الإسلاميون وداعش والحداثة

"تحت قدميّ القوانين الوضعية"، شعار كتبته دولة داعش على أحد البوسترات في مناطق سيطرتها ويظهر الى جانبه مقطع نصفي لجسد مقاتل يحمل بندقيته ويضع قدمه اليمنى فوق مجموعة من الكتب. بهذا التجسيد الرمزي لعقيدته، فإن تنظيم داعش يغالي في التعبير عن الفكرة السائدة لدى معظم الحركات الاسلامية، على اختلاف مرجعياتها المذهبية، بضرورة أن يسود شكل من أشكال القانون الإسلامي في المجتمع ذي الغالبية
2016-03-03

حارث حسن

باحث من العراق


شارك
أياد القاضي - العراق

"تحت قدميّ القوانين الوضعية"، شعار كتبته دولة داعش على أحد البوسترات في مناطق سيطرتها ويظهر الى جانبه مقطع نصفي لجسد مقاتل يحمل بندقيته ويضع قدمه اليمنى فوق مجموعة من الكتب. بهذا التجسيد الرمزي لعقيدته، فإن تنظيم داعش يغالي في التعبير عن الفكرة السائدة لدى معظم الحركات الاسلامية، على اختلاف مرجعياتها المذهبية، بضرورة أن يسود شكل من أشكال القانون الإسلامي في المجتمع ذي الغالبية المسلمة، مع اختلاف تلك الحركات حول مركزية هذا الهدف وطرق تحقيقه.
سياسات التقوى
بدأت النزعة السياسية الإسلامية الحديثة في منطقتنا كموقف اعتراضي على ظهور الدولة العلمانية الحديثة وتطبيقها للقوانين "الوضعية" وللتعليم "العلماني"، وللخروج عن ما تعتقد تلك الحركات أنها "أخلاق إسلامية" من خلال الرجوع إلى القرآن والدين و "المعين الصافي" للإسلام حسب وصف حسن البنا. فالإسلام، وفق الرسائل التأسيسية لحركة الاخوان المسلمين التي كتبها البنا، يقوم على تعاليم شاملة تنظم شؤون الحياة والآخرة. وفي كتابه عن تاريخ الحزب الإسلامي، وهو الفرع العراقي للإخوان المسلمين، يحدثنا القيادي في الحزب، محسن عبد الحميد، كيف أن هدف مواجهة الانحلال الأخلاقي وتفشي النزعات الإلحادية وصعود التيارات الماركسية والشيوعية تحديداً كان هو الهدف المركزي في خطابات الحزب ومواقفه. وقد شاركته في تلك الهواجس المرجعية الدينية الشيعية التي استشعرت من خطر سيادة القوانين الوضعية وتنامي نفوذ الحزب الشيوعي في الأوساط الشيعية في العراق، فاتخذت مواقف حادة تجاه هذا الحزب وأيضاً تجاه القوانين "العلمانية" التي صدرت في عهد عبد الكريم قاسم، مثل قانون الأحوال الشخصية وقانون الإصلاح الزراعي.
غير أن الإسلاميين، مثلهم مثل أي تيار فكري آخر، انقسموا الى معتدلين براغماتيين، ومتطرفين عقائديين، أي بين تيار اصلاحي يريد انفتاحاً اكثر على نتاجات الحداثة ومزيدا من المرونة في تفسير النصوص، وآخر متشكك من التسويات ويرى أنها ستفقد التيار الإسلامي محتواه، أو نقاءه الفكري . ويمكن تتبع جذور داعش الفكرية كنوع من الانشقاق داخل التيار الإسلامي في المنطقة، قام به التيار الثاني الذي تحول تدريجياً إلى مزيد من التشدد. هذا ما فعله مثلاً الباحث النرويجي توماس هيغهامير، الذي تتبع الجذور الفكرية للتيار الجهادي في النصوص التي كتبها والمقولات التي طورها أعضاء سابقون في جماعة الإخوان المسلمين انتقلوا للتدريس في الجامعات الدينية السعودية التي انتعشت منذ نهاية ستينيات القرن الفائت، حيث كانت المملكة قد دشّنت مشروعها لـ "الرابطة الإسلامية"، كمشروع هوياتي يتصدى للتيارات اليسارية والقومية، وافتتحت جامعات دينية جديدة مثل جامعة الملك عبد العزيز وجامعة أم القرى، ليشغل بعض المواقع التعليمية فيها ملاك تدريسي من الإخوان السابقين والحركيين الإسلاميين، ولتنشط، بحسب هيغهايمر، عملية كتابة نصوص جديدة أسهمت في قيادة الاسلام السياسي الى مرحلته الجهادية.
بالطريقة نفسها يمكن فهم بعض عناصر الانقسام الطائفي في المنطقة بوصفه انشقاقا آخر في الحركة الإسلامية، التي لم تكن تعيره اهتماماً كبيراً في فترة تشكلها، لكنه احتدم بسبب التنافس الجيوسياسي بين أكبر داعمين وممولين إقليميين لتلك الحركات: السعودية وإيران. وبينما يلتقي الإسلاميون الشيعة والسنة على هدف نشر التقوى ومركزية الدين في النظام الاجتماعي، حيث تأثر بعض كبار المفكرين والناشطين الشيعة مثل روح الله خميني ومحمد باقر الصدر بكتابات إسلاميين سنة كسيد قطب وأبو الأعلى المودودي، فإن الشرخ السني - الشيعي احتدم لاحقاً على خلفية صراعات القوة في المنطقة، ليخلق ظرفاً آخر لظهور حركة مثل داعش تستثمر في ذلك الشرخ.
الوضع ما بعد - الاستعماري
لذلك ليس صحيحاً النظر إلى الحركات والأحزاب الإسلامية بوصفها مجرد محاولات للعودة إلى الماضي، بل في كونها رد فعل على الحداثة الغربية وطرق تطبيقها في الشرق، عبر الزعم أن سبب تخلفنا هو تخلينا عن الإسلام كنظام شامل للحياة. مَثّل الإسلام السياسي نوعاً من الاستجابة لوضع جديد واجهته المجتمعات الموصوفة بالمسلمة، وهو وضع يصفه حميد داباشي، الأستاذ في جامعة كولومبيا، بالوضع ما بعد- الاستعماري. ظهرت الحركات الإسلامية كموقف اعتراضي – سلبي تجاه ما صنعه الاستعمار الأوروبي من حقائق ومؤسسات وأفكار، لكنه - بنظر داباشي - نوع من الارتهان لذلك الوضع وليس خروجا عنه، فالإسلاميون يُعرّفون أنفسهم ووجودهم عبر صناعة نموذج مفتعل للذات الجمعية، يقوم على مناقضة ما هو "غربي"، وتهميش أي تكوين في هويات مجتمعاتنا لا ينسجم مع تصور الإسلاميين لتلك الذات بوصفها دينية وإسلامية بشكل جوهري.
إصرار الإسلام السياسي على أدلجة الدين يؤدي بالضرورة إلى تحول في هذا الدين من أنماطه التقليدية إلى شيء جديد مختلف يقوم على ما يسميه البعض بـ "الحداثة" البديلة، عبر إعادة تعريف الدين ووظيفته ليصبح "نظاما سياسياً - شمولياً" يحتكر الحقيقة المطلقة، ويصنع بالتالي نسقاً جديداً لعلاقات السلطة القائمة على الهيمنة والإقصاء، محاكياً بذلك سلوك الحداثة الاستعمارية التي ينتقدها. وهذا الاستقطاب بين "حداثتين" إقصائيتين يؤدي بالنتيجة إلى خسارة الحداثة الحقيقية كمشروع إنساني يقوم على لغة الحقوق والحريات والانعتاق من أشكال الإخضاع المختلفة.
بهذا المعنى، فإن التيار الإسلامي المتشدد الذي يمثل داعش ذروته اليوم، يقدم لليمين الغربي ما يريده تماما، عبر اختزال كل شيء في هذا الجزء من العالم إلى هوية دينية، لا عقلانية، إقصائية، محققاً بذلك الهدف الذي يبتغيه اليمين الغربي في محورة السياسة حول صراع الحضارات، واختزال كل شيء إلى ثنائيات ثقافية، وتركيز الخطاب السياسي حول "القيم" و "الهويات" باعتبارها "أشياء" ثابتة، مهمشين بذلك أي محاولة لمركزة قضايا مثل التفاوت الاقتصادي والعدالة الدولية والفقر و - مؤخراً - التغير المناخي.
يمكن مثلاً ملاحظة مظاهر الاتفاق بين الإسلامويين واليمين الغربي في طبيعة الخطاب السياسي السائد اليوم في بعض أوساط الحزب الجمهوري الأميركي، حيث يتم توظيف الصورة التي صنعها داعش عن المسلمين لصناعة صورة عن الـ "نحن" الأميركية. وتغدو مواجهة الفاشية الدينية التي يمثلها داعش مبرراً لصناعة فاشية بديلة يشكلها هذا اليمين في خطاباته عن الخصوصية الأميركية، وتنتقل تدريجيا من دائرة الخطاب إلى حقل القانون والتشريع، كما حصل مع القانون الذي أصدره الكونغرس مؤخراً بوضع نظام صارم في منح تأشيرات الدخول لحملة الجنسيات الإيرانية والعراقية والسورية والسودانية، وأولئك الذين ينحدرون من تلك البلدان، وهو قانون رأى بعض المعترضين عليه انه يُضفي صفة "مواطن من الدرجة الثانية" على مواطنين أميركيين، لمجرد أنهم ينحدرون نَسباً من بلدان محددة.
الإسلاميون المعتدلون
يوماً بعد يوم، يصبح من العسير فهم صعود خطابات الهوية والإسلام المتشدد في منطقتنا بدون موضعته في سياقه العالمي ما بعد-الحداثي، والنظر إليه بوصفه جزءًا من أزمة عالمية مركبة. يمكن ملاحظة أن فكرة صراع الحضارات تلقى رواجاً خاصاً في أوساط الإسلاميين المتشددين، وتنعكس في خطاباتهم، لأن تلك التيارات تهدف أيضا الى بلوغ الحالة التي يُختزل فيها "المسلمون" إلى هويتهم الدينية التي أعيد تفسيرها من قبل الإسلام المتشدد لتصبح استدعاء لذات أخرى متخيَلة يمكن الوصول إليها عبر "التطهر" من لوثات العصر الحديث ومن آثار التفاعل مع الآخر المختلف. هذه الرغبة بهوية شديدة النقاء، في عصر صار يعرف بعصر التواصل والتشابك والاعتمادية المتبادلة، يجسد بشكل عام منطق اليمين الجديد الباحث عن العزلة وبناء الجدران وتقسيم العالم على أسس ثقافية و "حضارية" ودينية.
يصح أيضاً فهم حالة داعش والانقسام الطائفي في سياق التوتر داخل التيار الإسلامي، وذلك من دون تجاهل عدد آخر من العوامل والأسباب.. لنستنتج أن مواجهة هذا التشدد الديني والمذهبي على الصعيدين الفكري والإيديولوجي لا تتوقف على التيارات الموصوفة بالعلمانية، بشقيها الليبرالي واليساري، بل تعتمد بدرجة أكبر على موقف التيارات الإسلامية غير المتشددة وقدرتها على الوصول لنموذج أكثر استقراراً في إدارتها لصراعها الداخلي بين المحافظين والإصلاحيين. وتمثل التجربتان الإيرانية والتركية أهم تجربتين على هذا الصعيد، رغم الاختلاف الكبير بينهما، بسبب وصولهما إلى الحكم وتحولهما إلى نموذجين "قائدين" داخل الحيز الشيعي لايران، وداخل الحيز السني لتركيا. تشير بعض الدراسات الحديثة إلى أن البلدين سينتقلان من مرحلة "الأسلمة"، أي تأكيد حضور التقوى في المجال العام، إلى مرحلة جديدة من "العلمنة"، بمعنى الحالة التي تسود فيها براغماتية الدولة الحديثة وقيمها، وإن كان هذا التحليل بحاجة الى مزيد من الصبر والتفحص في ضوء ما يحدث اليوم في المنطقة واللحظات السياسية المفصلية التي تنتظر كِلا البلدين.
ويواجه الإسلام السياسي أزمة كبيرة اليوم، رغم أنه التيار السياسي - الاجتماعي المتفوق والأكثر تنظيماً في المنطقة. وواحدة من وجوهها هو الضغط الناجم عن ضرورة التمايز عن داعش دون خسارة القاعدة المتحمسة والقطاعات الميالة الى خيارات راديكالية، خصوصا في الصراع مع الأنظمة الموصوفة بالعلمانية. وهذه المواجهة لن تكون ايديولوجية فحسب، بل تتعلق بالقدرة على الاستجابة للتحديات الفعلية التي تواجهها المجتمعات، والتكيف مع التحولات الحاصلة في مجتمعاتنا بسبب ثورة المعلومات والاتصالات، المتزامنة مع أزمة اقتصادية يحتمل تفاقمها. ورغم ان الحركات الإسلامية تفضل عموماً التأكيد على الجوانب القيمية ومسألة الهوية، وتمارس تعبئتها السياسية على هذا الأساس، إلا أنّه بات واضحاً أن صعود تلك الحركات في الأصل كان مقروناً بالتحول الاجتماعي والاقتصادي، وفشل الأنظمة ما بعد - الاستعمارية في بناء شرعيات راسخة. وربما سيكون فشل تلك الحركات في إدارة الحكم وصناعة نموذج لا يقوم على علاقات الهيمنة والإقصاء سببا لتآكل شرعياتها في المستقبل، وبالتالي ظهور إيديولوجيات بديلة لا تُمركز الدين في خطابها.

مقالات من العالم

ما هي التغييرات الحاصلة في الرأسمالية المهيمنة؟

عمر بن درة 2024-03-07

يقع أصل التحولات الهيكلية الحالية للرأسمالية، في الفصل بين الإنتاج المادي البضاعي وبين الاقتصاد المالي. وقد ترافق هذا الفصل مع التفكيك المتدرج للتدابير التنظيمية المؤطِّرة للأسواق المالية وللبورصة في الولايات...

الأمر لا يتعلق بغزة أو بفلسطين فحسب

2024-02-09

السر في انفلات إسرائيل على هذا المستوى من التوحش غير الآبه بشيء، هو أنها أضحت اليوم فاعلاً رئيسياً وعالمياً في منظومة الرأسمالية المهيمنة، والتي لم تعد تستند إلى إنتاج الخيرات...

للكاتب نفسه

عن فهم "داعش" والراديكالية

حارث حسن 2016-06-23

بعد كل هجوم مفاجئ ينفذه تنظيم "داعش" (الذي يطلق على نفسه اسم "الدولة الإسلامية")، يسري في الجسدين الإعلامي والأكاديمي نزوع طاغٍ نحو محاولة فهم هذا التنظيم "الغرائبي"، القادم بيوتوبيا الخلافة...

سقوط ''الخضراء'' في بغداد

حارث حسن 2016-05-12

بغض النّظر عن دلالاته السياسية، فإنّ مشهد اقتحام "المنطقة الخضراء" في 30 نيسان /أبريل كان ثقيلاً برمزيته. هنا، رقعة في وسط بغداد يقدِّر البعض مساحتها بـ10 كلم مربع (من 4555...