحزب سياسي معترف به يرأسه السياسي "محمد أنور السادات"، وهو الوجه البارز في دور "الوساطة" للمجلس القومي لحقوق الإنسان، والمشهود له بالسعي على مدار العامين الماضيين. لكن القضية هذه المرة تختلف، فقد انتقل دوره على رقعة الشطرنج من وسيط إلى شاهد. فهو وفق تتابع الأحداث، الشاهد الرئيسي بل الوحيد على فترة الاختفاء. ولذا لاقى البيان الذي نشره تعليقاً على الوفاة انتقادات واسعة، لعدة أسباب، أولها إلقاؤه بالمسؤولية الطبية على المستشفى وكشف ما وصفه ب"التقاعس الإداري". كما تقدمت هيئة الحزب البرلمانية بطلب إحاطة للكشف عن تورط المستشفى النفسي وقسم حجز المتهمين بها في أفعال مخالِفة للقانون. وهكذا استبعد البيان الإشارة ـ ولو بالتلميح ـ إلى ضرورة الكشف عن الدافع وراء تصرف المستشفى، والمسؤول الحقيقي عن الإخفاء. ثانيها، أنه على الرغم من تنويهه بضرورة انتظار نتائج التحقيق إلا أنه اهتم بشن هجوم مبطن على الناشطين في التفاعل مع القضية، فذكر نصاً "الحزب يقدّر ويتفهم حالة الغضب الكبير في الوسط السياسي والحقوقي على أثر تصدير الواقعة للرأي العام ووضعها في شكل وإطار غير حقيقي". ولم يغفل البيان الإسهاب في الدفاع عن دوره في "الوساطة" عامةً عن سجناء الرأي، وعن "هدهود" بشكلٍ خاص.

تسببت وفاة "هدهود" في فتح نقاش حول مدى ملاءمة سياق "الوساطة" الذي يتزعمه السياسي "محمد أنور السادات"، وآخرون، وهو السياق المرتبط غالباً بعدم الإعلان عن الاختفاء أملاً في "تخفيف الوطأة" وخروج المحتجَز دون "استفزاز" الأجهزة الأمنية.

وقد تسببت وفاة الباحث في فتح نقاش حول مدى ملاءمة سياق "الوساطة" الذي يتزعمه الرجل وآخرون، وهو السياق المرتبط غالباً بعدم الإعلان عن الاختفاء أملاً في "تخفيف الوطأة" وخروج المحتجَز دون "استفزاز" للأجهزة الأمنية.

الصمت والتكبيل

في سياق غير بعيد، تشهد القوى السياسية المدنية في مصر (المعارضون من داخل مصر لكل من السلطة الحالية وجماعة الإخوان المسلمين)، حالة من التراجع في إعلان المواقف الجماعية واتخاذ خطوات عملية تصعيدية، وهو ما انعكس بدوره على درجة تأثيرها في صياغة موقف قادر على التأثير في الشارع و الضغط على السلطة في القضايا الملحة، ومن بينها قضايا الحريات التي تمثل وفاة "هدهود" عنوانها الآن. بدأت آخر فصول المواجهة والتواجد الحركي والسياسي منتصف عام 2016 مع الدعوة للتظاهر ضد التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، وشهدت محاولات النزول إلى الشارع على الرغم من الملاحقة والقبض على مئات الشباب (تمّت محاكمتهم وفق قانون التظاهر الحالي الذي يلاقي انتقادات عدة)، وكذلك سلسلة من الندوات والمؤتمرات المطالِبة بالتصويت ضد الاتفاقية داخل البرلمان الذي كان يشهد حينها تكتلاً معارضاً على الرغم من قلة عدد المنتمين إليه، هو تكتل "25- 30". تكررت الموجة ولكن بشكل أقل قوة مع اقتراب التصويت على التعديلات الدستورية التي سمحت بتمديد الفترات الرئاسية في نيسان/أبريل 2019، ثم جاءت الضربة الأعنف مع إجهاض الإعلان عن تحالف انتخابي معارض تحت عنوان "الأمل"، تم القبض على عدد من قياداته الشابة وقيادات التكتل السياسي المعروف بـ "الحركة المدنية" بما فيها المتحدثان الحالي والسابق باسمها.

منذ ذلك التاريخ (حزيران/ يونيو 2019 )، وفي ظل مباغتات شرسة من السلطة التي راحت تقوم بحبس السياسيين أوالمقربين منهم للضغط عليهم من أجل التزام الصمت، إضافةً إلى إسقاط برلمانيين معارضين في وقائع تزوير واضحة، تراجعت دينامية تلك القوى إلى حد الاقتراب من الشلل، عدا بعض البيانات الجماعية ومخاطبات فردية للجمهور عبر منصات التواصل الاجتماعي في قضايا رئيسية كـ"سد النهضة".

 أما ملف "الحريات" فلم يبارح مساحة البيانات الجماعية حيناً، والفردية غالباً، وجميعها أيضاً عبر منصات التواصل الاجتماعي، حيث لم يعد وارداً ظهور أي من تلك الوجوه على شاشات الفضائيات المصرية.

وفي تعليق يطرح وجهاً آخر للتفسير أو مكملاً له، كتب الناشط الحقوقي نور خليل: "بعدما لاقته الدولة من ضغوط دولية في قضية ريجيني في العام 2016 انتشرت داخل أوساط النخبة السياسية والأكاديمية والحقوقية أن السلطة قد تعلمت، وأن الأجهزة فيها ستغير من منهجها ولن تكرر مثل هذه الأغلاط، ومن ثم أصبح هناك تعبير دائم التردد والتجدد كل فترة هو "انفراجة قريبة محتملة"، فكان الصمت وإرجاء إعلان المواقف هو السلوك المتبع. إلا أن قضية "هدهود" قد أعادت الجميع الآن بلا شك إلى المربع صفر، لا توجد مراجعة ولا نوايا لتغيير المنهج المتبع من جانب السلطة، فماذا أنتم فاعلون؟"

بيان النيابة العامة لم ينتظر صدور التقرير الأولي لتشريح جثة أيمن هدهود، كما لم يغفل محرره في نهايته من التحذير من "الانجراف وراء روايات وأغراض أهل الشر الموجهة ضد مصلحة الوطن". والسمة الغالبة على أداء السلطة هو النفي بل والتمترس خلفه مهما تعاظمت حملات الضغط كما في قضية ريجيني من قبل وهدوهود الآن، الذي لم يصدر به التقرير الأولي الرسمي للطب الشرعي. 

وعليه، أوضحت التطورات السريعة في قضية "هدهود" أن القوى السياسية - التي شهدت على مدار السنوات العشر الأخيرة مساحات تقل أو تزيد من القدرة على التأثير والوصول ببرامجها وأفكارها للجمهور العام عبر مسارات مختلفة على رأسها صندوق الانتخاب - ما زالت رهن "التكبيل" الذي أصاب أوصالها وكياناتها بدرجة كبيرة من التكلس، ولم يعد معروفاً حجم الفعل الذي يمكن أن ينتج عنها إذا ما قررت الاشتباك.

ساحة المواجهة الوحيدة

لا زال "الفضاء الالكتروني" (حيث جرت الدعوة للنزول يوم 25 كانون الثاني/ يناير 2011) هو ساحة الانطلاق السانحة الوحيدة حتى الآن، وفي القلب منه تأتي كفاعل رئيسي المجموعات الناشطة الحقوقية، أفراد ومنظمات، ومواطنون مهتمون بالشأن العام، وبعض الصفحات والمنصات الإعلامية المستقلة.

نشطت المجموعات الحقوقية داخل مصر على مدار السنوات الماضية في شن حملات متتالية تحت عنوان "أوقفوا الاختفاء القسري"، وقد كان لها الفضل في دخول المصطلح إلى الحياة العامة، كما ارتفعت موجة التصعيد في العامين 2015 و2016، وخلالها رصدت بعض التقارير الصادرة لمنظمات عاملة داخل مصر تسجيل 147 حالة اختفاء قسري في شهرٍ واحد بينما ذهبت تقديرات أخرى من منظمات دولية وغربية أو مجموعات سياسية تعمل من خارج مصر إلى تقديرات عامة تتخطى 2000 حالة. وكان المنتج الرئيسي الإيجابي لتلك الحملات هو القدرة على تكاتف الجهود مع المؤسسة الحقوقية شبه الرسمية، وتلقي رد فعلٍ رسمي بإعلان وزارة الداخلية عن مصير 121 مواطناً من أصل 191.

منذ حزيران/ يونيو 2019 ، وفى ظل مباغتات شرسة من السلطة التي راحت تقوم بحبس السياسيين أو المقربين منهم للضغط عليهم من أجل التزام الصمت، إضافةً إلى إسقاط برلمانيين معارضين في وقائع تزوير واضحة، تراجعت الدينامية المطالبة بالحريات والحقوق، عدا بعض البيانات الجماعية ومخاطبات فردية للجمهور عبر منصات التواصل الإجتماعي في قضايا رئيسية كـ"سد النهضة".

"بعد الضغوط الدولية في قضية ريجيني انتشرت داخل أوساط النخبة السياسية والأكاديمية والحقوقية أن السلطة قد تعلمت، والأجهزة ستغير من منهجها وأصبح هناك تعبير دائم التردد هو "انفراجة قريبة محتملة"، فكان الصمت وإرجاء إعلان المواقف هو السلوك المتبع. قضية "هدهود" قد أعادت الجميع إلى المربع صفر: لا توجد مراجعة ولا نوايا لتغيير المنهج المتبع، فماذا أنتم فاعلون؟".

خفتت قوة تلك الحملات في السنوات الأخيرة، وقد تذهب بعض التفسيرات إلى تراجع وتيرة الظاهرة نفسها، وهو ما يعود بنا بالأصل لسببها الرئيسي، وهو احتجاز مواطنين بشكل غير قانوني في أماكن غير معلومة من أجل انتزاع الاعترافات، وهو الذي جاء مواكباً لتظاهرات جماعة الإخوان المسلمين داخل مصر التي قلت وتيرتها مع نهاية عام 2014، كما غيرها من دعوات التظاهر كتلك التي شهدتها مصر عام 2019، وموجات العمليات الإرهابية والانتقامية من أفراد وقوات الجيش والشرطة داخل وخارج سيناء والتي قلّت وتيرتها هي الأخرى على مدار السنوات الثلاث الأخيرة. إلا أن خروج قصة "هدهود" بقسوتها للعلن جاء ليؤكد أن الوتيرة قد تهدأ لكنها لم تنتهِ وأنه لا يمكن حصر أسبابها، وأن الإعلان عن واقعة كهذه ترتبط بناشط سياسي وباحث معروف تعطي احتمالات قوية عن وجود آخرين مجهولين لا زالوا يتعرضون بشكل دائم لتجربة "الاختفاء القسري"، سواء انتهى بهم الأمر للمصير نفسه أم لا. ولذا تنشط المجموعات نفسها من جديد في موجة مواجهة أخرى غير معلومة النتائج سواء على مستوى التأثير أو على مستوى مساحات دفع الثمن المحتمل.

النهاية مفتوحة

بعد الإعلان عن وفاة "هدهود" بيومٍ واحد، سارعت أسرة شاب ليست له أي انتماءات سياسية ويعمل موظفاً في شركة حكومية بالإعلان عن اختفائه بعد القبض عليه منتصف آذار/ مارس الماضي، وترجيح الأهل أن السبب في ذلك هو نشره انتقادات لموجة الغلاء على صفحته الإلكترونية. قالت أسرته: "التزمنا الصمت تقديراً لمساعي الوساطة ورغبة في عدم استفزاز مَن مِنَ المحتمل أن يكون في قبضتهم، لكن بعد هذه الوفاة المفجعة كان علينا أن نتحرك". 

أما في قضية "هدهود" نفسه، فإلى الآن لم يصدر التقرير الأولي الرسمي للطب الشرعي المصري بينما أصدرت "منظمة العفو الدولية" تقريراً قالت فيه أنها حصلت على صور ضوئية واضحة لجثة المتوفي بعد تشريحه، وعرضتها على أطباء شرعيين دوليين، وبناء عليه أوردت بعض التفاصيل الهامة التي تبقى بحاجة لنتائج تحقيق جاد. فقد قال التقرير: "يظهر الجسم التغييرات المبكرة للتعفن الذي يشير إلى الموت قبل بضعة أيام ولكن ليس أسابيع، لا يمكن تفسير العلامات الموجودة على الوجه والساعدين بالعمليات الطبيعية التي تحدث بعد الموت (التعفن)، فهي تمثل إصابات. قد يشير توزيع هذه العلامات بقوة إلى الإيذاء المنهجي المتكرر أثناء الحياة، أي سوء معاملة / تعذيب. يشير المظهر المنخفض للإصابات وتوزيعها على الساعدين والوجه إلى أنها كانت على الأرجح ناجمة عن الحروق وليس الضربات، من غير المحتمل أن تكون الإصابات في حد ذاتها هي السبب المباشر للوفاة، لكن سوء المعاملة قد يؤدي لها بسبب أمراض القلب التي قد تكون موجودة مسبقاً، أو بدلاً من ذلك، قد تكون هناك أشكال أخرى من سوء المعاملة لم تترك آثاراً خارجية، وعلى سبيل المثال الاختناق".

______________________

هوامش:

ـ رواية الأهل عبر مداخلة هاتفية على إحدى القنوات الفضائية: https://bit.ly/3vzbLSW
ـ بيان وزارة الداخلية حول واقعة وفاة أيمن هدهود: https://bit.ly/3MmActz
ـ بيان النيابة العامة حول واقعة وفاة أيمن هدهود: https://bit.ly/3OvsEGy
ـ بيان المجلس القومي لحقوق الإنسان حول واقعة وفاة أيمن هدهود: https://bit.ly/3L4ry2p
ـ بيان الحزب السياسي والطرف الوسيط حول واقعة وفاة أيمن هدهود: https://bit.ly/3ECCd27
ـ تقرير منظمة العفو الدولية حول واقعة وفاة أيمن هدهود:   https://bit.ly/3rGR5XS

______________________

 1- مسلسل رمضاني مصري يتناول أحداث انتفاضة يناير 2011 وما اعقبها، وبالاخص وفي الحلقة الثالثة المعروضة هذا العام 2022، الانقلاب العسكري على الرئيس مرسي وتولي الفريق عبد الفتاح السيسي السلطة في يونيو- يوليو 2013

مقالات من مصر

عبد الله النديم، ثائر لا يهدأ

أشهرت البعثة البريطانية إفلاس مصر فى السادس من نيسان/ إبريل عام 1879. وفي أعقاب ذلك الإعلان، قام السلطان العثماني بعزل الخديوي إسماعيل وتولية ابنه "محمد توفيق باشا" على مصر بدلاً...

عيش.. حرية.. إلغاء الاتفاقية!

منى سليم 2024-03-29

هل يستقيم ألا تغيِّر الحرب على غزة موازين الأرض؟ أو لا يصير الى صياغة برنامج سياسي مصري ينطلق من إلغاء هذه معاهدة كامب ديفيد، وأن يكون ذلك ركيزة للتغيير الجذري...

كيف جرى تكبيل مصر واستعبادها؟

رباب عزام 2024-03-21

يبدو أن السلطة المصرية لن تتوقف نيتها في بيع الأصول والأراضي، ولن تكتفي فقط بما حُسم من صفقات منذ العام 2021، بل ستسعى إلى مزيد من عمليات البيع، تنفيذاً لاشتراطات...

للكاتب نفسه

عيش.. حرية.. إلغاء الاتفاقية!

منى سليم 2024-03-29

هل يستقيم ألا تغيِّر الحرب على غزة موازين الأرض؟ أو لا يصير الى صياغة برنامج سياسي مصري ينطلق من إلغاء هذه معاهدة كامب ديفيد، وأن يكون ذلك ركيزة للتغيير الجذري...

مصر التي كسرت خاطري وتقيّد فمي

منى سليم 2023-11-03

هل يأتي يوم تُحرِّرنا فيه مصر من وجعنا المكلوم منها وبها وعليها، فأجد نفسي على حين غرة ملتحمة بملايين أعرفها ولا تعرفني؟ هل ترضى عنا الأيام؟ وهل سنمتلك حينها القدرة...