قريباً من فائض شبابنا.. بعيداً عن ناضب نفطهم

ما أهمية تراجع أسعار النفط كسلعة ناضبة، طارئة على التاريخ والحضارة، في مقابل انحسار الأمل في نفوس الشباب، وسيطرة الإحباط على عقولهم وقلوبهم بدلاً عن جذوة الأحلام وسِعة الأفق التي تسم مرحلتهم؟
2016-02-04

سعيد سلطان الهاشمي

باحث من عُمان


شارك
سينا عطا - العراق

في الوقت الذي ينشغل الناس اليوم بأخبار تهاوي أسعار النفط، ويترقبون الغد المجهول.. في الوقت الذي يتكاثر فيه المحلِّلون، وتتكاثر فيه حلولهم وأفكارهم ويتسابقون في عرضها وتدبيجها وتزويقها وتسويقها للحكومات وللشركات ولوسائل الإعلام والتواصل المختلفة.. في هذا الوقت، لا يرغب إلا القلة ــ في إشارة إلى الرهان المُغيّب ــ الانتباه لرأس المال المطمور الذي قد يُغيّر هذا المجهول المُخيف ويحيله إلى فرص آمنة ومستدامة: إنه الرهان على الشباب والثقة بقدراتهم، إشراكهم في صناعة القرار، حمايتهم، صون كرامتهم، استثمار طاقاتهم، تمكينهم من إبداع مستقبلهم وتحمل مسؤولياته.

ما أهمية تراجع أسعار النفط كسلعة ناضبة، طارئة على التاريخ والحضارة، في مقابل انحسار الأمل في نفوس الشباب، وسيطرة الإحباط على عقولهم وقلوبهم بدلاً عن جذوة الأحلام وسِعة الأفق التي تسم مرحلتهم؟

أيهما أجدر بالعناية والاهتمام، وشحذ الهمم والأفكار: البحث عن جذور هذا الانطفاء الذي سينعكس عتمات متراكبة على غد بلداننا ومستقبلها، والعمل على إعادة تزويده بالوقود والطاقة الضروريين للإشعاع والإنتاج؟ أم تجاهله، والاستهتار والاستهزاء به، أو حتى تأجيله؟

هل بلداننا اليوم مستقرة، آمنة، مع وجود هؤلاء الشباب في غياهب السجون والمعتقلات، السرية منها والعلنية؟ هل مؤسساتنا التنفيذية منهمكة على راحة الإنسان؟ هل المؤسسات التشريعية متفرغة للتعبير عن إرادة شعوبها، وتملك مُكنة التشريع والمحاسبة لحراسة شجرة الوئام العام وثمارها المالية والفكرية؟ هل تَفَرَغ قضاءُنا الآن لإنجاز العدالة، بعد أن أودع كل هذه الطاقات الزنازين وأسلمها لليأس؟

أيهما أخطر على مستقبل البلاد واستدامة رفاهتها واستقرارها: تسعيرة يتحكم بها محتكر خارجي؟ أم قرار يستحوذ عليه مستبد داخلي؟ أيهما العابر وأيهما العامر؟

***

هل أقام القمع يوماً تنمية حقيقية؟ وأين يمكن أن نجد دولة في التاريخ عمّرت طويلاً، وسياسات الإقصاء والتمييز ومحاصرة أحلام أجيالها الصاعدة والواعدة بالأمل تتحكم بها؟

ألا يحتاج الشعور بالإحباط الذي يجتاح أوساط الشباب في المنطقة عقب أحداث الربيع العربي (التي هي ثورات شابة بامتياز) إلى عنايتنا المُركزة وتحليلنا الصادق أفراداً وجماعات؟.هل بالغنا في اطلاق الأحلام عالياً مع بدايات هذا الحدث التاريخي الفاصل؟ أهكذا: على قدر التطلعات تكون الخيبات؟

أليس الواقع ينبئنا يومياً بأن هذا الإحباط تعهّدته بالرعاية الملاحقات العسكرية، والمحاصرات الأمنية، والمحاكمات العبثية، والصراعات الطائفية والعرقية، مع توفير الحمايات والضمانات القانونية والسياسية لاستدامة الفساد، وتأبيد الاستبداد، والمحافظة على رداءة الوضع القائم، "لأنه ليس بالإمكان أفضل مما كان"! أليس كل ما سبق محفوف بعناية ثقافة عامة تُشجِّع عدم الاكتراث بما يحدث في الفضاء العام، وتُدين الفردانية وتنتقي منها الاهتمام بالحد الأدنى من مأكل ومشرب كيفما اتفق الحال؟

هل نحتاج إلى المزيد من اللاعدالة في الداخل، ومن الاستغلال من الخارج (وهما مترابطان)، ومن إعادة إنتاج الرداءة في ميادين التعليم، والخدمة الصحية، وفرص الشغل، ومن هدر الموارد الطبيعية وقهر الموارد البشرية؟

كم من البشر، والشباب منهم خاصة، يجب أن يُزج بهم في السجون بسبب مطالباتهم بإصلاح السياسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لكي نُدرِك بأن الأزمة لن تُحلّ وهم في السجون، بل ستحل وهم خارجه: أحرار، يعملون، ويختلفون، ويعارضون، ويراقبون، ويحاسبون كل من قَبِل على نفسه أن يكون موظفاً عمومياً يتقاضى راتباً من المال العام، مهما علا شأنه وارتقى مقامه؟

أعداد كبيرة من شبابنا اليوم يُساقون زرافات ووحدانا إلى السجون بتهم "النيل من مكانة الدولة"، و "المساس بالذوات الحاكمة"، و "تعكير السكينة العامة"، و "الإخلال بالنظام العام"؟ تهمٌ رخوة، متمددة، مزاجية، تحركها وتتحكم بها الظنون الكيدية أكثر مما ترتكز على قواعد قطعية واضحة وقابلة للتعريف والقياس.

أعداد أكبر منهم تزور مراكز الأمن الداخلي والمخابرات صباح مساء، يمارَس عليها أبشع صور الانتهاك والتعسف وهدر الكرامة بالقول والفعل ومحاكمات النوايا.

شابات يُهدَدن بالاغتيال الاجتماعي وتشويه السمعة وهتك العرض، يُحرَمن من أعمالهن وفرص تعليمهن الأساسي والجامعي، مع مواصلة التضييق على حريات ضمائرهن وأجسادهن.

شباب تُقزّم عليهم فرص الرزق والعمل والحركة اليومية، ناهيك عن غياب بيئة حاضنة لطاقاتهم وأفكارهم. يسمعون طحناً عن دعم شركاتهم المتوسطة والصغيرة ولا يرون عجناً ذا قيمة، فالحيتان الكبيرة مستحوذة على الحصة الأكبر، وما تبقى منها من فتات مخصص لأجيالهم القادمة وصغارهم (هم) لا أجيال البلاد عموماً وفق مبدأي المساواة والكفاءة.

شعراء يتم الحكم عليهم بعشرات السنين بسبب قصيدة. آخرون يتم اختطافهم من الحدود التي أصبحت مراكز توقيف مفتوحة. فنانون تشكيليون تُسرق أعمالهم، ويُهددون بمحاكمات مُرهقة لأرواحهم المُرهفة إن مضوا مع خياراتهم الذاتية المنحازة للحرية والنقد.

كتاب وأدباء وباحثون يُسطى على نتاجهم الأدبي، تُنتحل دراساتهم ومقالاتهم في وضح النهار، وتُنشر هذه المسروقات في صحف وجامعات الدولة. برلمانيون تسحب جنسياتهم وتحبس حرياتهم وتُطرد أسرهم ويقذف بها للمجهول.

والبقية الصامتة تشاهد، تراقب، ولا ترى إلا مواصلة المُصانعة "في أُمورٍ كَثيرَةٍ حتى لا تُضَرَّس بِأَنيابٍ وَتوطَأ بِمَنسِمِ" بحسب وصية حكيم معلقات العرب زهير بن أبي سلمى. وإلا الذهاب بعيداً مع خيارات العنف مع الجماعات الإرهابية المستثمَرة بذكاء من القوى الكبرى، أو العمل السري المفضي إلى العدم ومتلازمة الهدر المركب: هدر العمر وهدر الفرص وهدر الطاقة، وضياع الدولة والمجتمع كمحصلة لكل هذا الانسداد.

***

ليس غريباً إذاً، والواقع كهذا، أن نرى تكرار السيناريو العراقي والسوري، ومن قبله اليمني والمصري والتونسي والسوداني، منسوخاً بشكل مُبتسر في ما تبقى من جسد المنطقة العربية. إن تزايد أعداد الناشطين والإصلاحيين المهاجرين من دول الخليج العربية بعدما كانت المنطقة نقطة جذب للحياة وفرص النجاح أمر بالغ الدلالة، ولا يمثل حالات فردية كما تردد الرواية الرسمية، بل يستحق التوقف والتحليل. الأكثر غرابة في هذا الشأن اليوم، هو أن المهاجرين عن هذه الدول هم من مواطنيها، غادروا خوفاً على سلامتهم الشخصية، وارتفاع درجة اللايقين لديهم في مستقبل بلدانهم، وتنامي شعورهم بالغربة من جراء الإقصاء عن المشاركة ليس في الإدارة فحسب، وإنما حتى في الرأي والتعبير في عالم الفضاءات المفتوحة. وبإمكان تغريدة صغيرة على تويتر، أو منشور على فيسبوك، أو تدوينة مفتوحة في مدونة شخصية أو قصيدة شعرية أو مقالة أو رسم كاريكتوري.. أن تودي بك في غياهب السجون الخليجية (وغيرها) لعشرات السنين. جُلّ هؤلاء لا يطلبون أكثر من الاستماع لأصواتهم وجدالهم بالحُسنى. هؤلاء وغيرهم مؤمنون بأن تحمل المسؤولية في أوقات الشدائد تستوجب الشراكة الفاعلة في أزمنة الرخاء.

سيكون من السذاجة التأكيد على أن قيمة الإنسان في هذه المنطقة مربوطة بشيء اسمه النفط، وليس بالإنسان في ذاته ولذاته. فكما أن العصر الحجري "كان"، وبقيت الحجارة ليس أكثر من شاهد، فكذا الحال في عصر ما بعد "النفط": سيبقى هذا النفط شيئا كغيره من أشياء الحياة المختلفة، وسيتجاوزها الإنسان بتوقه للمعرفة، وللحرية، ولإبداع أفكار أقرب لأحلامه وأمثل لكرامته. فقط لو آمنا بذلك، واشتغلنا لأجله.

في هذا المقام يحضرني قول بليغ للشاعر البحريني قاسم حداد، لطالما ردده السينمائي والشاعر العماني عبد الله حبيب:
"النفط الذي لم يكن لنا جميعاً، سيكون علينا جميعاً".
فهل نتعلّم من الدرس؟

مقالات من العالم العربي

لطخة تلوث بلد الحضارات

فؤاد الحسن 2024-03-24

قررت وزارة الهجرة والمهجرين العراقية تحديد 30 حزيران/ يونيو من العام 2024 موعداً نهائياً لإغلاق مخيمات النازحين في إقليم كردستان، والتي يبلغ عددها 24 مخيماً، يسكنها نازحون من مناطق مختلفة،...

الصحة تقلص العلاج المجاني إلى 25% في مستشفيات الفقراء

2024-03-21

أصدرت وزارة الصحة المصرية لائحة جديدة للمستشفيات والوحدات الصحية الحكومية، تتضمن إعادة تسعير الخدمات الصحية التي تقدمها المنشآت الصحية الحكومية التابعة للوزارتين، باستثناء التطعيمات الإجبارية للأطفال والطوارئ ومبادرات الصحة العامة...

للكاتب نفسه

مقاومة التطبيع في الخليج

يُفترض بالغريزة الأساس التي تُميِّز من يتصدر لإدارة الحكم، أن تُنبِّهه إلى مراعاة تطلعات الناس واحترام القضايا العادلة التي يؤمنون بها، وفلسطين - الناس والأرض والفكرة والمبدأ - في طليعة...