توريث الذلّ

والدٌ ساخطٌ يعود إلى البيت بعد يوم عمل شاق. يتناول غداءه وهو يحمل مذياعاً في يد، وصحيفة في اليد الأخرى، وفي الخلفية التلفاز. الوجبة لذيذة، أمّا الأخبار فعسيرٌ هضمها: أخبار حروب ودمار وهزائم تفاقم القرحة لديه. وكي ينفّس عن نفسه، يرشف الشاي بالنعناع ويتنهّد قائلاً: "لعن الله العرب! شعب فاشل". وبهذه الكلمات الدينية ينهي وجبته كما تنهي الأم وجبتها قائلةً "آمين". مثل هذا مألوف
2015-02-26

نديم خوري

أستاذ وباحث من فلسطين


شارك
| en

والدٌ ساخطٌ يعود إلى البيت بعد يوم عمل شاق. يتناول غداءه وهو يحمل مذياعاً في يد، وصحيفة في اليد الأخرى، وفي الخلفية التلفاز. الوجبة لذيذة، أمّا الأخبار فعسيرٌ هضمها: أخبار حروب ودمار وهزائم تفاقم القرحة لديه. وكي ينفّس عن نفسه، يرشف الشاي بالنعناع ويتنهّد قائلاً: "لعن الله العرب! شعب فاشل". وبهذه الكلمات الدينية ينهي وجبته كما تنهي الأم وجبتها قائلةً "آمين". مثل هذا مألوف لدى العرب أشد الألفة. وجميعنا سمعنا هذه الكلمات حين كنا نجلس صغاراً إلى مائدة الطعام، ثم رحنا نتلفظ بها ما إن بلغنا الرشد. وما من موقف حياتيّ، سواء كان احتفاءً بالأحياء أو دفناً للأموات، إلا ونلعن فيه أنفسنا وحالنا.
لم يسبق لي، أنا الذي نشأتُ في فلسطين المحتلة، أن شككتُ في هذه الشعيرة الغريبة، أو تساءلت لماذا نمضي، نحن العرب، كلّ هذا القدر من الوقت في شتم أنفسنا. هذه المشاهد كانت جزءاً لا يتجزّأ من نسيج طفولتي، شأنها شأن طعام أمي، وياسمين الحديقة، وقذارة الشوارع. غير أني، بتقدّم العمر، رحتُ أُحْبَط حيال هذا النفور من الذات الذي طال أجيالاً بأكملها. وصار يذكّرني بتشخيص برنارد لويس للتوعّك العربي، ذلك التشخيص الذي لا أوافق عليه إذ يصدر عن مراقب ما كان ليشغله قطّ أمر مداواته. ووفقاً للويس، المستشرق والصهيوني، فإنَّ إذلال العرب يمتد عميقاً على مدى قرون. ويعود إلى الوقت الذي خطفت فيه المسيحية الغربية مجدهم. لكني كنت أقول لنفسي إنَّ الإذلال تاريخي ودينامي: جاء به الفعل الإنساني ويمكن أن يذهب به هذا الفعل نفسه، فيتغيّر من جيل إلى جيل. هكذا كنت أجلس إلى مائدة الطعام ذاتها، وأفكر بكلام أبي: لماذا يلعن نفسه وشعبه؟ وعلمتُ أنَّ هذا هو كلام جيله الذي أذلته الهزائم في الحروب. وأنه يلعن العرب لأنهم وعدوا بشيء ولم يفوا به. وأنّ المذياع الذي لا يكاد يبتعد عن أذنه اليمنى سبق أن ألقى خُطَب التقدم والحرية. وأنه يقرأ الصحف بحماس لأنها سبق أن أشعرته بأنه فاعل التاريخ، ذاك الذي يصنع الأخبار، ولا يكتفي بقراءتها. لكن مذياعه لم يَعُد يَعِدَه بأي شيء هذه الأيام، وبات مقتصراً على تلاوة الهزيمة. بات والدي في موقف المتفرج على تاريخه، وأخبار الثامنة توفّر له مقعداً في الصف الأمامي يطل منه على مصير شعبه المأساوي.
ماذا عنّا نحن؟ ماذا عن جيلي؟ أدركتُ أنّ جيلي مختلف. نحن لم نترعرع على مذلّات الحرب، بل على مذلّات السلام. وعَدَنا مذياعنا باتفاق نهائي في الأشهر المقبلة، وبدولة فلسطينية في السنوات المقبلة، لكنا لم ننل أيّاً منهما. خسرنا سلاماً كان من المستحيل الفوز به، إذ صُمِّمَ لإلحاق الهزيمة بنا. ولكن، هل كنّا نعلم ذلك نحن الصّغار؟ أنّى كان لنا أن نعلم، ونحن نرى مشاهد قيام الدولة والسلام اليومية يؤدّيها أمام أعيننا ديبلوماسيّون، ورجال دولة، ونرى صناعة سلام عملاقة؟ هذه الأوهام خَدعت بالغين، وكان لا بدّ أن تخدعنا. عناوين صحفنا باتت تضع بين الإسرائيليين والفلسطينيين علامات وصل، لا فترات وتصاريف: كرة القدم الإسرائيلية ـــ الفلسطينية، الأوركسترا الإسرائيلية ــ الفلسطينية، المسرح الإسرائيلي ــ الفلسطيني... وكلما عَظُمَ الوهم الموصول، كان ذلك أفضل. شاهدنا بعضاً من أهلنا في الشّتات يعودون، بل فخرنا بمؤسسات "دولتنا" حديثة النشأة. كنا على دراية بالمحاذير، ورأينا المستوطنات الإسرائيلية تنمو، لكن هذه الحقائق كانت تُقَزَّم، على مدى بضع سنوات، وتُخرسها أبواق السلام الواعد.
من الصعب أن نتخيّل هذا الآن. بل إن تخيله بات غريباً أشدّ الغرابة بعد قيام الانتفاضة الثانية، والحروب المتعددة على قطاع غزة، والاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي المتواصل. غير أنَّ إدراكه يبقى مهماً. نحن جيل أذلّه السلام. الندوب على نفسنا الجمعية حفرتها الأقلام لا السّيوف وحدها. والسلام – تلك الكلمة التي نتمناها لضيوفنا ــ بات الآن إهانة لها طعم المرارة في أفواهنا. وهذا، في العمق، هو الإذلال الذي يغذي نضالنا ضد التطبيع مع الإسرائيليين، ضد الدبابات الإسرائيلية، والجنود الإسرائيليين، والشرطة الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية والقدس وحيفا. لم تدفعنا الندبة إلى الاستقالة، بل مكّنتنا من تنويع النضال والكفاح من أجل مستقبل حيث السلام تمكينٌ للعدالة، لا عقبة تعترضها.
لكني، وأنا أكتب هذه الكلمات كي تغذي الأمل وتحرر من دورة الذلّ، أواصل مشاهدة الأخبار، ومراقبة العدميّة والفوضى التي تحيط بنا. ولا أتمالك نفسي عن السؤال: عندما أجلس إلى المائدة في مطبخي وأتناول الطعام مع أطفالي المقبلين، من سألعن؟ وهل يلعنني أطفالي، لا سمح الله، في يوم؟
 

للكاتب نفسه

ما العَلَم؟

نديم خوري 2015-09-19

لديَّ ذكريات قوية عن العلم الفلسطيني تعود إلى عهد الطفولة. خلال الانتفاضة الأولى، كانت أمّي تدفعنا لأن نرسم المثلث الأحمر والخطوط المتوازية، الأسود والأبيض والأخضر، على ورق المسوَّدة. وما إن...