معلّمو لبنان في ظلّ الأزمة: فشلٌ جماعي ومحاولات فرديّة للنجاة

على الرغم من مرور أكثر من سنتين على الانهيار المالي، يجد الأساتذة أنفسهم متروكين تحت ضغوطٍ ماديةٍ ونفسيةٍ كبيرة، في الوقت الذي تواصل الروابط النقابية فشلها في تصحيح أوضاعهم وتحسينها، فيما تبدو الحكومة عاجزةً عن إيجاد أيّ حلول...
2021-12-07

رضا حريري

كاتب صحافي من لبنان


شارك
من مظاهرات وتحركات اساتذة لبنان قبل الازمة الحالية

للعام الثالث على التوالي في لبنان، يستمر تدهور أوضاع الأساتذة والمعلمين في المدارس الرسميّة والخاصة على حدّ سواء.

كغيرهم من الأساتذة في مختلف دول العالم، عانى هؤلاء من تبعات الإقفال العام الذي فرضه انتشار فيروس كورونا مطلع العام 2020.

من جهة باغت الانتقال المفاجئ من التعليم الحضوري إلى التعليم عن بعد الأساتذة والطلاب على حدّ سواء. صار لزاماً على المعلمين إتقانٌ مهاراتٍ جديدة وامتلاك أدواتٍ مختلفة واستعمال أساليب مبتكرة في الشرح، وهو ما لم يكن بالأمر الهين.

بحسب موجزٍ سياساتي أصدرته الأمم المتحدة في آب/اغسطس 2020 بعنوان "التعليم أثناء جائحة كوفيد-19 وبعدها"، فقد كان المعلمون حول العالم غير قادرين إلى حدٍ بعيد على التعلّم والتكيّف مع منهجيات التدريس الجديد، حتّى في الأماكن التي تتوفّر فيها بنية تحتية كافية.

من جهة أخرى، فرض الإقفال ضغوطاً ماديةً ونفسيةً على المعلمين في معظم دول العالم. هذا ما تشير إليه دراسة استقصائية أجرتها "الرابطة الدولية للتعليم"، ظهر فيها أنه من بين 93 نقابة للمعلمين من 67 دولة، أفاد ما يقرب من الثلثين أن العاملين في مجال التعليم قد تأثروا بشكل حادٍ من تبعات انتشار الجائحة.

في لبنان، ترافق هذا التحوّل وتداعياته السلبية على المعلمين والأساتذة، مع انهيار اقتصاديٍ حادٍ وتردٍّ في خدمات الانترنت والكهرباء وارتفاعٍ جنوني في أسعار المحروقات.

خلال عامين، تدهورت قيمة أجور الأساتذة بنسبة تفوق 100، جراء الانهيار المستمرّ في سعر الليرة. في السابق، كان راتب الأستاذ المعين حديثاً في التعليم الابتدائي الرسمي مليون و200 ألف ليرة لبنانية، أي ما يعادل 800 دولار أميركي، أمّا الآن فلم تعد قيمته تتجاوز 50 دولار أميركي.

طوال أشهر الصيف الماضي، وفي ظلّ عجزٍ حكومي تام، لوّحت نقابات المعلمين بالإضراب والامتناع عن التدريس. مع ذلك، عاد قسمٌ كبيرٌ من الأساتذة مكرهاً إلى أعمالهم، بعد أن فشلت الروابط النقابية بتحصيل تقديمات وضمانات مقنعةٍ من وزارة التربية.

مع قدوم شهر أيلول/سبتمبر 2021، افتتحت معظم المدارس الخاصة أبوابها أمام الطلاب، فيما تأخّرت انطلاقة العام الدراسي الجديد في المدارس الرسمية حتّى مطلع تشرين الثاني/نوفمبر الماضي.

من يومٍ إلى آخر، تتزايد الأعباء على كاهل الأساتذة. تدفع جزءاً منهم للسفر بحثاً عن فرصٍ أفضل في الخارج، وتدفع بجزءٍ آخر للاستقالة، وتجُهد غيرهم في البحث عن وظيفةٍ ثانيةٍ أو حتّى ثالثة. بحسب إحصاءات "المركّز التربوي للبحوث والإنماء" [1]، التابع لوزارة التربية، فقد ترك أكثر من 700 أستاذٍ قطاع التعليم خلال العام الدراسي 2020/ 2021، وهو رقمٌ من المرجح أنه يكبر باضطرادٍ .

سنتعرف في هذا المقال على التحديات التي يواجهها قرابة 86 ألف أستاذٍ يعملون في قطاع التعليم في لبنان وكيفية تعاملهم معها على المستويين الجماعي والفردي. ما هو الدور الذي لعبته النقابات؟ وما هي السبل التي يتبعها المعلّمون اليوم للتكيّف مع الأزمة؟

الأزمة الاقتصادية

امتدت الأزمة الاقتصادية إلى مختلف قطاعات العمل في لبنان وألقت بظلالها على القوى العاملة ككل. آلاف المؤسّسات أغلقت، وعشرات الآلاف من الأشخاص خسروا وظائفهم.

في تقريرٍ أعدته منظمة العمل الدولية في حزيران/يونيو 2020 [2]، أفاد 71.4 في المئة من الأشخاص عن انخفاض ساعات عملهم، وبالتالي أجورهم، وألقوا باللائمة على الأزمة الاقتصادية وجائحة كورونا. على النحو نفسه، أعلن 89 في المئة ممّن يعملون لحسابهم الخاص عن انخفاض دخلهم. بحسب الدراسة نفسها وصل عدد من يعيشون تحت خط الفقر في لبنان خلال حزيران/يونيو 2020 إلى 1.7 مليون شخص، من بينهم قرابة 800 ألف في حالة فقرٍ مدقع.

كان من الطبيعي أن ينعكس هذا الوضع بوضوح على قطاع التعليم لضخامته، فهو يؤثّر بشكلٍ مباشر على حياة أكثر من 900 ألف طالب على اختلاف انتماءاتهم المناطقية أو الدينية أو الطبقية. في الوقت نفسه، يضم عدداً كبيراً من العاملين يلامس 90 ألفاً، موزعين بين أساتذة وعمال وإداريين. وهو ما يعادل، بحسب أرقام منظمة العمل الدولية، 5.9 في المئة من مجمل العمالة اللبنانية الناشطة.

إضافةً إلى ذلك، يمتلك العاملون في قطاع التعليم أجساماً نقابيةً وازنة العدد، ومنظّمة، تعطيها القدرة على التأثير في الشارع. ينضمّ أساتذة القطاع الخاص البالغ عددهم 45310 إلى نقابة المعلمين، بينما يتوزّع أساتذة التعليم الرسمي البالغ عددهم 35231 أستاذاً على رابطتين نقابيتين أساسيتين: رابطة التعليم الثانوي ورابطة التعليم الأساسي.

مع اشتداد خناق الأزمة، عوّل بعض الأساتذة على النقابات لتحصيل مكتسباتٍ تحميهم من بعض آثار الأزمة. هدّدت الروابط النقابية بتعطيل العام الدراسي الجديد خلال شهور الصيف. بدا للحظة أنّ البلاد ستشهد حراكاً مشابهاً لحراك نقابة المعلمين في الأردن في أيلول/سبتمبر من العام 2019. حينها، استجاب أكثر من 80 ألف معلمٍ في الأردن لدعوة النقابة إلى اضرابٍ استمرّ قرابة الشهر من أجل تصحيح الأجور والتقديمات.

لكن، في النهاية، لم يحدث شيءٌ من ذلك في لبنان.

القطاع الخاص

في شهر أيلول/سبتمبر 2021، كرّرت نقابة المعلمين دعواتها إدارات المؤسسات التعليمية الخاصة إلى تنفيذ قوانين تحسّن رواتب الأساتذة. أما على أرض الواقع، فقد تُرك الأساتذة للتفاوض لوحدهم مع الإدارات. نجم عن ذلك تفاوتٌ كبيرٌ في التغيّرات التي طرأت على أجور المعلمين والتقديمات الممنوحة لهم من مدرسةٍ إلى أخرى .

هذا ما جرى مع حسن وياسمين، وهما زوجان يدرّسان في مؤسّسات مختلفة. تخرّج الاثنان في نفس الدفعة من كليّة العلوم، ولديهما العدد نفسه من سنوات الخبرة في تعليم مادتيّ الكيمياء وعلوم الأحياء للصفوف الثانوية. لكنّ، ونتيجةً لتداعيات الأزمة، صار هناك فارقٌ كبيرٌ في ما يجنيه كل واحدٍ منهما.

تقول ياسمين: "قبيل نهاية العام الدراسي الماضي أبلغتنا إدارة المدرسة بزيادة 30 في المئة على الرواتب. بدا ذلك رقماً زهيداً حين كان سعر صرف الليرة مقابل الدولار يتراوح بين 12 و14 ألف ليرة. الآن، تبخّرت قيمته تماماً بعد أن وصل سعر الدولار إلى 24 ألفاً".

بمعنى آخر، ارتفع معاش ياسمين من مليون و500 الف ليرة قبل الأزمة إلى مليون و950 الفاً هذا العام، لكن قيمته الفعلية انخفضت من 1000 دولار أميركي إلى ما دون 100 دولار.

صحيح، أن قيمة أجر حسن تدهورت بالطريقة نفسها، إلّا أنّ إدارة مدرسته أعطت تقديمات أفضل، حسب قوله: "تحظى المؤسسة التي أعمل بها بدعمٍ مالي من إحدى المرجعيات الدينية، وتدير عدداً كبيراً من المدارس على امتداد مساحة لبنان. وضعنا ذلك في حالةٍ مالية أفضل. نحصل على نصف راتب إضافي، ومئة دولار، وتقدّم الإدارة لنا مساعدة عينية كلّ شهر من المواد الغذائية الأساسية".

أدى رفع الدعم الحكومي عن أسعار البنزين إلى وصول سعر الصفيحة خلال أسابيع إلى أكثر من 300 ألف ليرة لبنانية. مدرسة حسن، كانت من إدارات المدارس التي ضاعفت أجرة بدل النقل اليومية للأساتذة، فيما قررت مدرسة ياسمين، تخصيص باصٍ يقلّ الأساتذة من وإلى المدرسة.

بالمجمل، تنوّع شكل التحسينات التي أدخلتها المؤسسات التعليمية الخاصة على مستحقات الأساتذة، لكنّها ظلّت هزيلةً قياساً بالتدهور المالي الحاصل. يضاف إلى ذلك أنّ هذه الزيادات لم تضاف إلى أساس الراتب، بل صنفت تحت مسمى مساعدة أو دعم. بالتالي، تأخذ طابع "الصدقة" التي توزع على أساس "حسن أخلاق" الإدارات التربوية من دون أن تكون ملزمةً لها قانونياً، ممّا يتيح لها التنصّل منها أو تعديلها بما يناسب مصلحتها في أي وقتٍ في المستقبل.

القطاع العام

تدار العلاقة في التعليم الرسمي بين روابط الأساتذة من جهة ووزارة التربية والتعليم العالي من جهة أخرى. هذه المركزية في العلاقة تعطي روابط أساتذة التعليم الرسمي فعاليةً أكبر في الضغط والتفاوض.

ظهر ذلك في أواخر آب/اغسطس الماضي، عندما أعلن وزير التربية في الحكومة المستقيلة طارق المجذوب خطة الوزارة للعام الدراسي الجديد في التعليم الرسمي.

 آنذاك، أصدرت رابطة التعليم الثانوي بياناً أعلنت فيه "عدم العودة الى الثانويات مع بداية العام الدراسي المقبل بجميع مسمياتها (حضوري- أون لاين- مدمج)، قبل أن تتحقق المطالب براتب مصحح، وطبابة، واستشفاء، وبدل نقل يوازي ارتفاع أسعار المحروقات". لكن هذا الموقف الصارم لان سريعاً مع تشكيل نجيب ميقاتي حكومة جديدة في العاشر من أيلول/سبتمبر2021.

أعلن وزير التربية الجديد عباس الحلبي المضي قدماً في خطّة سلفه، وفتح الباب للتفاوض مع النقابات. بعدها بأسابيع عاد ليعلن عن خطّة لمساعدة الأساتذة بعد حصول الوزارة على دعمٍ بقيمة 70 مليون دولار من الدول المانحة، بحسب كلامه.

قامت الخطّة على منح كلّ أستاذ مثبّت مساعدة ماليةً بقيمة 90$ شهرياً، إضافة إلى مضاعفة بدل النقل من 24 ألف ليرة في اليوم إلى 48 ألف ليرة، وأيضاً نصف راتبٍ إضافي تدفع بالليرة اللبنانية. أما بالنسبة للمتعاقدين فقد أقرّت لهم مبالغ تتراوح بين 20 إلى 90 دولار أميركي شهرياً، بحسب ساعات تدريسهم.

تفاوتت ردود فعل المعلّمين على الخطّة، بين الحزبيين الذين اعتبروا أنّها أفضل الممكن، وبين آخرين رأوا فيها مجرّد وعودٍ كلامية من دون ضمانات فعلية. بعد أخذٍ ورد، عرض مشروع الوزير على الجمعيات العمومية للتصويت في روابط الأساتذة.

كانت روابط التعليم الأساسي أوّل من تراجع عن الإضراب وعاد إلى التعليم في منتصف تشرين الأوّل/اكتوبر الماضي، بعد حصول مؤيّدي العودة على أفضلية بسيطةٍ في التصويت مقابل المعارضين. أما في رابطة التعليم الثانوي، فقد خالفت الهيئة الإدارية تحت ضغوط الأحزاب نتائج التصويت الذي حصل فيه مؤيدّو الإضراب على نسبة 55 في المئة من الأصوات. تحت قوّة الأمر الواقع، فرضت العودة إلى التدريس في الرابع من تشرين الثاني/نوفمبر الجاري.

اليوم، وبعد قرابة شهرين على إعلانها، تبدو خطّة وزارة التربية عديمة النفع جراء التدهور المستمر في قيمة الأجور بالتوازي مع غلاء الأسعار. يؤكّد ذلك المؤكّد بالنسبة لكثير من الأساتذة، الذين يسعون طوال الوقت للبجث عن مخارج وحلولٍ فرديةٍ لوضعهم الاقتصادي.

خلاصٌ فردي؟

بحسب تقرير "منظمة العمل الدولية" الصادر في حزيران/يونيو 2020 [3]، عبر قرابة 75 في المئة من المستطلعين بالرغبة بتغيير عملهم بحثاً عن أجور أفضل، فيما كانت نسبة تقارب 15 في المئة تبحث في السوق عن وظيفةٍ ثانيةٍ أو دوام جزئي.

ينسحب هذا الوضع على العاملين في القطاع التعليمي. في السابق كان كثيرٌ من الأساتذة يلجؤون لإعطاء دروس خصوصٍية في البيوت أو في مراكز تعليمية، لكنّ ذلك اختفى مع جائحة كورونا وانهيار العملة. أجبر هؤلاء على إيجاد طرقٍ جديدةٍ لا لتحصيل دخلٍ إضافي بل لتعويض فقدان مداخيلهم الأساسية لقيمتها.

كانت مدرسة اللغة الإنكليزية سلمى ممّن تأثرت مداخيلهم جراء إغلاق مراكز التدريس الخصوصي. تقول: "حتى قبل الإقفال العام (بسبب كورونا) كان عدد الطلاب أقلّ من السنوات السابقة، بسبب الوضع الاقتصادي الذي كان قد بدأ يؤثر على الكثيرين. مع ذلك، كنت أعمل عشر ساعاتٍ إضافيةٍ في الأسبوع، لقاء أجرٍ يساوي نصف ما أتقاضاه من تدريسي 25 ساعة أسبوعياً في المدرسة الخاصة".

بعد وقت قصير على تفعيل خطّة مكافحة كورونا، وجدت سلمى نفسها على حافة الوقوع في أزمةٍ ماليةٍ صعبة. خسرت عملها الإضافي، بعد أن فقدت قبلها قدرتها على الوصول إلى المبلغ المتواضع في حسابها البنكي، بعد أن فرض المصرف المركزي منذ أواخر 2019 قيوداً وضوابط غير رسمية على عمليات السحب والتحويل النقدي.

لم يعد أمام سلمى سوى تأمل تدهور سعر صرف الليرة، وبالتالي تدهور قيمة أجرها كمعلمة، والذي لم تعد قيمته تتجاوز 70 دولار أميركي. تقول: "دخلت في حالةٍ من الاكتئاب امتدّت طوال شهرين. بعدها وعن طريق الصدفة أخبرتني قريبةٌ لي عن منصة الكترونية، تتيح للأساتذة إعطاء دروسٍ خصوصيةٍ عن بعد لقاء أجرٍ بالساعة، فقرّرت أن أجربه".

لم تكن البداية سهلةً على سلمى، إن كان لجهة المنافسة الكبيرة بين أساتذة من كل دول العالم، وإن كان لجهة الانقطاع المتكرّر للكهرباء وضعف جودة الإنترنت في لبنان. تشرح: "حصلت على طالبٍ واحدٍ لمدّة ساعة في أوّل أسبوعين، انقطعت فيها الحصّة ثلاث مرّات بسبب انقطاع الكهرباء والإنترنت. شعرت حينها أنّه من المستحيل عليّ تحصيل أيّ دخلٍ من عملٍ كهذا في لبنان. لكن ومع استمرار الغلاء وارتفاع الأسعار قرّرت أن أجرّب مرّة أخرى. نظمت أوقات التدريس في ساعاتٍ أكون متيقّنة فيها من وجود الكهرباء، وأعطيت حصصاً مجانياً وبأسعارٍ مخفّضة لجذب الطلاب. شيئاً فشيئاً بدأت أحصل على عددٍ أكبر من الطلاب".

بعد مرور قرابة العام على بدءها في العمل، تستطيع سلمى اليوم تأمين دخلٍ شهري من دروس الأونلاين يساوي ثلاثة أضعاف راتبها.

على الرغم من ذلك، وعلى الرغم من ساعات العمل الطويلة، إلّا أنّها لم تستقل من التعليم في المدرسة. تقول: "أولاً، سأفقد انتسابي للضمان الاجتماعي إذا استقلت. ثانياً، هذه الأزمة ستنتهي في وقتٍ ما، وبالتالي سيتم تصحيح الأجور وتعويضات نهاية الخدمة. لكنّ الأهم، هو عدم وجود ضمانٍ لشيء. يمكن لعدد طلاب الأونلاين أن ينخفض في أيّ لحظة، ويمكن أن يقع انقطاع شاملٌ في الكهرباء أو الانترنت يدمّر عملي. بمعنى آخر، لا يمكنّك الاطمئنان في لبنان".

يعرف إبراهيم، وهو أستاذ رياضيات في مدرسةٍ رسميّةٍ متوسّطة، بدقّة ما يعنيه كلام سلمى. ما إن بدأت الأزمة الاقتصادية بالتوسّع، حتّى بدأ سعي الرجل الأربعيني لإيجاد عملٍ إضافي يكفيه وعائلته المؤلّفة من ثلاثة أطفال قوت يومهم. بالفعل، عمل إبراهيم في أكثر من وظيفةٍ خلال العامين الماضيين إلى جانب التدريس عن بعد. يقول: "عملت لأربعة أشهر كسائق أجرة، لكنّ كلفة إيجار السيارة العالية والأوضاع الأمنية غير المستقرة دفعاني للتوقف. ثمّ عملت محاسباً على الصندوق في أحد المطاعم، لكنّه أغلق كليّاً بعد شهرين على بدء الإقفال العام الذي رافق جائحة كورونا. بعدها بأشهر تمكّنت من العثور على وظيفة حارسٍ في إحدى الشركات". يضيف: "أنا مضطرٌ للقيام بأيّ عمل، فلديّ زوجة وأطفال، ووالدان كبيران في السن أتقاسم مع أخوتي تكاليف معيشتهم".

كان إبراهيم يجني من وظيفتيه قرابة 4 ملايين ليرة شهرياً (160$ بحسب سعر صرف السوق السوداء اليوم)، لكن، ومع العودة إلى التعليم الحضوري مؤخراً صار من الصعب التوفيق بين الدوامين. بالتالي، يقف إبراهيم اليوم على مفترق طرقٍ، محتاراً فيما يجب عليه فعله.

يقول: "على المدى الطويل، من المنطقي أن أبقى في وظيفتي كأستاذٍ رسمي لأنّ الأوضاع ستعود إلى ما كانت عليه في السابق، أما الوظيفة الثانية فلن أحصل فيها على شيءٍ في المستقبل. لكن، وعلى المدى القصير، سيعني تركي لعمل الحراسة أنّني بعد ثلاثة أشهر لن أكون قادراً على دفع أجرة المنزل".

يعزّي إبراهيم نفسه بأنّ الأزمة واقعة على معظم المقيمين في لبنان. على الرغم من الظروف السيئة يحاول البقاء متفائلاً على النقيض من أساتذةٍ آخرين، مثل ناجي ممّن تركوا وظائفهم في لبنان بحثاً عن عملٍ افضل في الخارج.

يقول ناجي: "أدركت منذ البداية أنّ إقفال المصارف ليس عابراً وأنّنا أمام انهيار طويل الأمد. بدأت البحث عن وظيفة في مدارس خارج لبنان قبل انتشار فيروس كورونا وبعده. التدهور المستمر جعلني متمسّكاً بقراري".

مطلع الصيف الماضي، وبعد أكثر من عامٍ ونصف من السعيّ، وضّب ناجي حقائبه، ودع زوجته وعائلته، وسافر للعمل في إحدى المدارس في دول الخليج. يقول: "1600 دولار أميركي، على قلّتها هنا، تظلّ أفضل من الفتات الذي كنت أحصّله من التعليم في أربعة مدارس في لبنان".

عمل ناجي كأستاذ كيمياء متعاقد في التعليمين الرسمي والخاص على حدّ سواء. وضعه ذلك في حالةٍ دائمة من اللا استقرار نتيجة التأخر في دفع المستحقات، والتي سرعان ما صارت عديمة القيمة مع انهيار سعر صرف الليرة، كما يشرح: "عانيت لسنواتٍ كغيري من المتعاقدين من التلكّؤ في الدفع والتأخر في صرف مستحقاتنا. تحمّلت ذلك على أمل أن يتم تثبيتي في إحدى المدارس، لكن، وبعد الأزمة، لم يعد ذلك قابلاً للتحقق، وإن تحقّق فهو ليس مغرياً بالبقاء".

اليوم، يعيش الأستاذ الثلاثيني في غربته مكتفياً بالحد الأدنى. يتقاسم إيجار شقّة مع أستاذين لبنانيين آخرين. يبتعد عن المطاعم والسهرات وأيّ مصروف إضافي، ليكون قادراً على إرسال 300 دولار شهرياً إلى زوجته وابنه في لبنان. يقول: "نحن في وضعية من يحاول النجاة، أو survival mode كما يُقال بالانكليزية، وبالتالي أعي أنّ هناك تنازلات عديدة عليّ القيام بها. ما يهمني حالياً هو تأمين ولو درجةٍ معيّنة من الاستقرار المادي".

تختلف الرؤى والطرق التي يتعامل بها كلّ واحدٍ من الأساتذة الثلاثة عن بعضها البعض، لكنّهم متفقون على انعدام الضمانات المستقبلية وعدم وضوح أفق قطاع التعليم داخل لبنان.

ربّما يفسر ذلك الأسباب التي دفعت وتدفع بعددٍ لا بأس به من الأساتذة للسفر من أجل العمل أو حتّى الهجرة النهائية. يقدر عدد المعلمين الذين تركوا لبنان في السنتين الأخيرتين بالمئات، توزّعوا على دول الخليج وتركيا وبعض الدول الإفريقية وصولاً إلى كندا.

في ظلّ استمرار الأزمة الاقتصادية وغياب الحلول الحكومية، من المرجح أن يستمر الرقم بالتزايد، ممّا يرسم صورة قاتمةً لما قد يؤول إليه حال قطاع التعليم في لبنان خلال السنوات القليلة القادمة.

خاتمة

تزامن انتشار فيروس كورونا في لبنان مع تمدّد أكبر أزمةٍ اقتصاديةٍ في تاريخ البلد. برزت تداعيات ذلك بشكلٍ واضحٍ على قطاع التعليم. عانى المعلّمون في القطاعين الرسمي والخاص اليوم من انهيار الأجور وغلاء البنزين وعدم القدرة على الاستشفاء.

اليوم، وعلى الرغم من مرور أكثر من سنتين على الانهيار المالي، يجد الأساتذة أنفسهم متروكين تحت ضغوطٍ ماديةٍ ونفسيةٍ كبيرة، في الوقت الذي تواصل الروابط النقابية فشلها في تصحيح أوضاعهم وتحسينها، فيما تبدو الحكومة عاجزةً عن إيجاد أيّ حلول.

مقالات ذات صلة

في هذه الحالة من عدم الاستقرار الاقتصادي والأمني والسياسي، تبدو استمرارية العام الدراسي محفوفةً بالمخاطر والعقبات، ممّا يهدّد المستقبل التعليمي لمئات الآلاف من الطلاب على امتداد مساحة لبنان.   

______________

1) https://bit.ly/3ovqfkv
2) https://bit.ly/3oDKmNz
3) https://bit.ly/3DAPrtT

مقالات من لبنان

للكاتب نفسه