من تعبيرات ثورة "الهامش" في تونس

بعد الثورة، عرفت شوارع تونس الكبرى وأحياؤها الشعبيّة انتشاراً هائلاً لأنشطة الاقتصاد "غير النظامي". ومؤخّراً، تحول هذا الانتشار إلى هاجس لدى مسؤولي الاقتصاد الرسميّين، يبرز في خطابهم بوصفه من مسبّبات أزمة الاقتصاد الوطني، ومظهرا أساسيّاً لتراجع "هيبة الدولة" وعجزها عن أداء وظائفها الحيويّة، ومنها وظيفة ضبط الفضاء العام وإدارته. والحقّ أنّ هذا الضرب من الخطاب،
2015-07-29

جهاد الحاج سالم

باحث اجتماعي من تونس


شارك

بعد الثورة، عرفت شوارع تونس الكبرى وأحياؤها الشعبيّة انتشاراً هائلاً لأنشطة الاقتصاد "غير النظامي". ومؤخّراً، تحول هذا الانتشار إلى هاجس لدى مسؤولي الاقتصاد الرسميّين، يبرز في خطابهم بوصفه من مسبّبات أزمة الاقتصاد الوطني، ومظهرا أساسيّاً لتراجع "هيبة الدولة" وعجزها عن أداء وظائفها الحيويّة، ومنها وظيفة ضبط الفضاء العام وإدارته.
والحقّ أنّ هذا الضرب من الخطاب، بارتكازه على لغة الأرقام الجافّة واعتماده مقاربة مركزيّة دولانيّة، إنّما يحجب الوجوه الفعليّة لأنشطة الاقتصاد "غير النظامي" كما تشكّلت وتوسّعت في تونس الثائرة.
يتطلب فهم هذه الأنشطة مقاربة محايثة لممارسات فاعليها وموضعتها ضمن سياقها الاجتماعي العام. في حيّ دوار هيشر، أحد أضخم أحياء تونس الشعبية وأقدمها، الواقع بولاية منوبة غرب العاصمة وعلى هوامشها الاجتماعيّة والمجاليّة، يضطرّ الكثير من السكّان إلى الاستعمال النشط اقتصادياً للشارع، ضمن وضع اجتماعي يتّسم بندرة فرص المعيشة والهشاشة الفائقة.
ويأخذ ذلك صورة تحويل الفضاءات الخارجيّة للمنازل والأزقّة والطرق إلى رأسمال يستثمر في الكسب المادّي، من خلال تطويعها لأنشطة تجاريّة مثل دكاكين بيع المواد الغذائيّة والميكانيك والخردة الصغيرة أو نُصب "بسطات" بيع الخضار والغلال والملابس.. وحتى استثمار حاويات الفضلات. وهي في معظمها أنشطة "غير نظامية"، أي لا تخضع لمعيار القاعدة القانونيّة التي تحدّدها السّلطات الحضريّة.

"البرباشة" ومصنع البلاستيك

هذا النشاط سمح بدخول فاعلين جدد إلى شوارع دوّار هيشر، من بينهم "البرباشة"، أي جامعي الفضلات البلاستيكيّة والمواد القابلة للتدوير عموماً. ففي ساعات الليل المتأخرة، يجوب "البرباشة" أزقّة الحيّ دافعين عرباتهم اليدويّة، باحثين في الحاويات عن قوارير الصودا والمياه المعدنيّة المستعملة، التي تجد طريقها إلى أحد دكاكين التجميع تشتريها بمقابل بخس لا يتجاوز الستّين ملّيماً للقارورة البلاستيكيّة الواحدة. ومن ثمّ يعاد بيعها بالجملة إلى مصنع البلاستيك الذي يقع في المنطقة الصناعيّة بدوّار هيشر، ليعاد تدويرها..
"البرباش" لا يمثّل سوى فاعل مخصوص في حقل اقتصادي واسع، غير أنه الفاعل الأدنى مكانة والأقلّ استفادة من الموارد المتداولة ضمنه، ذلك أنه يمارس نشاطاً اقتصاديا شاقّاً مقابل كسب مادّي بخس. فبحسب ملاحظاتنا من خلال الدراسة الميدانية على امتداد عام كامل، يجمع "البرباش" الواحد يوميّاً ما معدّله مئة قارورة بلاستيكيّة، أي ما يساوي 6 دنانير عند البيع لدكّان التجميع. وفي المقابل، يجني أصحاب محال التجميع مئات الدنانير أسبوعيّاً دون عناء تقريباً. وقد تكاثرت محال التجميع في الحيّ بعد الثورة حتى فاق عددها العشرة، وهي تحقّق أرباحها من الوساطة بين "البرباشة" ومصانع البلاستيك التي تعتبر الرابح الأكبر، إذ تجد يداً عاملة هشّة تضمن لها تجميع المواد الأوليّة التي تحتاجها في صناعتها، عبر وسيط غير مباشر، دون أن تلتزم معها برابطة شغليّة تعاقديّة وقانونيّة. وذلك وجه سافرٌ للاقتصاد "غير النظامي" مغيّب في خطابات مسؤولي الدولة في تونس.

 

قبائل حضريّة تحتلّ الأرصفة

أمّا في النهار، وقبل انتشار "البرباشة"، فتمتلئ أرصفة شوارع دوّار هيشر الرئيسيّة بنُصب بيع الخضار والغلال. وتشهد ساعات الذروة بشارع "خالد بن الوليد"، ثاني أكبر شوارع الحيّ، تعطّل حركة مرور السيّارات لفترات طويلة نتيجة انتشار الباعة وازدحام المارّة والمتسوّقين. فقد نمت في هذا الشارع، منذ سنوات عديدة، سوق للخضار والغلال هي اليوم أكبر أسواق الحيّ وأكثرها حركة. ولم يمنع الطابع غير النظامي لهذه السوق من نشوء عُرف يحكم عمل تجّاره ومعاملاتهم البينيّة. ففرش النصب في شارع "خالد بن الوليد" غير متاح لأيّ كان، إذ ينقسم أغلب التجّار إلى جماعات يحكم حركة تنازعها وتوافقها شكل توزيع أرصفة الشوارع وتقاسمها، بحيث يجب على أيّ وافد جديد الاحتماء بإحدى الجماعات في السوق أو استئجار مساحة من الرصيف بمقابل شهري قد يبلغ 150 ديناراً. وتتأسّس جلّ هذه الجماعات على رابطة مجاليّة (اسمها "الحومة")، فنجد أولاد "حومة عوين" و "حومة الشرّ" الخ...
فدوّار هيشر، مثله مثل بقيّة أحياء تونس الشعبيّة، ينقسم في داخله إلى مناطق تسمى "حوم". وتعتبر "الحومة" بحقّ رحماً من الأرحام المولّدة للهويّة والرابط الاجتماعي في تلك الأحياء. ففيها يكتسب الفرد مقداراً وفيراً من تنشئته الاجتماعيّة، كما تعرّف هويّته في نظر الآخرين بالإشارة إلى "حومته". ويتم استثمار هذا الانغراس المجالي للهويّة بسوق شارع "خالد بن الوليد" في تشكيل جماعات تنظم التجّار وتقسمهم ضمن حركة تنازعهم حول السيطرة على فضاءات الأرصفة والطرق، بوصفها رأسمالاً قابلا للتداول تجاريّاً: إنّها بمثابة "قبائل حضريّة" (بمفهوم عالم الاجتماع الفرنسي "ميشال مافيزولي")، تشتغل خارج نواميس بيروقراطية الدولة الحديثة، وتُبنى فيها العلاقات على الثقة والانتماء والألفة التي تتعارض مع المقولات الحديثة مثل المصلحة الفرديّة والتعاقد والقواعد الشكليّة الثابتة.
ولا يؤشّر ذلك الى أي عداء جوهراني للحداثة، بل إن طبيعة مسار التحديث في تاريخ تونس المعاصر هو الذي دفع بفئات شعبيّة واسعة إلى ابتداع أساليب عيش "غير نظامية" في ظلّ تحديث حصري خلق توزيعاً لامتكافئاً في الموارد، وهو ما جعل تلك الفئات مجرّدةً من الموارد الاجتماعية الكفيلة بضمان فرص المعيش، فتسعى إلى اكتسابها من خلال مسارات تخرق قواعد الدولة الحديثة، مثل الانخراط في الاقتصاد "غير النظامي". ذلك ما يرفض مسؤولو الدولة الاعتراف به، فيما يكتفون بإدانة الظاهرة وآثارها السلبية على الاقتصاد الوطني، بدل الإشارة إلى شروط وجودها الفعليّة الكامنة في التوزيع الاجتماعي المختلّ للثروة الذي أنتجه الطابع الحصري لسياسات الدولة الوطنية التحديثيّة.

 

النقل السرّي

مع المساء، تزدحم محطة الحافلات الواقعة بمدخل دوار هيشر بالعمّال والموظفين والتلاميذ الذين أنهوا للتوّ يومهم خارج المنزل. ومن ميزات هذه المحطّة انّها غير مخصّصة لحافلات النقل العمومي حصرا، بل تستخدمها شاحنات "النقل السري" أيضاً، وهي التسمية التي تطلق في الحيّ على فاعل جديد دخل حقل النقل بعد الثورة، هو عبارة عن مجموعة من الشاحنات الصغيرة المخصّصة في الأصل لنقل البضائع، أدخل عليها أصحابها تعديلات كتركيب كراسي أو ألواح في داخلها للجلوس لتغدو قابلة لنقل الركاب. وقد أحصينا في دوار هيشر، 45 شاحنة "نقل سرّي".
وخلال الأشهر الأولى من الثورة، تعطلّت حركة الحافلات العموميّة نحو الحيّ بعد أن أحرقت حافلتان منها. وبحسب شهادات سكّان الحيّ، تمّ الاستيلاء على بقايا الحافلتين وبيعها إلى محال قطع الغيار والخردة. كما تكررت في السنة ذاتها الإضرابات في قطاع النقل، ما سبّب شللاً كاملاً في حركيّة العاصمة.
وفي هذا الظرف، ظهر "النقل السري" الذي يزدهر اليوم على خطّين رئيسيّين في الحيّ: يقطع الأوّل الحيّ طوليّاً، ويمتدّ الثاني من وسط الحيّ إلى محطّة الحافلات المركزيّة بمنطقة "باب الخضراء" في قلب العاصمة. والحقّ أنّه لا يمكن تفسير ظهور "النقل السري" بالتعطيل الظرفي لحركة النقل العمومي آنذاك، إذ هو يعيش أصلاً أزمة هيكليّة، من أبرز مظاهرها عجزه عن الإيفاء بمتطلّبات السكّان في فضاء حضري متصاعد الكثافة السكانيّة. ففي دوّار هيشر وحده يقطن 824 86 نسمة، ولا تتوفّر سوى ستّ حافلات. هكذا يبرز "النقل السري" بوصفه استجابة "غير نظامية" لأزمة هيكليّة، وهو ما يفرض مراجعة نقدية لثنائية النظامي/ غير النظامي. فالأخير تَشكُّل ذو نمط انتظام فذّ نابع من ممارسات فاعليه وحاجات مستهلكيه، وما يعوزه فعلاً هو اعتراف السلطات الحضريّة المهيمنة.

"الاختراق الصّامت لليومي"

تشترك جلّ الممارسات الاقتصادية "غير النظامية" تلك في سمتين رئيسيتين. فهي من جهة قد تشكلت أو توسعت في مجال حضري هامشي ضمن سياق ثوري تعطلت فيه أجهزة المراقبة الحضرية وأصبحت عاجزة عن تأدية وظيفتها الضبطية.
ومن جهة أخرى، ينظم هذه الممارسات نمط الفعل ذاته، وهو ما يمكن أن نسميه (حسب العبارة الرائعة لعالم الاجتماع الإيراني "آصف بيات" في وصف حركة الفقراء بطهران ما بعد الثورة)، بـ "الاختراق الصامت لليومي". ذلك يؤشّر على سعي فئات واسعة من المهمشين الحَضَر إلى تحسين فرص معيشهم وتحصيل موارد جديدة من خلال الاستحواذ غير القانوني على مجالات الفضاء العام واستثمارها في أنشطة اقتصاديّة، مستغلين تعطل أجهزة المراقبة الحضرية ضمن سياق ثوري فائر.
لقد أفرز المسار الثوري في تونس ديناميكيات اجتماعية وسياسية جديدة تعتمل في "هوامش" المجتمع، يحتاج فهمها إلى مقاربة "من تحت" تقطع مع السردية التي ينسجها "المركز" حولها، ما يمنحنا سردية أخرى للمسار الثوري لم تتشكّل بعد في خطاب.