عام على احتلال "داعش" للموصل: ماذا تغير وكيف؟

نشر داعش يوم 13 حزيران /يونيو 2014 وثيقة مكتوبا عليها "وثيقة المدينة"، تتكون من 16 مادة، أوضح فيها طبيعة نظام الحكم الذي يريده. وهذه ليست مجرد ورقة، بل هي الحقيقة التي رأيناها والتي طبَّقَها داعش بكل حذافيرها. في عبارة من المادة 16 في الوثيقة، كتب داعش "أيها الناس، انكم قد جربتم الانظمة العلمانية كلها، ومرت عليكم الحقبة الملكية، فالجمهورية، فالبعثية، فالصفوية (حكومات ما بعد
2015-06-25

موريس ملتون

شهادة من داخل الموصل غيَّر صاحبها اسمه


شارك

نشر داعش يوم 13 حزيران /يونيو 2014 وثيقة مكتوبا عليها "وثيقة المدينة"، تتكون من 16 مادة، أوضح فيها طبيعة نظام الحكم الذي يريده. وهذه ليست مجرد ورقة، بل هي الحقيقة التي رأيناها والتي طبَّقَها داعش بكل حذافيرها. في عبارة من المادة 16 في الوثيقة، كتب داعش "أيها الناس، انكم قد جربتم الانظمة العلمانية كلها، ومرت عليكم الحقبة الملكية، فالجمهورية، فالبعثية، فالصفوية (حكومات ما بعد 2003) وقد جربتموها.. وها هي الآن حقبة الدولة الاسلامية".
اختصرت هذه الفقرة كل ما فعله داعش، ووضحت معنى "الحكم الإسلامي". كل شيء تغير، كل شيء في المدينة تحت سيطرة داعش، بلا استثناء، ولو كانت لديهم القدرة للسيطرة على الهواء الذي يتنفسه السكان لفعلوا ذلك.
تحولت الموصل الى مدينة بلا تاريخ، دمّر داعش كل شيء، خلق منظومة أخلاقية جديدة، واستطاع خلال عام واحد فقط أن يعيد صياغة النظام الاجتماعي للمدينة بشكل يلائم السياق الفكري والأخلاقي له. ما يفعله داعش لا يقتصر على الترويع والعنف، إذ يمكن للإنسان التخلص من العنف بعد فترة من الزمن. ما يحدث أخطر بكثير: داعش يخلق نظاما اجتماعيا ودينيا جديدا يتجاوز فيه كل الموروث الاجتماعي السابق للمجتمعات في الموصل والعراق عموما. ما يفعله داعش اليوم لا يتعلق بالحاضر بل بالمستقبل، بخلق بيئة قادرة على إنتاج نماذج داعش جديدة. لا بد ان المخططين في داعش قرأوا نيتشه، خاصة فلسفة القيم والأخلاق لديه، لانهم يتقنون صناعة المفاهيم والقيم وفق النسق التاريخي للعقل الجهادي الجديد.
استطاع داعش ان يخلق نظاما يوازي نظام الديموقراطية الغربية. استهدف النظام الاجتماعي في الموصل وقام بنسفه بالكامل، وأعاد خلق تصنيفات جديدة للمجتمع، فارتفعت طبقات جديدة تولت إدارة المدينة، وهو أعاد تسليم السلطة إلى سكّان الأرياف ومنحهم الصلاحيات الكاملة وأطلق يدهم، ونجح في عزل السكان الأصليين (الموصليين) ، وألغى فكرة "التعددية" ونسف فكرة الاعتدال، (فالاعتدال برأي داعش يبدأ بالسيف) ونفذ مشاهد العنف بقصدية امام الناس.
نجح داعش في كسب الاطفال والمراهقين في المدينة، ونجحت ماكينته الإعلامية في الترويج لفكره. كما عزل رجال الدين المعتدلين، ووضع شروطاً وقواعد لمعنى أن يكون الشخص ملتزما دينيا ومعتدلا، وقام بتنحية كل من لا يدعو لداعش بعد كل صلاة. لذا فالمعركة الحقيقية مع داعش لم تكن - ولن تكون - عسكرية أبداً. المعركة الفاصلة معه هي في خلق نظام فكري ومفاهيمي متين لمواجهته، نظام جديد للحياة وللعلاقات بين الحضارات، إعادة قراءة جديدة، انسانية، للتاريخ الإسلامي والعالمي، ولعله يمكن حينها أن نجد سبل مواجهة فكر داعش او بالاحرى مواجهة "فكر التطرف العالمي".

اما على مستوى الحياة العامة واليومية، فيمكن اختصار ما يجري بهذه الفقرات:
-    لدى داعش اجهزة ومؤسسات ودور لكل شيء، ولديهم لكل قضية دائرة وموظفون يعملون عليها. لا يمكن للسكان ان يتحركوا او يتنفسوا. الحدود مغلقة تماما، ولا يمكن لأحد الخروج من المدينة الا بشروط صارمة، وقد نشر داعش هذه الشروط: رهن سند ملكية البيت ومبلغ 2500 دولار وسيارة حديثة لا يعود تاريخ صنعها لأبعد من 2011، وشخص يتكفل من يخرج من المدينة، على الا يكون الخروج لأكثر من شهر واحد، بعد انقضائه يتم اعتقال الكفيل ومصادرة المنزل والسيارة ومبلغ 2500 دولار، واعتبار الشخص الذي لم يعد مرتدا كافرا دمه مباح.
-    الاطفال يتعرضون لأقسى أنواع التعبئة والتحريض على القتل والعمليات الإجرامية، عبر المراكز الإعلامية المنتشرة في الشوارع، وعبر تبادل مقاطع الفيديو التي تظهر مشاهد الذبح والصلب والقتل. وقد تأثرت أعداد كبيرة من المراهقين بالقدرة الإعلامية الهائلة لداعش وتطوعت أعداد منهم في صفوفه. آخر إحصائية لاعداد الاطفال الذين لا تتجاوز اعمارهم 16 عاما تقول إنهم بلغوا 370 طفلاً تلقوا تدريبات دينية وعسكرية في معسكرات، وقد شارك فعليا في العمليات الانتحارية أكثر من 130 طفلاً مات معظمهم في معارك بيجي والانبار وغرب نينوى.
-    تفرض داعش كل يوم شروطاً وقرارات صارمة ومتشددة على المواطنين، وآخرها هو منع حلق اللحى الموجه بشكل خاص الى فئة الشباب. أما النساء فالشروط عليهنّ قاسية جدا، من فرض النقاب، ومنع دخول الاسواق الا بوجود شخص مرافق من عائلة المرأة. ومنع داعش خروج النساء بشكل مطلق من البيوت في رمضان. التدخين ممنوع، كانت العقوبة في البداية لبائعي السجائر 70 جلدة وغرامة مالية كبيرة، واصبحت الآن "قطع الرأس" لكل من يبيع أو يتاجر بالسجائر. أسعار المواد الغذائية بارتفاع مستمر ومرتهنة بالطرق المغلقة مع بغداد وكردستان. وقد اغلقت بغداد مؤخرا الطريق الى الموصل، ومنعت دخول كميات كبيرة من البضائع والمواد الغذائية.
-    كما فرض داعش عقوبات شديدة على من لا يدخل الى المسجد اثناء الصلاة ولا يغلق دكانه، والعقوبة هي مصادرة الدكان وغرامة مالية كبيرة وسجن لمدة شهر كامل.
-    أُغلق العديد من المكتبات، ومُنع منعا مطلقا تداول الكتب التي يسميها داعش "كتب الكفر والردة"، من الروايات العالمية والعربية والفلسفة والتاريخ والأدب بأنواعه.
باختصار: لا وجود لأي إشارة للحياة في الموصل. اقصد الحياة التي يكون فيها الانسان حرا كريما قادرا على التصرف بنفسه كما يشاء وبسهولة. الحق بالعيش مكفول بالالتزام بشروط وضوابط داعش الصارمة، من يخالفها يعرض نفسه وعائلته للقتل ومصادرة كل الأموال.

 

للكاتب نفسه

نظاما القضاء والحسبة

حين دخل "داعش" إلى الموصل ظنّ الجميع أنهم جاءوا بطريقة عشوائية، وأنهم سيحتاجون وقتاً طويلاً لتأسيس وجودهم في المدينة. لكن داعش كان قد جهزّ لكل شيء، ويحمل معه "أدوات الدولة"...