"عملٌ نخترعه اختراعاً": هروبٌ جَمعي من الدروب المسدودة في لبنان

الذين خسروا العمل أو المدخرات، أو كليهما، لا يحظون جميعاً بفرصة السفر إلى خارج البلاد للبحث عن عمل آخر وبداية أخرى. كما أن إيجاد فرص عمل داخل البلاد بات أكثر صعوبة مما كان عليه في أي وقتٍ آخر. فماذا يفعل كل أولئك المنفيين من سوق العمل، كما أولئك الذين انهارت دخولهم مع انهيار قيمة العملة الوطنية؟
2021-12-01

صباح جلّول

كاتبة صحافية وباحثة في الانتربولوجيا البصرية من لبنان


شارك
العمل بالمونة البيتية بغرض بيعها من النشاطات التي تجد رواجاً إثر الأزمة الاقتصادية

تفوح رائحة رِبّ الرمّان من قِدر كبير يغلي على نار هادئة في مطبخ أم فادي. أمّا كلّ ما هو حول ذلك القدر وتلك النار، فلا يحتملُ الهدوء أبداً، بل هو دوامة من العمل الذي لا يستريح والأيادي التي "تغزل غزلاً" في كل زاوية متاحة في مطبخ البيت. فأمّ فادي حوّلت مطبخها إلى معمل "مونة" بيتية بلدية، تديره هي وتعمل فيه وحدها على مدار الساعة، تعاونها ابنتها نادين ببيع ما تنتج عبر صفحة "إنستغرام" أنشأتها لغرض عرضِ المنتوجات والتواصل مع الزبائن وتنسيق طريقة التوصيل.

افتتحت أم فادي "معملاً ومتجراً" - إن صحّ الاصطلاح - من مطبخ منزلها، ذلك الذي كان مساحة خاصة ومخصصة لتحضير الطعام اليومي للعائلة حصراً، صار بين ليلٍ وضحاه مصنعاً لمنتوجات غذائية موسمية تصلح لمؤونة البيوت السنوية التي تخزّنها العائلات كما درجت العادة، من المكدوس (الباذنجان المحشي المكبوس بالزيت) إلى مختلف أنواع المربيات والدبس، بالإضافة لأصناف من الطعام الجاهز. هي واحدة من كثر قرروا بدء مغامراتهم البيتية الخاصة لإعالة أنفسهم وعائلاتهم تحت ظلال الأزمة الاقتصادية الخانقة في لبنان، وفي وجه الآفاق المسدودة. فعلى تطبيق انستغرام مثلاً، يمكن ملاحظة عشرات الصفحات التي تبيع للمناطق اللبنانية كل ما هو "مَنزليّ الصنع"، نظراً لانتفاء الحاجة لوجود محلّ يتمّ استئجاره أو عمّال يتم تأجيرهم من جهة، ومِن جِهة أخرى كونَ الصناعة المنزلية تحظى بسمعة إيجابية لجهة أنها أكثر نظافة وصحيّة (في حالة المأكولات) وأكثر إتقاناً وتفرّداً (في حالة الأشغال اليدوية).

مقالات ذات صلة

ولعلّ النساء يحتتلن المساحة الأكبر من هذا الحيز، خاصّة منهنّ ربات البيوت الراغبات بالمساهمة بإعالة الأسرة بالمصاريف المادية المتعاظمة. ولكنه حيّز لا يقتصر عليهنّ، بل أنّ كثيراً من الموظفين الذين صرفوا من عملهم أو الأشخاص الذين يشتغلون عملاً حراً ويحتاجون مدخولاً إضافياً "يجرّبون حظّهم" كذلك مع مشاريعهم الصغيرة. لكن، وفي كل هذه الحالات، ثمة أسئلة حول ما يعني ذلك في نطاق الجدوى الاقتصادية والاستمرارية وظروف العمل والحياة، خاصة لناحية كون هذه المشاريع تبقى غالباً خارج إطار الرسمية.

افتعال فتحة في الجدار

كل القصص في لبنان مؤخراً هي قصصٌ قصيرة وكئيبة، تماماً مثل تحدي "أخبر قصة حزينة بأربع كلمات" ذلك الذي ينتشر على وسائل التواصل الاجتماعي، وقصة الكلمات الأربع لقسم كبير من المقيمين في لبنان تُختصر في كثير من الأحيان بالتالي: "خسرتُ عملي، وخسرتُ مدخراتي".

فإلى جانب السقوط الاقتصادي الحر في البلد منذ أواخر عام 2019، وإلى جانب ابتلاع ودائع الناس من قِبل المصارف، خسر أكثر من 80 ألف شخص وظائفهم في لبنان منذ أواخر عام 2019 حتى شباط/ فبراير 2020 فقط، ما رفع عدد العاطلين من العمل من 350 ألف شخص إلى نحو 430 ألفاً (أي من 25 بالمئة من القوة العاملة إلى 32 بالمئة منها)، حسب إحصاءات "الدولية للمعلومات" [1]، وهذا فقط خلال أشهر قليلة وحتى بدايات 2020. أما أحدث إحصائيات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي فقد خلصت إلى أن 40 ألف عامل قد خرجوا من سوق العمل اللبناني منذ مطلع العام 2020 ولغاية شباط/ فبراير 2021، وأنّ هذا الرقم مرشح للارتفاع بلا شكّ. وبالعودة لتقرير "الدولية للمعلومات" فالمؤشرات والأوضاع الاقتصادية في لبنان تشير إلى احتمال ارتفاع معدل البطالة إلى نحو 65 بالمئة من القوة العاملة، ما يعني أن المليون عاطلٍ من العمل وأكثر هو رقمٌ تحقّقُه أكثر من مرجّح.

من المؤكّد أن هؤلاء الذين خسروا العمل أو المدخرات أو كليهما لا يحظون جميعاً بفرصة السفر إلى خارج البلاد للبحث عن عمل آخر وبداية أخرى، ومن المتوقّع أيضاً أن إيجاد فرص عمل مفتوحة ومُرضِية داخل البلاد بات أكثر صعوبة مما كان عليه في أي وقتٍ آخر، فماذا يفعل كل أولئك المنفيين من سوق العمل إمّا لأن مؤسساتهم تُقلّص أعداد موظفيها أو ببساطة لأن المؤسسات التي يعملون لصالحها لم تعد موجودة، أو لأن الأجر لم يعد كافياً لسداد تكاليف الحياة الأساسية تحت ظلّ ليرةٍ تتدحرج في هوّة بلا قعر؟ مَن يستطيع مِنهم يجدُ مهرباً صغيراً جداً مِن الانسداد الكلي بمحاولة إنشاء عمل خاص من النوع الذي يسهُل الاشتغال به من المنزل وبأدوات ومواد أولية متوافرة وباليسير من المال، فيشهد لبنان الآن نمطاً يسهل رصده هذه الأيام، يختار العمل بالطبخ المنزلي، المونة البلدية، الحلويات والمعجنات والترويج لها عبر صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، بشكل خاص انستغرام وفايسبوك، لتسهيل العرض والبيع والتوصيل.

جزءٌ يسير من قطاع ضخم غير منظّم

لا تتوافر أرقامٌ وإحصاءات بعد حول نسبة ازدياد اللجوء لهذه المشاريع الصغيرة منذ بداية الأزمة، ولعلّ أحد أسباب ذلك هو كون الغالبية منها غير مسجّلة كشركة ولا هي مصرّح عن وجودها، ما يجعلها غير مرئية و"غير موجودة" رسمياً، وبالتالي جزءاً من اقتصادٍ موازٍ عائم في الهواء، لا يؤطّره شيء. هذه الضبابية في التقاط أي رقم واقعي تتكرر أيضاً أينما بحثنا في سائر الدول العربية. فليس سهلاً حصر عدد تجار البازار المتجولين في تونس، ولا عدد النساء اللاتي يعلن أنفسهنّ ببيع الشاي في الخرطوم بالسودان، ولا عدد الأشخاص الذين يحوّلون صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي لمنصة لإحدى أنواع التجارة الالكترونية. ففي سوريا، على سبيل المثال، حيث تراجعت قيمة الليرة السورية وازدادت كلفة المعيشة بما لا تطيقه أغلب العائلات، كما في لبنان، تتزايد ظاهرة البيع والتسويق في مواقع التواصل الاجتماعي، ويعتبرها المواطنون نافذة لـ"تدبير الأحوال" بأقل الرساميل. غير أنّ وزارة التجارة الداخلية السورية أعلنت في شهر كانون الثاني/ يناير 2021 منع أي عمل بالتجارة الإلكترونية (البيع والتسويق) دون الحصول على سجل تجاري يحدد من خلاله التاجر موقعه ونوع التجارة التي يعمل بها، مع العلم أنّ افتتاح المشاريع المرخصة ليس بالأمر اليسير لمعظم هؤلاء المواطنين...

كل القصص في لبنان مؤخراً هي قصصٌ قصيرة وكئيبة، تماماً مثل تحدي "أخبر قصة حزينة بأربع كلمات" ذلك الذي ينتشر على وسائل التواصل الاجتماعي، وقصة الكلمات الأربع لقسم كبير من المقيمين في لبنان تُختصر في كثير من الأحيان بالتالي: "خسرتُ عملي، وخسرتُ مدخراتي".

إلى جانب السقوط الاقتصادي الحر في البلد منذ أواخر عام 2019، وإلى جانب ابتلاع ودائع الناس من قِبل المصارف، خسر أكثر من 80 ألف شخص وظائفهم في لبنان منذ أواخر عام 2019 حتى شباط/ فبراير 2020 فقط. 

في دراسة لمنظمة العمل الدولية [2]، صادرة في تشرين الأول/ أكتوبر 2021 تمّ مسح حجم العمالة غير المنظمة ودرجة الهشاشة في صفوف المواطنين اللبنانيين الأقل حظوةً، واللاجئين السوريين والفلسطينيين المقيمين في لبنان، وأظهرت النتائج أن الآثار المتراكمة للصدمات الاقتصادية فاقمت من مستويات الضعف ومن انتشار العمالة غير المنظمة وسط هذه المجتمعات المنكوبة أصلاً. وفق الدراسة، تبين أن 22,2 في المئة فقط من إجمالي العمالة (في العينة [3]) يمكن وصفها بالمنظّمة، و67,4 في المئة من إجمالي العاملين يعملون في القطاع غير المنظّم. هذه النسب تفسر الاتجاه المتزايد نحو هذه القطاعات غير النظامية التي يذهب قسم منها إلى "التوظيف الذاتي" لمن استطاع إليه سبيلاً.

تجارب متعددة

بالنسبة للصحافي ماهر الخشن، وُلد قراره البدءَ بمشروعه الخاص "حلويات ماهر" في عينِ اليومَ الذي ترك فيه وظيفته السابقة. يقول أنه فكّر على الفور أنه ليس بوسعه الانتظار أو الاتكال على أي طرفٍ سوى نفسه، فقرر أنه سيصنع الحلويات بمختلف أنواعها من منزله. المشروع العفوي اعتمد على المعارف والأصدقاء في البداية، كما فعلت معظم المشاريع الصغيرة جداً، ودائماً بطرق ترويجية عفوية تستغل وسائل التواصل الاجتماعي لعرض الصور والإعلان عن "لائحة اليوم". "عندما أقوم بعمل ما بشكل حرّ (فريلانس)، استثمر أي مبلغ يصلني في مشروعي، وهذا هو مخططي للمرحلة المقبلة (...) أودّ أن أختبر إذا كان بإمكاني الاعتماد على بيع الحلويات أم لا، وسأحاول توسيع عملي لأرى إذا كان ذلك واقعياً،" يقول ماهر. فحتى الآن، هو يجد أن بيع منتوجاته يردّ كلفة صناعتها فقط، وبالتالي فهو لا يستفيد بشكلٍ يجعل مشروعه ذا جدوى فورية من منظورٍ معيشي، لذلك يعوّل على هذه المرحلة المبكرة لتطوير مشروعه مستقبلاً.

من جهتها، أم فادي (سلام فرحات غانم) تعمل من مطبخها لمدة أطول، سابقةً الأزمة بقليل، منذ تراجع عمل زوجها الذي يعمل نجار مفروشات. هي ربة أسرة بدوام كامل ولم تكن موظفة أو عاملة مقابل أجر في أي وقت سابق من حياتها، لكن تدهور الأوضاع المعيشية دفعها لأخذ الأمور على عاتقها، فـ"المطبخ موجود والمعرفة بالطبخ موجودة"، فلماذا لا تحوّل مهارتها إلى عمل له مقابل مادي؟ تقول أنّ الموضوع بدأ بإعلانها لدائرة المعارف والأصحاب بأنها مستعدة لعمل مونة للبيوت التي ترغب بذلك، وعندما وجد هؤلاء أن منتوجاتها جيدة النوعية والطعم، عرّفوا أصدقائهم إليها وصارت دائرة الزبائن الصغيرة تتسع... "ساعدتني ابنتي بإنشاء صفحة انستغرام وهي تجيب على الاتصالات وتأخذ الطلبات لأنني لا أعرف الكثير عن كيفية عمل هذه الصفحات"، تقول أم فادي. وبخصوص المردود المادي لهذا العمل، فهي تصفه بغير المربح. "لأربح عليّ أن أوسّع العمل، لكنني أعمل وحدي معظم الوقت، ولا أساوم على النوعية ولا أستطيع إلّا أن أرحم الناس بالأسعار لأنني أعرف الغلاء عليّ وعليهم، لذلك فالمردود متواضع"، تقول، وتضيف بأن خدمة التوصيل على سبيل المثال كانت متوفّرة إلى أن حصلت أزمة المحروقات في لبنان، وصارت المواصلات غالية الثمن جداً لدرجة أن الشبان الذين كانوا يقومون بتوصيل الطّلبات صاروا يعتذرون عن العمل لأنه "ما بتوفّي معهم". هكذا فإنها بعد أن كانت مستعدة لإيصال منتجاتها إلى الجنوب والبقاع والمناطق المختلفة البعيدة عن بيروت وضواحيها، عادت لتحصر توزيعها بطلبات قريبة من مكان سكنها، فالوضع اللبناني “يمنع التطور" حتى لو رغب المرء بذلك.

وفي الواقع، ثمّة الكثير من الظروف الخاصة بالانهيار الاقتصادي اللبناني تضع العثرات الإضافية في طريق مَن اخترعوا لأنفسهم عملاً لمواجهة هذا الانهيار نفسه. يعبّر ماهر كما أم فادي وآخرين عن استحالة وضع لائحة بالأسعار في هذه الظروف، وعن تغير أسعار المواد الأولية من يوم لآخر، بحسب سعر الصرف وتغير تسعيرة البنزين، مما يجعل ميزانياتهم وأسعارهم غير نهائية ويصعّب عليهم تحقيق ربح يُذكَر. هذا الأمر يؤثر أيضاً على القدرة على "توظيف" آخرين لمساعدة المشروع أو توسيعه، كما يبقي مسألة التوصيل رهينة سعر المحروقات الذاهب في الارتفاع بشكل جنوني[4] . ولرسم صورة أوضح عمّا يعنيه هذا الغلاء، يمكن القول أنه بالنسبة لعدد كبير من اللبنانيين، صارت كلفة الذهاب إلى العمل والعودة منه يومياً تتخطى ثلثي الراتب لشهري، بل تساويه أحياناً وبلا مبالغة، ما يعني أن العمل يخسر جدواه...

أم فادي تعمل من مطبخها منذ مدة أطول، سابقةً الأزمة بقليل، حين تراجع عمل زوجها نجار مفروشات. هي ربة أسرة بدوام كامل ولم تكن موظفة أو عاملة مقابل أجر في أي وقت سابق من حياتها، لكن تدهور الأوضاع المعيشية دفعها لأخذ الأمور على عاتقها، فـ"المطبخ موجود والمعرفة بالطبخ موجودة"، فلماذا لا تحوّل مهارتها إلى عمل له مقابل مادي؟

يعبّر ماهر كما أم فادي وآخرين عن استحالة وضع لائحة بالأسعار في هذه الظروف، وعن تغير أسعار المواد الأولية من يوم لآخر، مما يجعل ميزانياتهم وأسعارهم غير نهائية ويصعّب عليهم تحقيق ربح يُذكَر. وبالنسبة لعدد كبير من اللبنانيين، صارت كلفة الذهاب إلى العمل والعودة منه يومياً تتخطى ثلثي الراتب لشهري، بل تساويه أحياناً وبلا مبالغة، ما يعني أن العمل يخسر جدواه. 

مع كل تلك الصعوبات، ثمة ميل واعٍ لدى كل من ماهر وأم فادي إلى الحفاظ على سعر معقول بالنسبة للناس، فهما يعرفان أسعار المحلات والمأكولات الجاهزة، ومثل الجميع، يستغليانها. يذهب ماهر إلى حد القول أنّ لديه "مشكلة أخلاقية مع التوسّع" بالعمل كتجارة، مع ما يستتبع ذلك من رفع الأسعار وتوظيف مساعدين مثلاً والانخراط في "بزنس" بهدف تحقيق أرباح أكبر، وهو إلى ذلك يأخذ عدة أمور بعين الاعتبار، وهذه تشمل عدم التعامل مع شركات مثل شركة "ألبان لبنان" المتهمة بتلويث نهر الليطاني بمخلّفات الأبقار، مستبدلاً منتوجاتها الجاهزة كالقشطة بمنتوجات بيتية يصنعها شباب يفضل التعامل معهم، وبالتالي يقوم بدعم مَن هم مثله يعملون لصالحهم الخاص. وبالفعل، تتقاطع أقوال عدة أفراد من أصحاب هذه المشاريع الخاصة الصغيرة حول أهمية مفهوم الدعم في هذا النوع من المشاريع الصغيرة – الدعم من الدوائر المحيطة إن كزبائن أو كمُعلِنين ومروّجين للمنتوجات إلى دوائر أوسع فأوسع. إنما يدلّ هذا الأمر على أن استراتيجيات الترويج والدعاية وزيادة المبيعات كلها مرتبطة بالمعرفة الشخصية والعائلات والعلاقات الاجتماعية بالدرجة الأولى وثمّ بالدرجة الثانية بمدى احترافية استخدامهم لوسائل التواصل الاجتماعي وبالدرجة الأخيرة بمدى اهتمام أصحاب هذا العمل (أو عدمه) بإنشاء "نموذج تجاري" (business model) وهو ما لا يستقيم عمل الشركات المتوسطة والكبيرة من دونه.

روّاد أعمال عن غير قصد

هذه الديناميكيات في العمل، كإيجاد طرق للترويج والبيع والتوصيل، تحدُث بشكل عضوي وسياق تطوّر طبيعي، فهؤلاء الأفراد المبادِرين ليسوا متدربين على "ريادة الأعمال" أو منطق الـ”startups” في أغلب الأحيان، ولا هم مدفوعون بورش عمل تنظمها جمعيات غير حكومية كما لا يتلقون دعماً مالياً من الدولة أو الجمعيات، إلّا أنهم رغم ذلك روّاد أعمال جدد وبحكم مبادرة شخصية عمادها الضرورة (المادية) والرغبة بعملهم الخاص.

بين عامي 2015 و2019، ارتفعت نسبة ريادة الأعمال المبكرة (early stage entrepreneurship) في لبنان بشكل عام في الأسر ذات مستويات الدخل المنخفض وانخفضت هذه النسبة في الأسر ذات مستويات الدخل المرتفعة، حسب دراسة أجرتها الجمعية الألمانية للتعاون الدولي عام 2019 [5]. وحسب الدراسة ذاتها، كان للبنان ثاني أعلى حصة من إجمالي نشاط ريادة الأعمال في المرحلة المبكرة المدفوع بالضرورة أو الحاجة المادية لتأمين المعيشة بنسبة 38 بالمئة من مجمل هذه الأعمال، تسبقه مصر بنسبة 43 بالمئة - وهذه النسب تشملها مروحة واسعة من الأعمال، إلا أنها أرقام دالة لكونها تعبّر عن نمط لطالما اتجه إليه قسم لا يستهان به من الأفراد منخفضي الدخل بالذات. كما تجدر الإشارة إلى أنّ هذه النسب سابقة للأزمة الاقتصادية ولا تتوفر أرقام واضحة لعامي 2020 و2021 حول ريادة المشاريع الصغيرة أو شركات الشخص الواحد وبخاصة تلك المدفوعة بالضرورة أو تلك غير المسجلة كشركة، بيد أنّ مسحاً سريعاً يكشف أنّ مقابل موجة من مشاريع الشخص الواحد منخفضة الكلفة والمخاطرة، هناك تقلص كبير في الشركات متوسطة الحجم والكبيرة التي لم تتمكن من الصمود أمام الوضع الاقتصادي، وبالتالي فهي إما تجزّ عدد موظفيها وتحجّم خدماتها أو أنها تغلق أبوابها نهائياً [6].

بين عامي 2015 و2019، ارتفعت نسبة ريادة الأعمال المبكرة (early stage entrepreneurship) في لبنان بشكل عام في الأسر ذات مستويات الدخل المنخفض وانخفضت هذه النسبة في الأسر ذات مستويات الدخل المرتفعة، حسب دراسة أجرتها الجمعية الألمانية للتعاون الدولي.

تلفت الأستاذة الجامعية والباحثة في القضايا القانونية عزّة سليمان إلى أهمية صفة "الاستقرار" في هذا السياق، وهي أشدّ ما يفتقر إليه العاملون في أي مجال في لبنان، وبالأخص في العمل الحر والفردي. تقول "إننا عندما نتحدث عن أي عمل فذلك يعني أنه يجب أن يؤمن للعامل ضماناته الاقتصادية والاجتماعية والأسرية ليكون لديه حد أدنى من الاستقرار. وعندما نتكلم عن هؤلاء الذين يبدأون مشاريع كتجارة صغيرة وغالباً من فرد واحد، فهؤلاء لا يشملهم الضمان الصحي أو الاجتماعي."

مقالات ذات صلة

 وتضيف أن هذه "البزنس" الصغيرة المصنفة غالباً مؤسسة صغيرة أو صغيرة جداً (SEs [7]) ربّما أمكن لها أن تؤمّن المعيشة، لكنها في النهاية تصنف كتجارة بحال تسجيلها، والتاجر ليس مصنفاً كعامل بالتوصيف الرسمي. فعندما يفتتح أحدهم مؤسسة مهما كان حجمها في لبنان، يمكنه تسجيل عماله وإدراجهم في الضمان الاجتماعي، إنما هو لا يستطيع أن يضمن نفسه. تضيف الباحثة بأنّ التسجيل في الضمان لطالما كان مطلباً لأصحاب هذه المشاريع لأنّ عملهم لا يحقق الاستقرار بدون ضمانات اجتماعية واقتصادية، لافتةً إلى أنّ النقاش الذي يدور في البلد حالياً حول بند الرعاية الاجتماعية في مشروع البنك الدولي للبنان لا يعني أنّ الأمور ستؤول إلى مكان جيد من ناحية هذه الرعاية، بل قد يسيّر المسؤولون المفاوضات بحيث ينتهي بنا المطاف ببند رعاية اجتماعية موضوع بشكل لا يليق بحاجات الناس وبال"الحد الأدنى"، مما يفرغه من مضمونه المفترض، "فالناس بحاجة لأكثر من الأكل والشرب".

تحدث أكثر من شخص عن "متعة" العمل والسعادة بنتيجة الشغل والفرح لسماع آراء الأصدقاء وتقييماتهم، ويقولون أنهم ببساطة "يحبون" ما يفعلون، وتلك قيمة غالباً ما نغفل عنها عندما نتحدث عن مجالات العمل، إلّا أنها على أهميتها لا تكفي العامل قوت يومه بلا مردود "واقعي" بأقل تقدير.

وتقول سليمان بأنّ المصارف في لبنان في السنوات العشر الأخيرة كانت تمول المشاريع الصغيرة وتعطيها قروضاً ميسرة، "كما كان هناك تشجيع على افتتاح هذا النوع من المشاريع بالذات، بحيث يقولون للناس "اذهبوا وأسسوا مشاريعاً، اعملوا entrepreneurship، لكن بدون أية ضمانات". وهذا إذا كنا نتحدّث عن المشاريع التي يتمّ تسجيلها رسمياً، لكن على أرض الواقع، تنتمي معظم مشاريع الشخص الواحد المدفوعة بالضرورة إلى القطاع غير النظامي، أي أنها موجودة كاقتصادٍ موازٍ، وتطبع هذه الأعمال صبغة "المؤقّت" أو "المرحلي" أحياناً، لأنها تأتي كنوع من الإنقاذ الذاتي.

***

في الواقع، فالقاسم المشترك الأكبر بين كل الذين تحدثوا عن تجربتهم مع عملهم الخاص أثناء الأزمة وفي ظروف اقتصادية عامة وخاصة عديمة الرحمة، هو تعبيرهم عن شعورٍ حقيقي بالرضا عن عملهم هذا وعن أنفسهم في إدارته وصنع محتواه أو منتوجاته. هذا الرضا قد لا ينسحب على المردود المادي لعملهم الجاد، وهو الحيّز الذي يغلب عليه الشعور بالإحباط. تحدث أكثر من شخص عن "متعة" العمل والسعادة بنتيجة الشغل والفرح لسماع آراء الأصدقاء وتقييماتهم، ويقولون أنهم ببساطة "يحبون" ما يفعلون، وتلك قيمة غالباً ما نغفل عنها عندما نتحدث عن مجالات العمل، إلّا أنها على أهميتها لا تكفي العامل قوت يومه بلا مردود "واقعي" بأقل تقدير. إنّ هذا النوع من الأعمال ليس بديلاً عن أنماط نظامية تحقق حداً أدنى من الاستقرار والاستمرار وتؤمن الضمان الاجتماعي والاشتراك في صناديق تقاعدية وما إلى ذلك، لكنه أحد الأدوات المتاحة إلى الآن لتدبير المعيشة، وإن أحاطت بها صعوبات جمّة تقطع الطريق على أي نوع من النظر إليها بعين "الرمنسة "[8].  

______________

[1] الشبكة الدولية للمعلومات هي شبكة إحصاءات ودراسات وأبحاث مركزها لبنان.
[2] للاطلاع على الدراسة: https://bit.ly/31mwRst
[3] اختيرت عينة من الأسر المهمشة من لبنانيين وسوريين وفلسطينيين من 251 منطقة سكنية هي الأكثر حرماناً في لبنان، تضم 87 % من النازحين السوريين واللاجئين الفلسطينيين و67 % من اللبنانيين المحرومين.
[4] تخطّى سعر تنكة البنزين في شهر تشرين الأول/ أكتوبر2021، 250 ألف ليرة لبنانية.
[5] دراسة بعنوان "العمالة وسوق العمل في لبنان" صادرة عن الجمعية الألمانية للتعاون الدولي”Deutsche Gesellschaft für Internationale Zusammenarbeit”. للمزيد: https://www.giz.de/en/downloads/ELMA_Lebanon_2019.pdf
[6] على سبيل المثال، لم يبق سوى 30 بالمئة فقط من 12 ألف مؤسسة سياحية في لبنان (ضمنها نحو 8 آلاف مطعم ومقهى)، إذ أغلقت مئات المؤسسات أبوابها إثر الأزمة (حسب تصريح لأمين صندوق نقابة المطاعم والمقاهي في لبنان عارف سعادة).
[7] Small or very small enterprises
[8] Romanticizing 

مقالات من لبنان

للكاتب نفسه

أجمل من خيال

صباح جلّول 2023-07-06

إنها أجمل من الخيال والأفلام، هذه الحكاية، والناس في حكاياتنا أجمل من الأبطال الخارقين أيضاً وأكثر إبهاراً. ننظر إلى المشهد مرة أخرى، فنتفاجأ بشبان عاديين، عاديين تماماً، ولكن قادرين تماماً...

خضر عدنان شهيداً: قتلوا المناضل المثال!

صباح جلّول 2023-05-02

روح الشيخ خضر عدنان المقاتلة التي لا تلوِّثها اعتبارات السياسة والفصائل والانتماءات والمصالح هي بالذات ما أرّق الاحتلال. كان شيخاً تقياً منفتحاً وعاملاً خبّازاً يعمل في مخبزه في بلدته عرّابة،...