قضية المساواة في الإرث بالمغرب

أصدر مؤخرا "المجلس الوطني لحقوق الإنسان" المغربي وهو مؤسسة رسمية دستورية، تقرير "وضعية المساواة والمناصفة بالمغرب"، توقف فيه عند أوضاع المرأة والتحديات التي لا زالت قائمة من أجل تمتعها بمختلف الحقوق بمساواة مع الرجل. قدم التقرير عدداً من التوصيات ركزت على نقاط ضعف ما زالت قائمة، بعضها فيه تمييز صارخ ضد النساء، وإعاقة لتحقيق التنمية بشكل عام، ووضعت الأصبع على الإشكالات
2015-11-19

لطيفة البوحسيني

أستاذة جامعية مختصة بقضايا النساء، من المغرب


شارك
لالة السعيدي - المغرب

أصدر مؤخرا "المجلس الوطني لحقوق الإنسان" المغربي وهو مؤسسة رسمية دستورية، تقرير "وضعية المساواة والمناصفة بالمغرب"، توقف فيه عند أوضاع المرأة والتحديات التي لا زالت قائمة من أجل تمتعها بمختلف الحقوق بمساواة مع الرجل. قدم التقرير عدداً من التوصيات ركزت على نقاط ضعف ما زالت قائمة، بعضها فيه تمييز صارخ ضد النساء، وإعاقة لتحقيق التنمية بشكل عام، ووضعت الأصبع على الإشكالات المرتبطة بالفقر والتهميش والهشاشة التي تمس شرائح واسعة من المغاربة وضمنهم النساء. التوصيات لم تطرح عموما أدنى مشكل، أو لم يتم الانتباه إليها ولا الاهتمام بها بالشكل الذي تستحقه. إلا توصية واحدة أثارت جدلا واسعا، هي تلك المتعلقة بالمساواة في الإرث بين الجنسين، حيث جاء في التقرير بأن "المقتضيات القانونية غير المتكافئة المنظِّمة للإرث (تساهم) في الرفع من هشاشة وفقر الفتيات والنساء".

مبدأ أم سياسة؟

اعتبر البعض إثارة قضية الإرث على بعد أشهر من موعد إجراء الانتخابات التشريعية، وما يمكن أن تسمح به من استغلال انتخابي، استفزازا واضحا وخطوة غير محسوبة العواقب. وبغض النظر عن مدى أهلية المجلس لإصدار توصية من هذا القبيل، وعن الظرف الزمني الذي وردت فيه.. وبصرف النظر عن أن الحكومة الحالية يقودها حزب سياسي إسلامي ("العدالة والتنمية") عبّر أكثر من مرة عن معارضته الشديدة بل رفضه لأي إصلاح أو مراجعة لعدد من قضايا المجتمع، وخصوصا تلك التي ترتبط بوضع المرأة وبقضية المساواة بين الجنسين في الحقوق المدنية، وسبق له أن قاد حملة واسعة لمعارضته إصلاح قانون الأسرة في بداية التسعينات من القرن الماضي، حين كان بعدُ حركة دعوية صرفة، ثم لاحقا حين أصبح حزبا سياسيا معارِضا في ظل حكومة التناوب (1998-2002). هكذا، وبغض النظر عن كل هذه الحيثيات وعن اعتبار التوصية تجاوزا للحكومة بل وحتى تشويشاً على عملها، تظل للقضية راهنيتها ومشروعيتها، وتستدعي مثلها مثل كل القضايا الخلافية، معالجتها وطرحها للنقاش بدل العمل بمبدأ "كم حاجة قضيناها بتركها"، خصوصا وأنها مطروحة لدى العديد من الفاعلين والنشطاء في مجال حقوق الإنسان.
لم يسبق لمكونات الحركة النسائية المغربية أن طرحت قضية المساواة في الإرث كمطلب مباشر ضمن المطالب التي شكلت جوهر الحملة الترافعية الواسعة التي سبق لها أن قادتها من أجل إصلاح قانون الأسرة (الذي، للإشارة، كان يتضمن كتاباً حول الإرث). لكن ذلك لم يكن لاعتبارات مبدئية أو لغياب الاقتناع، بل لوعيها بأن هذه النقطة تكتسي حساسية كبيرة في سياق لم يكن حينذاك مهيأ لوضعها في النقاش العمومي. إذاً تم إرجاء طرحها عمداً، بانتظار أن تتوفر الشروط التي تسمح بالانتقال من نقاش يطبعه التهديد والتخوين والتكفير (كما كان الحال في موضوع مدونة الأسرة)، إلى نقاش يعتمد الحجة والدليل والبرهان، ويمر بسلاسة ودون اتهامات متبادلة.

ثلاث فئات

فهل السياق الحالي يسمح بطرح القضية؟ يمكن التوقف عند ردود الأفعال التي أثارتها توصية المجلس وإجمالها في ثلاث فئات:
1- فئة أولى تنطلق من اعتبارات حقوقية صرفة ومن تقدير ايجابي للسياق العام الحالي الذي يسمح من وجهة نظرها بطرح القضية، مركزة على الإرادة الإيجابية للمؤسسة الملكية التي بفضلها تحقق عدد من الخطوات والمكتسبات ومن بينها إصلاح مدونة الأسرة.
2- فئة ثانية ترفض رفضا قاطعا إثارة الموضوع، مصرة على اعتبار النص القرآني المنظِّم للإرث قطعي الدلالة ولا يحتمل أي اجتهاد أو تأويل، وأي مساس به هو مساس بالإسلام وخرق لقداسته. هناك من عبّر عن هذا الرأي بهدوء، مشيرا الى أن دستور المملكة يعتبر الدين الإسلامي من الثوابت. وهناك بالمقابل، من عبّر عن الرأي نفسه بلغة يطبعها تهديد واضح، وتصر على اعتبار الأمر خطاً أحمر.
3- فئة ثالثة تعتبر أن الوقت ليس مناسبا، وأن الموضوع لا يدخل ضمن الأولويات التي تستحق التركيز عليها في ظل انشغالات سياسية تعتبر أكثر أهمية في نظرها وتتطلب تكثيفا للجهود بدل تشتيتها في مواضيع خلافية. ولذلك فهي تفضل إرجاء طرح القضية حتى تنضج الشروط، مذكرة بأن غالبية الشعب والنساء من بينها ليس لهم ما يرثونه أصلاً!
وللتذكير، فإذا كانت كل من الفئة الأولى والثانية تعبِّران عن تيارين واضحي المعالم يجسدان رأيين يخترقان المجتمع المغربي، ويطلق عليهما وصف التيار الحداثي والتيار الإسلامي، فإن الفئة الثالثة تتشكل من خليط يتكون من الإصلاحيين والإسلاميين وحتى من بعض الحداثيين، بمن فيهم بعض الأصوات النسائية/ النسوية، ينطلق كلٌ منها من اعتبارات ومبررات تبدو مختلفة بل وحتى متناقضة، ولكنها في نهاية المطاف تلتقي في محصلة واحدة وهي تجنب الخوض في الموضوع هنا والآن.
ومن المفيد التوقف كذلك عند الحجج والمنطلقات التي تم التعبير عنها حتى الآن:
- حجج المدافعين عن المساواة في الإرث تنبني على منطلقات مختلفة ولكنها تلتقي في النتيجة. هناك منطلقات سوسيولوجية تركز على التحولات الضخمة التي اخترقت المجتمع المغربي منذ الاستقلال (1956)، حيث أصبحت النساء حاضرات بكثافة في مختلف الميادين. وهي تحولات أدت إلى اقتحامهن لسوق العمل، والمساهمة في إعالة الأسر، بل هناك أعداد كبيرة منهن يعتبرن المعيل الرئيس للأسرة، هذا عدا إسهامهن في الناتج الوطني الخام وفي أداء الضرائب. يضاف إلى ذلك اتساع وتزايد عدد من أصبح، حسب المندوبية السامية للتخطيط، يمتلكن عقارات... وبالتالي لم يعدن في وضع من ينتظرن معيلاً، ولم يعد ذكور العائلة مسؤولين عنهن، مما ينفي السبب "العقلاني" للتمييز في الإرث.
- منطلقات حقوقية تعتبر أن المغرب انضم إلى عدد من الآليات والاتفاقيات الدولية في مجال حقوق الإنسان، ومن ضمنها "اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة"، وأنه أخذ على نفسه الالتزام بتفعيلها عبر إجراءات وتدابير بهدف ملاءمة القوانين الوطنية معها، خصوصا وأن الدستور المغربي ينص في ديباجته على تفوق القانون الدولي على القانون المحلي.
- منطلقات دينية تعتمد على منهجية الاجتهاد والفكر المقاصدي. وفي هذا الإطار، يجب التذكير بأن هناك من يحاول الاجتهاد من داخل النص ويسعى إلى تقديم تأويل يُعضِّد من خلاله دفاعه عن مبدأ المساواة بين الجنسين، وهي المنهجية التي تضع نفسها في قلب المرجع الديني ولكنها تلح على أهمية التشبث بروح النص وليس حرفيته، التي تبعده في سياقنا الإسلامي الحالي، عن القيم التي جاء أصلا (من وجهة نظر هذه المنهجية) للدفاع عنها، كقيم العدل والإنصاف والمساواة. فيما ينحو البعض الآخر إلى تبني مقاربة أخرى تقوم على "أنسنة" النص الديني والتأكيد على ضرورة وضعه في سياقه التاريخي بالشكل الذي يجعله حاضرا كإرث ثقافي وحضاري عبر إسهامه في استنبات عدد من القيم التي أغنت الحضارة الإنسانية، وفي الآن نفسه في تجاوز ما يتعلق بالمعاملات والأوضاع الإنسانية والاجتماعية التي تعرف بالضرورة تحولات وتغيرات عميقة تتطلب أخذها بالاعتبار.
وضع القضية محط النقاش العمومي، ومهما كان مآل التوصية والمصير الذي ستلقاه والذي لا يمكن التكهن به مسبقا، وبغض النظر عن الهجوم الذي تعرض له "المجلس الوطني لحقوق الإنسان"، نَزَع طابع التحريم عن نقاش هذه المسألة، وأوحى أن التقدم في حل الإشكال هو مسألة وقت. وهو سيتأثر بالتأكيد بطبيعة موازين القوى على المستوى السياسي، كما حدث بخصوص مدونة الأسرة التي يحتفل المغرب اليوم بالذكرى العاشرة لصدورها..

 

للكاتب نفسه