التخطيط الحضري لقطاع غزة: عمران مغمور بالاحتلال والحصار

مرّ التخطيط العمراني في غزة بمسارات متعددة، ساهمت جميعها في إيجاد مشكلات باتت نتائجها غير قابلة للحل، بسبب الانفصال العميق بين العمارة وبين من يخطط لها ومن يستفيد منها، في شريط سهلي تعد أكثر من 70 في المئة من مساحته ملكية خاصة، وهي مساحة القطاع المحاصر البالغة 365 كلم مربع.
2021-11-27

محمود زُغْبر

صحافي من غزة، فلسطين


شارك
دمار اثر غارات اسرائيلية على أحد مخيمات قطاع غزة

حكمت قطاع غزة - وتولّت الشق التخطيطي فيه - حكومات وإدارات مختلفة، ذات مصالح متضاربة، بالإضافة لتداخل المتغيرات السياسية والطوبوغرافية التي أثّرت على سكان القطاع وبنائهم الاجتماعي والاقتصادي.

لطالما أهملت مسألة التخطيط، وذلك منذ حقبة حكم العثمانيين، ثم الانتداب البريطاني، وإنشاء الدولة الإسرائيلية/ النكبة الفلسطينية، وحقبة ما بعد هزيمة 1967، وصولاً إلى الإدارة المدنية الذاتية لقطاع التخطيط بمستوياته المختلفة.. فمرّ التخطيط في مسارات متعددة، ساهمت جميعها في إيجاد مشكلات باتت نتائجها المعمارية غير قابلة للحل، بسبب الانفصال العميق بين العمارة وبين من يخطط لها ومن يستفيد منها، في شريط سهلي تعد أكثر من 70 في المئة من مساحته ملكية خاصة، وهي مساحة القطاع المحاصر البالغة 365 كلم مربع.

بدأت معضلة المساحة تنمو في قطاع غزة عندما احتلت إسرائيل نحو ثلث مساحته التي كانت تبلغ جينذاك 555 كلم مربع، تبقت بعد النكبة الفلسطينية. وهذه جزء من أراضي منطقة "قضاء غزة" حسب تقسيم الانتداب البريطاني بعد توقيع اتفاقية "التعايش" السرية بين النظام المصري والسلطات الإسرائيلية، بتاريخ 22 شباط/فبراير 1950، أي بعد سنة من اتفاقية الهدنة. قضت هذه الاتفاقية بإنشاء منطقة عازلة مساحتها 200 كلم مربع بين القطاع وجنوب فلسطين المحتل عام 1948، ضُمّت إلى الدولة الإسرائيلية، بغاية وقف عودة اللاجئين الفلسطينيين المؤقتة إلى ديارهم لرعي مواشيهم وحصاد محاصيلهم الزراعية في قراهم ومدنهم التي هُجروا منها. فقد كانت السيطرة الإسرائيلية على منطقة جنوب فلسطين آنذاك، متمثلة بوضع اليد من خلال انتشار لمواقع الجيش الإسرائيلي العسكرية، دون أي وجود لتكتلات استيطانية بعد.

خلال النكبة، حاولت إسرائيل مهاجمة جنوب الساحل الفلسطيني وتقسيم قطاع غزة إلى شطرين، في موقعة مشهورة تسمى "تبة 86" أو تبة الشيخ حمودة. وقد هُزم فيها الجيش الإسرائيلي هزيمة منكرة، وقتل قائده الروسي، وبذلك تمّ إنقاذ ما يسمى الآن قطاع غزة، الذي يتكدس فيه أهالي 247 مدينة وقرية في جنوب فلسطين، وهم الذين طردتهم إسرائيل، واحتلت أراضيهم بعد انسحاب الجيش المصري.

تخطيط محكوم بحقائق الواقع

تبدو تكتلات السكان في كل مدن القطاع، كمخيمات لاجئين كبيرة وعشوائية. غابة كثيفة من مكعبات الاسمنت متعدد الطبقات، متراصة ومتلاصقة بجانب بعضها البعض، بطريقة يصعب التفكير معها في إعادة التشكيل أو التطوير الحضري للمكان. غابة ذات حدود صغيرة، شكّلها عجز اللجوء، ومفاعيل الأمر الواقع السياسي والاجتماعي المتراكمة عبر عقود من الزمن.

وكذلك الحال بالنسبة للبيئة الطبيعية والمساحات الخضراء في معظم المناطق الحضرية بالقطاع. فهي إما مفقودة أو غير ملبية لاحتياجات السكان، أو تعاني من الضغط الشديد عليها، مما يهدد بفقدانها أو تدني خدمتها.

خلال النكبة، حاولت إسرائيل مهاجمة جنوب الساحل الفلسطيني وتقسيم قطاع غزة إلى شطرين، في موقعة تبة الشيخ حمودة. وقد هُزم فيها الجيش الإسرائيلي هزيمة نكراء، وقتل قائده الروسي، وبذلك تمّ إنقاذ ما يسمى الآن قطاع غزة، الذي يتكدس فيه أهالي 247 مدينة وقرية في جنوب فلسطين، وهم الذين طردتهم إسرائيل، واحتلت أراضيهم بعد انسحاب الجيش المصري.

يعيش في قطاع غزة نحو مليوني فلسطيني، يشكل اللاجئون إليه نسبة 65.2 في المئة منهم، ويتركب التكوين المكاني لهم من تجمعات سكانية مرتبة تنازلياً: غزة، وخانيونس، ورفح ودير البلح، وجباليا والنصيرات والمغازي والبريج وبيت لاهيا وبيت حانون. وتصنف وزارة الحكم المحلي الفلسطينية المراكز العمرانية وفقاً لنمطين: مدن وقرى. وتعتبر مخيمات اللاجئين التي أقيمت بالقرب من التجمعات السكانية تلك، ضمن الحدود الإدارية للمدن، بكثافة سكانية تقريبية تصل الى 26 ألف إنسان/ كلم مربع في المدن، ونحو 55 ألف إنسان/ كلم مربع في المخيمات.

وقد خطط الشق المحلي الأكبر من مساحة قطاع غزة تحت تأثير تداول وتجارة الأراضي لاستخدامات الإسكان والزراعة، جنباً إلى جنب مع سياسات الاحتلال الإسرائيلي الاستيطانية إبان فترة حكمها العسكري للقطاع، ومن بعد ذلك شروعها في الحصار.

لفهم نمو هذا النسيج العمراني المعقّد، لا بد من قراءة تاريخ هذا المعمار والمؤثرات التي شكلته، حيث أن القطاع لا يتمتع بمدن مركزية سوى مدينة غزة التي تحتوي على الخدمات الرئيسية، كالمرافق الصحية والمؤسسات الحكومية والجامعات وأماكن العمل، ما يولّد حركة تنقل "بندولية" بين المحافظات من جنوب القطاع وشماله، ينتج عنها ازدحاماً خانقاً وضغطاً على شبكة المواصلات، وضوضاء، وتلوث بيئي، ولا سيما بعد تدمير أجزاء مفصلية وكبيرة من البنية التحتية للطرق والبنيان جراء استهدافها من قبل إسرائيل خلال عملياتها العسكرية المتكررة ضد القطاع.

على الورق، كما في اللوائح القانونية، أنجزت وزارة التخطيط التابعة للسلطة الفلسطينية في عام 1998، بعد سنوات من استلامها الحكم المدني والأمني في بعض المناطق بالضفة الغربية وقطاع غزة، المخطط الإقليمي لمحافظات القطاع، والذي يعتبر المرجع الرسمي لأي توسع حضري إقليمي أو تنمية وتطوير فيه.

يعيش في قطاع غزة نحو مليوني فلسطيني، يشكل اللاجئون إليه نسبة 65.2 في المئة منهم، وتعتبر ضمن الحدود الإدارية للمدن، مخيمات اللاجئين التي أقيمت بالقرب من التجمعات السكانية تلك، بكثافة سكانية تقريبية تصل الى 26 ألف إنسان/ كلم مربع في المدن، ونحو 55 ألف إنسان/ كلم مربع في المخيمات. 

إلا أن المخطط لا يعالج عملياً أزمة الإسكان والعمران في القطاع. هناك حاجة ملحة لحل الأزمة العميقة في الإسكان، التي وقعت بفعل التراكم التاريخي للضرر الناتج عن الاحتلال وسوء أو غياب التخطيط الملائم. وكانت أهداف المخطط الإقليمي ركزت على حماية التراث الحضاري والموروث الثقافي والمواقع الأثرية، وتوفير فرص التطور السياحي وترشيد استعمالات الأراضي وتطوير البيئة، كما عمل على توجيه التطور المستقبلي للتجمعات الحضرية نحو المناطق المأهولة حالياً وفيما بينها أيضاً، لتوفير حماية للأراضي الطبيعية والزراعية. أي أن المخطط وضع إطاراً عاماً لشكل الغطاء الأرضي، بينما ترك أمر التخطيط المحلي للبلديات التابعة لوزارة الحكم المحلي، والتي لم تستطع كبح الاستثمار العقاري العشوائي في السنوات الخمسة عشر الأخيرة. هذا من جانب، ومن جانب آخر، يعاني قطاع غزة من عزله عن سائر خطط التنمية الشاملة والحضرية في باقي أراضي السلطة الفلسطينية، بعد وقوع الانقسام السياسي بينهما.

مدير مركز التخطيط الحضري والإقليمي بجامعة النجاح الوطنية، يقول في بحثه حول "التخطيط العمراني وإدارة الحيز المكاني في الأراضي الفلسطينية المحتلة: "السؤال الممكن طرحه في الحالة الفلسطينية، هو كيف يمكن إدارة التخطيط العمراني وتنظيم الحيز المكاني في ظروف سياسية واقتصادية متغيرة وطارئة، بل ومشروطة من حيث السيطرة على الموارد ووجود السيادة الإدارية، دون وضوح الحيز المكاني المنوي تخطيطه؟".

في نموذج قطاع غزة، ينعكس الحيز المكاني من كونه "خارج السيطرة والوضوح"، إلى نوع من استحالة الإدارة، في واقع تحكمه الاهتزازات والبناء الطارئ، إلى جانب كل ما يمثله حصار الاحتلال من ثقل في مسار تطور المجتمع الفلسطيني في القطاع، حيث تكدست المباني السكنية، على مر السنين، بجانب بعضها البعض. قُضمت بساتين البرتقال والتفاح التي غطت مساحات واسعة من أراضي القطاع في السابق، واقتلعت الأحراش الطبيعية لصالح البناء، بغرض إيواء السكان بعد أن ضاقت المخيمات بقاطنيها، وتشابكت مع الضواحي المجاورة، بإنشاء مبانٍ متراصة يأوي الواحد منها عشرات الوحدات السكنية المأهولة، يفصل بينها نحو مترين مربعين، انطلاقاً من المخيمات، كمراكز اجتماعية وتجارية مكتظة بالسكان حد الطفح، نحو الضواحي الجانبية لها، التي تحولت إلى أحياء سكنية عشوائية.

المخيم: نضال من أجل الحفاظ على الحالة المؤقتة للجوء

يتبدى حضور المخيم في فضاء الفلسطينيين، وفي قطاع غزة تحديداً، تماماً كما يُعرِّفونه بينهم وبين أنفسهم كـ "معسكر" متعدد الأغراض والديناميات الجماعية. فبينما مثّل بعد النكبة، شاهداً حصرياً على هول ما حدث، فهو فيما بعد، لم يعد مجموعة من الخيام بلا مرافق ولا خدمات كما أنشأته وكالة غوث اللاجئين، بحكم التطور الزمني الحاصل، وعبر محاولات صنّاع السياسة الصهاينة إخفاء أثر الجريمة والقضاء على الحالة المؤقتة لمعنى اللجوء الفلسطيني، وإحالته إلى توطين بحكم الأمر الواقع. إلا أن ما حدث في قطاع غزة هو العكس: طابع المخيم هو ما تفشى إلى المناطق والضواحي المجاورة، بفعل ضيق المساحة أولاً، وتصميم الحاكم العسكري الإسرائيلي (1967 – 1994) للسياسات التخطيطية بالقطاع، ليتناسب مع أغراض الضبط والرقابة وإدارة التدفق والكتلة السكانية، حتى صار لغير العارفين بالمدينة وتقسيماتها، من الصعب التفريق بين ما هو "مخيم"، وبين ما هو "مدينة" في الضواحي والأحياء السكنية لمدن القطاع، تماماً مثلما يجسد الغطاء الأرضي للبنيان أحد أوجه الأزمة الناتجة عن الحصار المفروض، حيث: الانكشاف البصري للفضاء الداخلي للمباني، وانعدام الخصوصية، وسوء التهوية الطبيعية، وانخفاض التعرض لأشعة الشمس.

تحولت الشبكات الطرقية التي أقامتها وكالة "أونروا" في عدة مواقع في قطاع غزة لإيواء اللاجئين، إلى تكتل فوضوي من البنى والملحقات المعدة لأغراض الإيواء، وأسفر ذلك عن تشكيل متاهة من الأزقة، بالكاد يتجاوز عرض الواحد منها متراً واحداً. وعلى الرغم من وقوع هذه المواقع تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلي، إلا أن قوات الاحتلال نادراً ما تمكنت من دخول المخيمات لشن حملة اعتقالات او استهداف الفدائيين الفلسطينيين. بدأت مجموعات الفدائيين في القطاع منذ نشأة منظمة التحرير الفلسطينية، بتشكيل خلاياها في المناطق المحيطة بمقرات قيادة جيش الاحتلال المنفصلة عن بعضها البعض، والتي كان غرضها الأساسي حماية المستوطنات الإسرائيلية المنتشرة كسهام حادة في خاصرة القطاع. كما أقامت حركة فتح والجبهة الشعبية مراكز قيادتها في قلب النسيج المتعرج لمخيمات اللاجئين، التي شهدت تطوراً أحالها إلى شبكة مناطقية من الجيوب المسلحة، حيث يسهل التحصن والاختفاء، وعزز تلك الحصون التوسع المستمر لمخيمات اللاجئين.

بحلول سنة 1970، بعد مرور أكثر من عشرين عاماً على النكبة، كان جيل جديد قد وُلِد في المخيمات، وطرأت حاجة ماسة إلى مساحة أكبر. وفي كثير من المخيمات، بدأت طفرة بناء لدى اللاجئين عبر زيادة عدد الغرف والطوابق السكنية فوق الغرف التي خصصتها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، وذلك في انتهاك لقواعد البناء الخاصة بوكالة "أونروا" التي تقدم خدمات الإدارة والتخطيط للمخيمات.

يتبدى حضور المخيم في فضاء الفلسطينيين، وفي قطاع غزة تحديداً، كـ"معسكر" متعدد الأغراض والديناميات الجماعية. فبينما مثّل بعد النكبة شاهداً على هول ما حدث، فهو فيما بعد، لم يعد مجموعة من الخيام بحكم التطور الزمني الحاصل، وعبر محاولات صنّاع السياسة الصهاينة إخفاء أثر الجريمة والقضاء على الحالة المؤقتة لمعنى اللجوء الفلسطيني، وإحالته إلى توطين بحكم الأمر الواقع. 

عمل جيش الاحتلال على تغيير المظهر المادي للمخيم بتدمير أجزاء منه وتشريد اللاجئين مرة أخرى. ترتبت على ذلك الحاجة إلى منازل جديدة، مكنت السلطات الإسرائيلية من وضع برامج توطين وتنفيذه، مفككة بنية المخيم لصالح الهندسة الاحتلالية. نشأت أحياء بلا أزقة ومخابئ يصعب كشفها، تتسع شوارعها لمرور الدبابات، وتمّ القضاء على الحالة المؤقتة للعيش في المخيم والبقاء فيه بصفة اللجوء. 

ومع مرور الوقت، بدأ اللاجئ بشراء المأوى، أو بيعه أو استبداله أو استئجاره، وهي أعمال مثّلت شكلاً من أشكال كفاح سكان معدومي الملكية العقارية من أجل عيش "حياة طبيعية" على الرغم من القيود المفروضة. وكان بعض المخيمات من الأماكن الأكثر اكتظاظاً في العالم، ومع أنها لم تكن معزولة جغرافياً عن محيطها، إلاّ إن معدلات البطالة والفقر غالباً ما كانت مرتفعة فيها.

بدأت القوات الإسرائيلية في تموز/ يوليو 1971حملة لقمع العمل الفدائي في غزة، واستمرت حتى شباط / فبراير من العام التالي. أصدر أرئيل شارون، قائد الجبهة الجنوبية في جيش الاحتلال آنذاك، أوامراً بالقتل المباشر ضد كل مشتبه به بالعمل ضمن الفدائيين. نتج عن ذلك مقتل أكثر من ألف فلسطيني، إلا أن الحملة العسكرية اكتسبت بعداً إضافياً: الهدم من أجل الشروع بالتخطيط، مخلفة ورائها أكثر من 900 عائلة بلا مأوى.

استكملت عمليات الهدم المديني الإسرائيلي في قطاع غزة بمقترحات تضمن نمطين من البنيان، يعكس كلاهما مقدرة شارون على إدارة التخطيط بوصفه أداة تكتيكية. اختص النمط الأول بإنشاء المستوطنات اليهودية، بينما كان الهدف من النمط الثاني هو تمكين قوات الاحتلال من التحرك بعرباتها العسكرية داخل المخيمات بسرعة من دون الخشية من الألغام، كتعبيد الطرقات واستحداث أنظمة الإنارة في الشوارع.

بدأت القوات الإسرائيلية في 1971حملة لقمع العمل الفدائي في غزة، واستمرت لعام. أصدر أرئيل شارون، قائد الجبهة الجنوبية في جيش الاحتلال آنذاك، أوامراً بالقتل المباشر ضد كل مشتبه به بالعمل الفدائي. نتج عن ذلك مقتل أكثر من ألف فلسطيني، إلا أن الحملة العسكرية اكتسبت بعداً إضافياً: الهدم من أجل الشروع بالتخطيط، مخلفة ورائها أكثر من 900 عائلة بلا مأوى.

هناك تسجيل لشارون وقتما كان رئيساً لحكومة إسرائيل، يتحدث أثناء تناوله الطعام في إحدى مستوطنات الضفة الغربية: "لقد قلت لهم (المستوطنين)، لا تبنوا أسيجة حول مستوطناتكم. إذا وضعتم سياجاً فإنكم تضعون حدوداً لتوسعكم. علينا أن نضرب الأسيجة حول الفلسطينيين وليس حول مواقعنا". 

واظب الاحتلال الإسرائيلي على مهاجمة مخيمات قطاع غزة في خضم المواجهة مع مصر في منتصف الخمسينيات، ومن ثم مع المقاومة الفلسطينية بعد عام 1967، وتدمير جزء كبير منها، وتهجير أعداد كبيرة من ساكنيها كما وقع في مخيم البريج في مطلع السبعينيات، ومخيم رفح في 2003، والحروب المتكررة على القطاع منذ حصاره في العام 2006، تاركاً مئات الآلاف من السكان بلا مأوى، إذا ما أضفنا إلى جانب ذلك العجز الحالي في أزمة الإسكان في القطاع، والذي يعادل نحو 120 ألف وحدة سكنية.

يوضح "أرض جوفاء: الهندسة المعمارية للاحتلال الإسرائيلي" [1]، كيف خطّ أرئيل شارون بيده الفصل الأكثر وحشية في التاريخ المديني للعمران المتشابك في قطاع غزة، حين أمر الجرافات العسكرية بشق طرقات عريضة عبر النسيج الذي يجمع أكبر مخيمات اللاجئين في غزة، جباليا، رفح والشاطئ. فقد شطرت هذه الطرق الجديدة هذه المخيمات إلى أحياء أصغر حجماً يمكن الوصول إلى أي منها أو عزلها بواسطة وحدات من جند المشاة، إضافة إلى إزالة كل المباني والثغرات حول المخيمات في منطقة عرّفها بالمحيط الأمني، وعزل المنطقة المبنية عملياً عن محيطها، ما يعني استحالة أن يغيب الداخل إلى المخيمات أو الخارج منها عن عين الرقابة الإسرائيلية آنذاك.

عمل جيش الاحتلال على محاربة الفعل الفدائي من خلال تغيير المظهر المادي للمخيم بتدمير أجزاء منه وتشريد اللاجئين مرة أخرى. ترتبت على ذلك الحاجة إلى منازل جديدة، تلك الحاجة التي مكنت السلطات الإسرائيلية من أن تضع وتنفذ برامج توطين، وأن تفكك بنية المخيم لصالح الهندسة الاحتلالية. نشأت أحياء بلا أزقة ومخابئ يصعب كشفها، أحياء تتسع شوارعها لمرور الدبابات والعربات العسكرية، وتم في الوقت نفسه القضاء على الحالة المؤقتة للعيش في المخيم والبقاء فيه بصفة اللجوء.

وفي السنوات التالية، وحتى استلام السلطة الفلسطينية لإدارة التخطيط، أعدت السلطات الإسرائيلية مخططات هيكلية محلية لبعض المدن ولاحقاً لمعظم القرى، كما أنه تم إعداد مخططات إقليمية وقطاعية لبعض المناطق في الاراضي الفلسطينية، كما هو الأمر بالنسبة لمخطط جزئي إقليمي للطرق - أمر عسكري رقم 50 عام 1979. وكانت مشاركة الفلسطينيين في مؤسسات التخطيط في هذه الفترة، وإدارتها كمتخذي قرار، محدودة، وقوبلت تدخلاتهم بالرفض.

في أحد أفلامه الوثائقية، أورد المخرج الإسرائيلي آفي مغربي، تسجيلاً لشارون وقتما كان رئيساً لحكومة إسرائيل، وهو يتحدث أثناء تناوله الطعام في إحدى مستوطنات الضفة الغربية: "لقد قلت لهم (المستوطنين)، لا تبنوا أسيجة حول مستوطناتكم. إذا وضعتم سياجاً فإنكم تضعون حدوداً لتوسعكم. علينا أن نضرب الأسيجة حول الفلسطينيين وليس حول مواقعنا".

______________

1- "أرض جوفاء: الهندسة المعمارية للاحتلال الإسرائيلي"، أيال وايزمان، الشبكة العربية للابحاث والنشر، مصر، 2017 

مقالات من فلسطين

غزة القرن التاسع عشر: بين الحقيقة الفلسطينية والتضليل الصهيوني

شهادة الكاتب الروسي ألكسي سوفورين الذي زار غزة عام 1889: "تسكن في فلسطين قبيلتان مختلفتان تماماً من حيث أسلوب الحياة: الفلاحون المستقرون والبدو المتجوّلون بين قراها. الفلاحون هنا هم المزارعون....

وليد دقة الذي عاش ومات حرّاً

2024-04-11

عاش وليد دقّة غصباً عن القيد، غصباً عن السجان، غصباً عن الزنزانة، غصباً عن دولة الاحتلال بأكملها، غصباً عن العالم المختلّ بأسره، غصباً عن المرض أيضاً، غصباً عن العمر المنهوب...

للكاتب نفسه