الاستقواء بإسرائيل…سباق محموم بين جنرالات السودان!

هناك تفاهمات بين قيادة "الدعم السريع" والوفد الإسرائيلي الزائر حول مشاريع اقتصادية. وعادةً ما تكون مثل هذه المشاريع واجهات لعلاقات تعاون أمنية وعسكرية. وبالمقابل، تُخطِّط "قوات الدعم السريع" لإنشاء أكبر مسلخ لصادرات اللحوم في المنطقة، بشراكة إسرائيلية. وتفيد بعض المعلومات أن العمل الفعلي بدأ في المصنع بنصب الماكينات بمنطقة أم درمان.
2022-01-26

شمائل النور

كاتبة صحافية من السودان


شارك
السودانيون يرفضون التطبيع مع اسرائيل

لم تعلّق السلطات العسكرية - المسيطرة على مقاليد الحكم في السودان - على زيارة الوفد الإسرائيلي الذي وصل الخرطوم في التاسع عشر من كانون الثاني/ يناير الجاري، حيث التقى قادة "قوات الدعم السريع" الذين كانوا في استقباله بمطار الخرطوم.

والسودانيون، بما في ذلك وسائل الإعلام المحلية، يلجؤون عادة إلى وسائل الإعلام الإسرائيلية لمعرفة كل ما يتصل بعلاقات بلادهم مع إسرائيل، لأن هذا الملف محاط بتكتم كبير وسرية بالغة، حتى في ظل الحكومة المدنية قبل انقلاب 25 تشرين الأول/ أكتوبر، التي ألغى مجلس وزرائها المحلول قانون مقاطعة إسرائيل الساري في البلاد منذ 1958.

وفقاً لما أذاعه التلفزيون الإسرائيلي الذي نقلت عنه الوكالات والفضائيات، فإن الوفد الإسرائيلي حط رحاله في مدينة شرم الشيخ المصرية قبل وصوله إلى الخرطوم، وهو ما أوحى بأن الزيارة متصلةٌ بمشاورات إقليمية تتعلق بالأزمة التي خلّفها الانقلاب في السودان، ويفترض بالتالي أن تستهدف زيارة الوفد قيادة المؤسسة العسكرية ممثلة برأسها، قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان. لكن اتضح لاحقاً أن الزيارة تتوجه بشكل رئيسي إلى نائب رئيس مجلس السيادة، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، قائد "قوات الدعم السريع" المستقلة عن الجيش عسكرياً واقتصادياً.

وإنما، وكما جرت العادة، تكتفي وسائل الإعلام، بما فيها تلك الإسرائيلية، بأخبار وقوع الزيارة دون الخوض في أجندتها وما تم الاتفاق حوله أو حتى مناقشته. وبالمقابل تضرب السلطات السودانية سياجاً محكماً حول ملف العلاقات السودانية الإسرائيلية، خاصةً في أعقاب الزيارة الشهيرة لقائد الجيش رئيس مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان لمدينة عنتيبي الأوغندية، حينما التقى رئيس الوزراء الإسرائيلي – آنذاك - بنيامين نتنياهو في شباط/ فبراير 2020، وقد مثّل هذا اللقاء النادر الإعلان الرسمي لتطبيع العلاقات مع إسرائيل.

اتفاقيات مع "الدعم السريع" بمعزل عن الجيش

وفقاً لما نقله الموقع الإخباري "دارفور24"، فإن تفاهمات تمت بين قيادة "الدعم السريع" والوفد الإسرائيلي حول مشاريع اقتصادية في الخرطوم وفي مساحات شاسعة من مناطق شمال الخرطوم، وعادةً ما تكون مثل هذه المشاريع الاقتصادية واجهات لعلاقات تعاون ذات طبيعة أمنية وعسكرية. وتُخطط "قوات الدعم السريع" لإنشاء أكبر مسلخ لصادرات اللحوم في المنطقة، بشراكة إسرائيلية. وتفيد بعض المعلومات أن العمل الفعلي بدأ في المصنع بنصب الماكينات بمنطقة أم درمان. وتنشط "قوات الدعم السريع" بجانب الجيش في تصدير اللحوم، وتسيطر المؤسسات العسكرية والأمنية في السودان على قطاع الصادرات مثل المعادن والثروة الحيوانية. وفي وقت سابق قالت وزارة الثروة الحيوانية إن 70 في المئة من عائد صادرات الثروة الحيوانية لا يجد طريقه إلى خزينة الدولة.

لقائد "الدعم السريع" علاقات معروفة مع بعض دول أوروبا، وخاصة فرنسا، أسس لها إبّان تصاعد ملف الهجرة غير "الشرعية"، حيث تنشط قواته بكثافة على حدود السودان، خاصةً تلك الممتدة مع الجوار الليبي. لكنه يسعى بشكل حثيث لتقوية علاقاته مع إسرائيل، معولاً على بوابة تل أبيب للدخول إلى واشنطن التي ترفض حتى الآن التعامل معه.

يعلم حميدتي أن الشارع، إذا تصاعد غضبه، فليس أمام الجيش إلا إيجاد مخرج آمن لقائده البرهان بعد عزله، مثلما حدث مع البشير. لكن بالنسبة لحميدتي، فإن ذهاب البرهان ربما يعني أن مصيره هو على"كف عفريت". لذا فهو بحاجة بشكل مضاعف لتأمين أوضاعه، أو على الأقل بأن يفك ارتباط مصيره بمصير البرهان، الذي يبدو أنه استسلم للخروج. 

بجانب التعاون الاقتصادي الكبير، فإن الزيارة بحثت ملفاً أمنياً يتعلق بإسرائيل، حيث يسود اعتقاد أن السودان لا يزال معبراً لتقديم الدعم للمقاومة الفلسطينية على الرغم من اجتهاد العسكريين في السودان لإغلاق أي ثغرات ممكنة. وهذا ملفٌ ظل مرتبطاً طيلة الفترة الماضية بجهاز أمن البشير ووزارة الخارجية.

ليست زيارة الوفد الإسرائيلي الأولى من نوعها، فقد سبقتها زيارات متبادلة بين الطرفين. وفي تشرين الأول/ أكتوبر 2021، زارت قيادات من "الدعم السريع" تل أبيب حيث شاركت مؤسسة الجيش بممثل واحد في الوفد، وهو مسؤول رفيع في منظومة الصناعات الدفاعية - أضخم مؤسسات الجيش الاقتصادية - لكن ممثل الجيش كان أشبه بالغريب في ذلك الوفد الذي تسيطر عليه أجندة "قوات الدعم السريع". ومما تسرّب من تلك الزيارة التي استضافتها مقار "الموساد"، أن ممثل الجيش لم يحضر سوى اجتماع واحد. 

وفي وقت سابق زار وفد إسرائيلي السودان، وتفقد منظومة الصناعات الدفاعية التابعة للجيش، حيث ناقش الطرفان آنذاك إمكانية تطوير الصناعات العسكرية السودانية. وتتطلع المؤسسات الأمنية والعسكرية في السودان بمختلف مكوناتها لامتلاك أنظمة متقدمة في الاختراق التقني وبرمجيات التجسس.

تنشط "قوات الدعم السريع" بجانب الجيش في تصدير اللحوم، وتسيطر المؤسسات العسكرية والأمنية في السودان على قطاع الصادرات، مثل المعادن والثروة الحيوانية. وفي وقت سابق، قالت وزارة الثروة الحيوانية إن 70 في المئة من عائد صادرات الثروة الحيوانية لا يجد طريقه إلى خزينة الدولة.

في تشرين الأول/ أكتوبر 2021، زارت قيادات من "الدعم السريع" تل أبيب، وشاركت مؤسسة الجيش بممثل واحد في الوفد، هو مسؤول رفيع في منظومة "الصناعات الدفاعية"، أضخم مؤسسات الجيش الاقتصادية. ومما تسرّب من تلك الزيارة التي استضافتها مقار "الموساد"، أن ممثل الجيش لم يحضر سوى اجتماع واحد! 

الزيارة الأخيرة التي قطع فيها الطرفان - إسرائيل وقوات الدعم السريع - خطوات واسعة في العلاقات الاقتصادية، كشفت عن سباقٍ محموم بين جنرالات المؤسسات العسكرية في السودان للاستقواء بإسرائيل. فحينما فاجأ البرهان السودانيين بلقائه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي في أوغندا، كان وقتها باحثاً لتوه عن أرض صلبة يُثبّت فيها أركان حكمه المزعزع بواسطة القوى الثورية الرافضة قطعياً للحكم العسكري في السودان. والبرهان الذي جاء إلى السلطة من رحم تفاهمات و"تشبيكات" إقليمية تسيطر عليها دول المحور الثلاثي، الإمارات، مصر والسعودية، التي تتبنى التطبيع، كان يدرك أنه بحاجة لحلف إقليمي. وفي ظنه أن هذا الحلف يُمكن أن يُحصّنه من غضب الشارع المتحفظ عليه بعد مجزرة فض اعتصام القيادة في حزيران/ يونيو 2019. ولطالما أن نظام المخلوع، عمر البشير، بدأ بخطوات فعلية نحو هذا المحور، فإن مسألة إكمال ما بدأه البشير ليست عسيرة بأي حال من الأحوال.

بوابة لدخول أمريكا

تكشف هذه الزيارة هرولة العسكريين وسباقهم نحو إسرائيل في ظل معاناتهم من خناق شعبي داخلي. لكنها أزاحت أيضاً النقاب عن مثابرة حثيثة لقائد "قوات الدعم السريع" لتأسيس حلف إقليمي ودولي. ولقائد الدعم السريع، حميدتي، علاقات معروفة مع بعض دول أوروبا، وخاصة فرنسا. هذه العلاقات أسس لها إبّان تصاعد ملف الهجرة غير "الشرعية"، حيث تنشط قواته بكثافة على حدود السودان، خاصةً تلك الممتدة مع الجوار الليبي. لكنه يتطلع بحماس لتأسيس علاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، أو على أقل تقدير أن تقبل به الولايات المتحدة كعنصر رئيسي لا يُمكن تخطيه في المشهد السوداني. وفي سبيل ذلك يبذل الرجل مجهودات جبارة مع الولايات المتحدة الرافضة للاعتراف به، وسعيه الحثيث لتقوية علاقاته مع إسرائيل يكشف تعويله على بوابة تل أبيب للدخول إلى أمريكا، وربما ينطلق الرجل مما هو معلوم في السياسة السودانية، من أن إسرائيل لعبت دوراً محورياً في رفع العقوبات الأمريكية عن السودان.

وعلى الرغم من أن قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان يُنظر إليه كمؤسس لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، لكن تلك العلاقات تطورت في الفترة الأخيرة بشكل لافت بينها وبين قوات "الدعم السريع"، ومضت نحو نشاط اقتصادي مشترك بين الجانبين، وهو ما يُشير إلى تنافس لم يعد خفياً بين البرهان ونائبه حميدتي للفوز بدعم إسرائيل.

حينما فاجأ البرهان السودانيين بلقائه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي في أوغندا، كان وقتها باحثاً عن أرض صلبة يُثبّت فيها أركان حكمه المزعزع بواسطة القوى الثورية الرافضة قطعياً للحكم العسكري في السودان. والبرهان الذي جاء إلى السلطة من رحم تفاهمات و"تشبيكات" إقليمية تسيطر عليها دول المحور الثلاثي، الإمارات ومصر والسعودية، التي تتبنى التطبيع، كان يدرك أنه بحاجة لحلف إقليمي.

حميدتي يعلم تماماً أن الشارع، إذا تصاعد غضبه فليس أمام الجيش إلا إيجاد مخرج آمن لقائده عبد الفتاح البرهان بعد عزله، مثلما حدث مع البشير. لكن بالنسبة له، فإن ذهاب البرهان ربما يعني أن مصيره هو على"كف عفريت. لذا فهو بحاجة بشكل مضاعف لتأمين أوضاعه، أو على الأقل بأن يفك ارتباط مصيره بمصير البرهان، الذي يبدو أنه استسلم للخروج، خاصةً بعدما أصبحت شبكات النظام البائد، وبعض تيارات الإسلاميين تقف منه موقف الحياد. وعلى الرغم من أن مصيرهما يبدو واحداً، لا يُعتقد أن حميدتي يُمكن أن يكبِح طموحه في الحكم بمجرد ذهاب البرهان، كما لا يُعتقد أنه سيظل مكتوف الأيدي إلى أن يطيح الجيش بالبرهان ويصبح هو في مهب الريح.

على العموم فإن جنرالات السودان يسيرون على درب المخلوع عمر البشير، وقع الحافر على الحافر: التعويل على العامل الخارجي والاستقواء به، غاضين الطرْف تماماً عن حجم السخط الشعبي. ويبقى سؤال جوهري: هل الشارع الرافض للبرهان يُمكن أن يقبل بحميدتي كجزء من أي مشهد قادم، أو بأيٍ من عناصر المكون العسكري الموجود حالياً على رأس السلطة؟ الطبيعي أن الجواب هو "لا". لكن وأيضاً، وإلى درجة كبيرة، فإن الفيصل في مسألة القبول والرفض هو نتائج تحقيق لجنة فض اعتصام القيادة، والتي لا تزال معلقةً بعد حل الحكومة المدنية صبيحة الانقلاب. 

مقالات من السودان

للكاتب نفسه