ما العَلَم؟

لديَّ ذكريات قوية عن العلم الفلسطيني تعود إلى عهد الطفولة. خلال الانتفاضة الأولى، كانت أمّي تدفعنا لأن نرسم المثلث الأحمر والخطوط المتوازية، الأسود والأبيض والأخضر، على ورق المسوَّدة. وما إن تنتهي الرسوم حتى تخبّئها تحت أسرّتنا وتحذّرنا قائلةً: "هنا لن يستطيع الجنود أن يعثروا عليها، إذا رأوها أخذوكم". ذلك كان فَرْضُ الرسم المنتظم بعد الظهر من كلّ يوم: ارسموا، افرحوا، خبّئوا، واحفظوا
2015-09-19

نديم خوري

أستاذ وباحث من فلسطين


شارك
| en

لديَّ ذكريات قوية عن العلم الفلسطيني تعود إلى عهد الطفولة. خلال الانتفاضة الأولى، كانت أمّي تدفعنا لأن نرسم المثلث الأحمر والخطوط المتوازية، الأسود والأبيض والأخضر، على ورق المسوَّدة. وما إن تنتهي الرسوم حتى تخبّئها تحت أسرّتنا وتحذّرنا قائلةً: "هنا لن يستطيع الجنود أن يعثروا عليها، إذا رأوها أخذوكم". ذلك كان فَرْضُ الرسم المنتظم بعد الظهر من كلّ يوم: ارسموا، افرحوا، خبّئوا، واحفظوا بأمان. وحين نمضي إلى الفراش، كنا نتصور الجنود غيلاناً، وأعلامنا كنوزاً تجتذبهم وتغريهم.

ذات يوم، اقتحم الجنود حيّنا وأرادوا دخول منزلنا. كان والداي بعيدين، وتركا لأخي وأختي ولي أمر التعامل مع ذاك الوضع. أطلّ أخي بشجاعة من النافذة وقال للجنود إنه لن يسمح لهم بالدخول. وإذ رأى الجنود إصراره، ضربوا بابنا الحديدي السميك بأعقاب بنادق M16، وأمرونا بأن ندعهم يدخلون. قلت لنفسي:""إنهم يعلمون، يعلمون بأمر الأعلام". ومن دون أكاذيب، أرعبني مرأى الجنود وهم يحاولون اقتحام منزلنا. لكن شيئاً ما في ذلك أعطاني القوة أيضاً: خطر لي أنَّ بمقدور أربعة أقلام وقطعة من الورق أن تستجلب سيارة جيب عسكرية إلى بابنا. فماذا لو رحت أغني أغنية "يا فدائي" ؟

لم تكن الأعلام المرسومة ما يبحثون عنه بالطبع، لكن هذه هي القصة التي ألّفتها كطفل. وهي ليست بالقصة البعيدة الاحتمال، لأنّ العلم كان ممنوعاً آنئذ. ففي عام 1967، حظر الحاكم العسكري الإسرائيلي إظهار الرموز الوطنية الفلسطينية، وفي مقدمتها العلم. لكن شباب الانتفاضة كانوا ليخاطرون بأنفسهم كي يرفعوا علماً على عمود كهرباء، وكانت المدارس لتخاطر بإغلاقها حين يطوف تلامذتها حاملين الرموز الوطنية. وإنني لأشك في أنَّ الجميع كانوا يعرفون المعاني التاريخية لألوان العلم الأربعة التي تمثّل القضية الفلسطينية. لكننا كنا نعرف أن هذه الألوان تمنحنا القوة وتهددهم. كان رمزاً جامعاً حقاً، وهذا هو كل ما كنا بحاجة إلى معرفته.

آخر ذكرياتي عن العلم أخفّ وطأةً بكثير. كان ذلك في التفتيش الأمني في مطار بن غوريون في تل أبيب (باعتباري من القدس الشرقية، كان "مسموحاً" لي أن أسافر عبر المطار الإسرائيلي مع وثيقة سفر). كان في أمتعتي "كفّيّة" أعطاني إيّاها طلابي. وكان العلم الفلسطيني على جهة منها وشعار جامعة القدس على الجهة الأخرى. وكنت درّست في جامعة القدس لمدة سنتين وبصدد مغادرة فلسطين مرّة أخرى. أعطاني طلابي "الكفّيّة" كي أتذكر الوطن، وأتذكر أن أعود. لم يكن بمقدوري أن أغادر البلاد من دونها، فوضعت الهدية في حقيبتي وقصدتُ المطار.

وصلتُ التفتيش الأمني حيث تمّت غربلة أمتعتي بكل دقّة. وبينما كان ضابط الأمن يفتش حقيبتي، راحت ألوان العلم الأربعة تبرز شيئاً فشيئاً. وكما لو كان الأمر بفعل غريزة جسدية غريبة، تذكرت تحذير أمي. آه، أنا لم أخبئه كما يجب! ما الذي سيقوله الضابط؟ ما الذي سأفعله؟ كان عقلي في سباق. لكن الضابط لم يكد يلحظ الكفّيّة أو الألوان التي تزينها. وبدا أكثر اهتماماً بلون ملابسي الداخلية منه بألوان علمي. وتركني حائراً. مزيجٌ من المشاعر والذكريات والاضطراب. مجرد وجودي كفلسطيني يستدعي تفتيشاً أمنياً ​​يفوق الخيال،لكن علم بلادي لم يكد يُلْحَظ. أنا تهديدٌ ديموغرافي وأمنيّ، أمّا رمز شعبي فليس كذلك.

أتأمل هذه المفارقات بينما الجمعية العامة الأمم المتحدة تصوّت لمصلحة رفع العلم الفلسطيني في مقر الأمم المتحدة في نيويورك. لقد أعطتنا اتفاقات أوسلو الحق في إبراز رموزنا الوطنية من دون أن تعطينا الشيء ذاته الذي قُصِدَ بهذه الرموز أن تعنيه. فنحن لم نتخلص من الاحتلال الاستعماري، ولم نحقق الوحدة بين الفلسطينيين، لا داخل فلسطين التاريخية ولا خارجها. كما أننا لم ننل السيادة السياسية التي وُعدنا بها، والعدالة لشعبنا لا وجود لها. وغدت رموزنا قفصاً ذهبياً صُمِّمَ كي يروّض آمالنا ونُسَرّ لأوهام الاستقلال. وهذه الرموز المطبوعة على جوازات السفر والطوابع والكتب المدرسية هي أشبه بشعوذات وألاعيب قادرة على تحويل قضية سياسية إلى عرض سحري. ولذلك أسألكم: أيّ علم هو الذي تريدون أن تلوّحوا به؟ علمُ دولةٍ وهمية، أم العلم الذي علمتنا أمّي أن نرسمه؟ العلم الذي لم يُثر انتباه الجندي الإسرائيلي، أم ذاك الذي جعله يقرع بابكم مغتاظاً؟

ترجمه عن الإنجليزية: ثائر ديب

للكاتب نفسه

توريث الذلّ

نديم خوري 2015-02-26

والدٌ ساخطٌ يعود إلى البيت بعد يوم عمل شاق. يتناول غداءه وهو يحمل مذياعاً في يد، وصحيفة في اليد الأخرى، وفي الخلفية التلفاز. الوجبة لذيذة، أمّا الأخبار فعسيرٌ هضمها: أخبار...