الانتقال الطّاقي بشمال أفريقيا: حضور الاستعمار الجديد.. مجدداً!

تميل "الحلول الهندسيّة" إلى تقديم تغيّر المناخ كـ"مشكلة مشتركة"، دون التطرّق إلى إطارها السياسي والاجتماعي والاقتصادي. يخفي هذا مشاكل نموذج الطاقة الرأسمالي، وكذلك المسؤوليات التاريخيّة للغرب الصناعي، واختلاف مدى التأثر بتغير المناخ بين بلدان الشمال والجنوب. استخدام عبارات مثل "التعاون المتبادل"، و"منفعة الطرفين"، التي تُقدّم "المنطقة الأورو-متوسطية" كمجتمع موحّد، يُخفي هياكل قوّة الاستعمار الجديد، واستغلال الشعوب الأفريقية ونهب مواردها.
2021-10-26

حمزة حموشان

باحث ومناضل جزائري مقيم في لندن، وهو منسق برنامج شمال أفريقيا في "المعهد العابر للقوميات" "TNI "


شارك
عثمان سلمي - تونس

عادة ما توصف الصحراء بأنها أرض شاسعة، خالية وذات كثافة سكانية منخفضة، وأنها جنّة للطاقة المتجددة، وبالتالي تمثّل فرصةً ذهبية لتزويد أوروبا بالطاقة حتى تتمكن من مواصلة نمط حياتها الاستهلاكي الباهظ والمفرط. هذا السّرد مخادع لأنه يتجاهل مسائل الملكية والسيادة، ويخفي علاقات الهيمنة والسيطرة العالمية المستمرة التي تُسهّل نهب الموارد وخوصصة المشترك، مما يعزز الطرق غير الديمقراطية والإقصائية في التعامل مع الانتقال الطاقي.

وفي هذا السياق، كان مشروع ديزرتاك (Desertec) مبادرةً طموحة لتزويد أوروبا بالطاقة من محطات الطاقة الشمسية وحقول الرياح الممتدة عبر منطقة شمال أفريقيا وغرب آسيا، اعتماداً على الفكرة القائلة بأن مساحةً صغيرة من الصحراء يمكن أن توفر حوالي 20 في المئة من احتياجات أوروبا من الكهرباء بحلول سنة 2050، عبر كابلات التوتر العالي التي يمكنها تأمين نقل التيار الكهربائي مباشرة.

بعد بضع سنوات من الجدل حول المشروع، انتهى ديزرتاك إلى التوقف، وسط انتقادات حول تكاليفه الباهظة جدّاً ودلالاته الاستعمارية الجديدة (النيوكولونيالية). ومع ذلك، يبدو أن الفكرة قد مُنحت فرصة جديدة للحياة، أُطلق عليها اسم ديزرتاك 3.0 (Desertec 3.0)، هذه المرّة كإجابة ممكنة لاحتياجات أوروبا من الهيدروجين المتجدد/ الأخضر. في أوائل سنة 2020، أطلقت مبادرة ديزرتاك الصناعية (Dii) تحالف الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للهيدروجين، الذي يجمع بين الفاعلين في القطاعين العام والخاص، بالإضافة إلى الأوساط العلمية والأكاديمية، لبناء اقتصاديات الهيدروجين الأخضر.

الانتقال الطاقي، والسلب والاستحواذ

تُظهر أمثلة من منطقة شمال أفريقيا كيف تتم إعادة إنتاج الاستعمار الطاقي حتى في عمليات التحول إلى الطاقة المتجدّدة، في ما يطلق عليه "استعمار أخضر" أو "استحواذ أخضر". إذا كان ما يهمّنا فعلاً ليس مجرد أي نوع من الانتقال، بل "انتقال عادل" يفيد الفقراء والمهمّشين في المجتمع، بدلاً من تعميق إقصائهم الاجتماعي والاقتصادي، فهذه الأمثلة والديناميات تثير الكثير من المخاوف.

هدف المغرب مثلاً هو زيادة حصة الطاقة المتجددة في مزيج الطاقة لديه إلى 52 في المئة بحلول سنة 2030. على سبيل المثال، فشلت محطة الطاقة الشمسية في ورزازات، التي انطلقت في الإنتاج سنة 2016، في تحقيق أي مظهر من مظاهر العدالة للمجتمعات الرعوية – الزراعية الأمازيغية التي استُخدِمت أراضيها دون موافقتها على إقامة المحطّة على مساحة 3000 هكتار. أضف إلى ذلك ديون بقيمة 9 مليارات دولار أمريكي من البنك الدولي وبنك الاستثمار الأوروبي وغيرهما، مدعومة بضمانات حكومية مغربية، ممّا يعني خطر زيادة الديون العموميّة لبلد مثقل أصلاً بالديون. أخيراً، يستخدم المشروع الطاقة الحرارية المُركَّزة (CSP) التي تتطلب استخداماً مكثّـفاً للمياه من أجل تبريد الصفائح الشمسية وتنظيفها. وفي منطقة شبه قاحلة مثل ورزازات، يُعدُّ تحويل استخدام المياه إلى غير أغراض الشرب والزراعة فعلاً مشيناً.

يمثّل مشروع "نور ميدلت" المرحلة الثانية من خطة الطاقة الشمسية المغربية، ويهدف إلى توفير طاقة أكبر من محطة ورزازات. مع توقُّع إنتاج 800 ميغاواط في مرحلته الأولى، سيكون أحد أكبر مشاريع الطاقة الشمسية في العالم التي تجمع بين تقنيات الطاقة الشمسية المركَّزة والطاقة الكهروضوئية (Photovoltaic). في أيار/ مايو 2019، فازت مجموعة مؤسّسات متكوّنة من EDF Renewables (فرنسا) ومصدر (الإمارات العربية المتحدة) و Green of Africa (تجمّع مغربي) بعقود بناء وتشغيل المؤسّسة بالشراكة مع الوكالة المغربية للطاقة الشمسية (MASEN) لمدة 25 سنة. تعاقد المشروع حتى الآن على ديون بأكثر من 2 مليار دولار من البنك الدولي والبنك الأفريقي للتنمية وبنك الاستثمار الأوروبي والوكالة الفرنسية للتنمية وبنك التنمية الألماني (KFW).

بدأ بناء المشروع سنة 2019، بينما من المتوقّع بدء الإنتاج سنة 2022. سيتم تطوير مجمع "نور ميدلت" للطاقة الشمسية على مساحة 4141 هكتاراً على هضبة مولوية العليا وسط المغرب، على بعد حوالي 20 كيلومتراً شمال شرق مدينة ميدلت. تتمّ إدارة ما مجموعه 2714 هكتاراً كأراضٍ جماعية من طرف ثلاث مجموعات أمازيغية زراعية في آيت أوفِلّا وآيت راحو أوعلي وآيت مسعود أوعلي، في حين تمّ تصنيف ما يقارب من 1427 هكتاراً كأراضٍ غابية تديرها مجموعات محلّية في الوقت الحالي. تمت مصادرة الأرض من أصحابها عبر قوانين ولوائح وطنية تسمح بانتزاع الملكية من أجل خدمة المصلحة العامة.

يجب أن نتساءل دائماً: من يمتلك ماذا؟ من يفعل ماذا؟ من يحصل على ماذا؟ من يفوز ومن يخسر؟ ومصالح من تأتي في المرتبة الأولى؟ نحن بحاجة إلى الابتعاد عن المنطق الإمبريالي والعرقي (وكذلك الجندري) لتحميل العبء للآخرين، الذي إذا تُرك دون تحدّي، فإنه لن يؤدي إلّا إلى استعمار أخضر ومزيد من السعي للاستخراج والاستغلال من أجل أجندة خضراء مزعومة.

في تذكرة بالسرد البيئي الاستعماري المستمر الذي يصف الأراضي التي ستتمّ مصادرتها بأنّها هامشية وغير مستَغَلَّة بشكل كاف، وبالتالي متاحة للاستثمار في الطاقة الخضراء، يؤكّد البنك الدولي في دراسة أجريت سنة 2018 "أنّ التضاريس الرمليّة القاحلة تسمح فقط بنمو النباتات الصغيرة، وأنّ الأرض غير مناسبة لتنمية الزراعة بسبب نقص المياه". يواصل تقرير البنك الدولي التّأكيد على أنّ "الحصول على الأرض لفائدة المشروع لن يكون له أي تأثير على سبل عيش المجتمعات المحلية". ومع ذلك، فإن قبيلة سيدي عياد الرعوية التي كانت تستخدم تلك الأرض لرعي حيواناتها منذ قرون تطرح المسألة من زاوية مختلفة.

صرّح الراعي الشاب حسن الغازي في 2019 لناشط من منظمة "أتاك" المغرب:

"مهنتنا هي الرعي، والآن احتلّ هذا المشروع أرضنا حيث نرعى أغنامنا. إنهم لا يشغّلوننا في المشروع، لكنهم يوظّفون أجانب. الأرض التي نعيش فيها تمّ احتلالها. إنهم يدمّرون المنازل التي بنيناها. نحن مقموعون ومنطقة سيدي عياد مضطَهَدة. أبناؤها مضطهدون، وضاعت حقوقهم وحقوق أجدادنا. نطالب المسؤولين بالاهتمام بأوضاعنا وبجهاتنا. نحن غير موجودين بمثل هذه السياسات، والأفضل أن نموت، الأفضل أن نموت!"

يؤكد تقرير البنك الدولي على أنّ "الحصول على الأرض لفائدة المشروع لن يكون له أي تأثير على سبل عيش المجتمعات المحلية". ومع ذلك، فإن قبيلة سيدي عياد الرعوية التي كانت تستخدم تلك الأرض لرعي حيواناتها منذ قرون تخالف هذا التقدير. 

في هذا السياق، ظلّ أهالي سيدي عياد يرفضون هذا المشروع منذ سنة 2017 عبر العديد من الاحتجاجات، التي أدّت إلى اعتقال سعيد أوبا ميمون في 2019، وهو عضو نقابة صغار الفلاحين وعمال الغابات، وتمّ الحكم عليه بالسجن لمدة 12 شهراً.

كما طالبت النساء من حركة السلاليّات [1]، والتي انطلقت في بدايات سنوات عقد الألفية، بحقّهن في الاستفادة من الأرض في منطقة دراع تافيلالت، وطالبن بتعويضٍ مناسب عن أرض أجدادهنَّ التي أقيمت عليها محطة الطاقة الشمسية. وعلى الرغم من ترهيب السلطات والاعتقالات والحصار، انتشرت الحركة على المستوى الوطني وانضمّت نساء من مختلف المناطق لهذه الحركة تحت راية المساواة والعدالة.

الاستعمار الأخضر بالصحراء الغربية

في حين يمكن اعتبار أن بعض المشاريع في المغرب، مثل ورزازات ومحطة ميدلت للطاقة الشمسية، "استحواذٌ أخضر" – بمعنى الاستيلاء على أراضٍ وموارد لغايات بيئيّـة مزعومة - فمن الممكن وصف مشاريع متجددة مشابهة (الطاقة الشمسية وطاقة الرياح) التي تُنجز في أراضي الصحراء الغربية، بـ"استعمار أخضر"، إذ يتمّ تنفيذها رغماً عن الصحراويين، وعلى أرضهم.

يعتمد مشروع "ورزازات" على الطاقة الحرارية المُركَّزة (CSP) التي تتطلب استخداماً مكثّـفاً للمياه من أجل تبريد الصفائح الشمسية وتنظيفها. وفي منطقة شبه قاحلة مثل ورزازات، يُعدُّ تحويل استخدام المياه إلى غير أغراض الشرب والزراعة فعلاً مشيناً.

يؤكد تقرير البنك الدولي على أنّ "الحصول على الأرض لفائدة المشروع لن يكون له أي تأثير على سبل عيش المجتمعات المحلية". ومع ذلك، فإن قبيلة سيدي عياد الرعوية التي كانت تستخدم تلك الأرض لرعي حيواناتها منذ قرون تخالف هذا التقدير.  

في الوقت الحاضر، توجد ثلاث مزارع رياح تعمل بالصحراء الغربية. وهناك رابعة قيد الإنشاء في بوجدور، بينما لا يزال العديد منها في مرحلة التخطيط. تُعدُّ مزارع الرياح هذه جزءاً من أعمال Nareva، وهي شركة لطاقة الرياح تنتمي إلى الشركة القابضة للعائلة المَلكيّة المغربيّة. تجدر الإشارة إلى أنّ 95 في المئة من الطاقة التي تحتاجها شركة الفوسفاط المغربية المملوكة للدولة، لاستغلال الاحتياطيات غير المتجددة للفوسفات بالصحراء الغربية في بوكراع، متأتّية من طواحين الهواء.

أمّا بخصوص الطاقة الشمسية، ففي تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، وبموازاة محادثات الأمم المتحدة لقمة المناخ (COP22)، وقَّعت شركة أكوا باور السعودية اتفاقية مع وكالة MASEN لتطوير وتشغيل مجمّع من ثلاث محطات للطاقة الشمسية الكهروضوئية بإجمالي 170 ميغاواط. اثنتان من هذه المحطات التي تشتغل حالياً، بإجمالي 100 ميغاواط، تقعان في منطقة الصحراء الغربية (العيون وبوجدور). أمّا المحطة الثالثة، فهناك خطط لإنشائها في العرقوب بالقرب من الداخلة.

من الواضح أن مشاريع الطاقات المتجددة هذه تُستخدم - بتواطؤ واضح من رؤوس الأموال والشركات الأجنبية - لترسيخ هيمنة المغرب على منطقة الصحراء الغربية، وهي الهيمنة التي أقرت واشنطن مؤخراً بـ"مشروعيتها" مقابل التطبيع العلني والرسمي للمغرب مع الاحتلال الصهيوني.

الهيدروجين، جبهة الطاقة الجديدة في أفريقيا

يشير الهيدروجين النظيف أو الأخضر إلى عملية استخراج الهيدروجين من مواد أكثر تعقيداً باستخدام عمليات "نظيفة" (خالية من الكربون). يُستخرَج أغلب الهيدروجين حالياً من الوقود الأحفوري، ممّا يؤدّي إلى انبعاثات كربونية كبيرة (الهيدروجين الرمادي). من خلال تقنية احتجاز الكربون على سبيل المثال، يمكن جعل هذه العملية أنظف (الهيدروجين الأزرق). ومع ذلك، فإن أنظف شكل من أشكال استخراج الهيدروجين يستخدم المحلل الكهربائي لتقسيم جزيئات الماء، وهي عملية يمكن تشغيلها بالكهرباء من مصادر الطاقة المتجددة (الهيدروجين النظيف أو الأخضر).

تُعتبر استراتيجية الاتحاد الأوروبي للهيدروجين المنشورة في تموز/ يوليو 2020 - في إطار الصفقة الأوروبية الخضراء (EGD) - خارطة طريق طموحة للتحوّل نحو الهيدروجين الأخضر/النظيف بحلول سنة 2050. تقترح هذه الاستراتيجية أن يوفّر الاتحاد الأوروبي بعض إمداداته المستقبلية من أفريقيا، وخصوصا شمال أفريقيا، التي لديها إمكانات هائلة للطاقة المتجددة، ولقربها الجغرافي من أوروبا.

يقول راعٍ شاب: "مهنتنا هي الرّعي، والآن احتلّ هذا المشروع أرضنا حيث نرعى أغنامنا. إنهم لا يشغّلوننا في المشروع، لكنهم يوظّفون أجانب. الأرض التي نعيش فيها تمّ احتلالها. إنهم يدمِّرون المنازل التي بنيناها. نحن مقموعون ومنطقة سيدي عياد مضطَهَدة. أبناؤها مضطهدون، وضاعت حقوقهم وحقوق أجدادنا. نطالب المسؤولين بالاهتمام بأوضاعنا وبجهاتنا. نحن غير موجودين بمثل هذه السياسات، والأفضل أن نموت!"

طالبت النساء من حركة السلاليّات، والتي انطلقت في بدايات سنوات عقد الألفية، بحقهنَّ في الاستفادة من الأرض في منطقة دراع تافيلالت، وطالبن بتعويضٍ مناسب عن أرض أجدادهنَّ التي أقيمت عليها محطة الطاقة الشمسية. وعلى الرغم من ترهيب السلطات والاعتقالات والحصار، انتشرت الحركة على المستوى الوطني، وانضمّت نساء من مختلف المناطق لهذه الحركة تحت راية المساواة والعدالة. 

نشأت الفكرة من ورقة بحثيّة نُشرت في آذار/ مارس 2020 لمنظّمة تجارية هي "هيدروجين أوروبا"، وقد نصّت الورقة على "مبادرة الهيدروجين الأخضر 2×40 جيغاواط" [2]. بموجب هذه المبادرة، سيكون لدى الاتحاد الأوروبي بحلول عام 2030 قدرة 40 جيغاواط من المحلل الكهربائي للهيدروجين المتجدّد المحلّي، مع استيراد 40 جيغاواط أخرى من المحلّل الكهربائي في المناطق المجاورة، من بينها صحاري شمال أفريقيا، باستخدام بعض خطوط أنابيب الغاز الطبيعي الموجودة حالياً والتي تربط الجزائر وليبيا بأوروبا.

تُعدُّ ألمانيا من بين البلدان المُتصدّرة لجهود الهيدروجين الأخضر في أفريقيا. تعمل ألمانيا مع جمهورية الكونغو الديمقراطية والمغرب وجنوب أفريقيا على تطوير "الوقود منزوع الكربون" المتولّد من الطاقة المتجددة، للتصدير إلى أوروبا. وهي بصدد استكشاف المناطق/ البلدان المُحتملة الأخرى والمناسِبة لإنتاج الهيدروجين الأخضر بشكل خاص. في سنة 2020، دخلت الحكومة المغربية في شراكة مع ألمانيا لتطوير أول مصنع هيدروجين أخضر في القارة الأفريقية.

إن مُقترح ديزرتاك، الذي يدعو إلى نظام طاقة أوروبي يعتمد على 50 في المئة من الكهرباء المتجددة، و50 في المئة من الهيدروجين الأخضر بحلول سنة 2050، ويبدأ من افتراض أن "أوروبا لن تكون قادرةً على إنتاج كل طاقتها المتجددة في أوروبا نفسها". يحاول مُقترح ديزرتاك الجديد أن ينأى بنفسه عن التركيز على الصّادرات التي صبغت المشروع في سنواته الأولى، من خلال إضافة بُعد التنمية المحلّيّة لنظام الطاقة النظيفة هذه المرّة. ومع ذلك، فإن أجندة التصدير لتحقيق الأمن الطاقي في أوروبا واضحة: "... بالإضافة إلى تلبية الطّلب المحلّي، تمتلك معظم دول شمال أفريقيا إمكانات هائلة من حيث الأراضي والموارد لإنتاج الهيدروجين الأخضر للتصدير".

ولمزيد من إقناع النخب السياسية والتجارية على جانبي البحر الأبيض المتوسط، لا يتم تقديم ديزرتاك كحل للتحوّل الطاقي في أوروبا فحسب، بل كذلك كفرصةً للتّنمية الاقتصادية في شمال أفريقيا، بما يحدّ من الهجرة بين الجنوب والشمال: "علاوة على ذلك، من شأن مقاربة مشتركة للطّاقة المتجددة والهيدروجين بين أوروبا وشمال أفريقيا أن تخلق تنميةً اقتصادية ومَواطنَ شغل موجَّهة نحو المستقبل واستقراراً اجتماعياً في بلدان شمال أفريقيا، ممّا قد يقلّل من عدد المهاجرين الاقتصاديين من المنطقة إلى أوروبا".

نظراً لكون ديزرتاك مرتكزاً على إصلاحات تقنية غير سياسيّة، فإنه يَعِدُ بالتغلّب على كلّ هذه المشكلات دون تغيير جوهري، والحفاظ أساساً على الوضع الراهن وتناقضات النّظام العالمي التي أدّت إلى هذه المشكلات في المقام الأول. تميل "الحلول الهندسيّة" الكبيرة مثل ديزرتاك إلى تقديم تغيّر المناخ كمشكلة مشتركة دون التطرّق إلى إطارها السياسي أو الاجتماعي والاقتصادي. يخفي هذا الأفق مشاكل نموذج الطاقة الرأسمالي، وكذلك المسؤوليات التاريخيّة للغرب الصناعي، واختلاف مدى التأثر بتغير المناخ بين بلدان الشمال والجنوب [3]. من خلال استخدام عبارات مثل "التعاون المتبادل"، و"منفعة الطرفين"، والتي تُقدِّم المنطقة الأورو متوسطية كمجتمع موحّد (نحن جميعاً أصدقاء الآن، نقاتل ضدّ عدوّ مشترك!)، فهي تُخفي هياكل قوّة الاستعمار الجديد واستغلال الشعوب الأفريقية ونهب مواردها.

يستلزم إنشاء البنية التحتية الضّروريّة لإنتاج ونقل الهيدروجين الأخضر قدراً كبيراً من الاستثمارات الأوليّة. بالنظر إلى التجارب السّابقة في تنفيذ مثل هذه المشاريع عالية التكلفة وكثيفة رأس المال، ينتهي الاستثمار إلى خلق المزيد من الدّيون للبلد المستقبِل، ممّا يعمّق الاعتماد على الاقتراض متعدّد الأطراف وعلى المساعدات الخارجية.

علاوة على ذلك، ومن خلال الضّغط من أجل استخدام البنية التحتية الحالية لأنابيب الغاز، فإنّ مشاريع كهذه تدعو فعلياً إلى ما لا يزيد عن تبديل مصدر الطاقة فقط، مع الحفاظ على الديناميات السياسية الاستبدادية القائمة، وترك التسلسلات الهرمية للنظام الدولي كما هي، لا تُمسّ. تثير مسألة تشجيع استخدام خطوط الأنابيب من الجزائر وليبيا (بما في ذلك عبر تونس والمغرب) عدداً من الأسئلة: ماذا سيحدث عندما تتوقّف أوروبا عن استيراد الغاز من هذه البلدان؟ مع العلم أنّ 13 في المئة من الغاز المستهلَك في أوروبا يأتي من شمال أفريقيا؟ هل ستؤخذ تطلّعات الجزائريين مثلاً إلى الديمقراطية والسيادة - التي تمّ التعبير عنها بشكل صارخ في انتفاضة 2019-2021 ضد الدكتاتورية العسكرية - في الاعتبار في هذه المعادلة؟ أم أنّنا بصدد مشاهدة نسخة جديدة من الوضع الراهن، حيث يحلّ الهيدروجين ببساطة محل الغاز؟ ربما لا جديد تحت الشمس رغم كل شيء.

مقالات ذات صلة

إلى جانب ما تقدّم، يشير بيان ديزرتاك إلى أنه "في المرحلة الأولى (بين 2030-2035)، يمكن إنتاج كمية كبيرة من الهيدروجين عن طريق تحويل الغاز الطبيعي إلى هيدروجين، حيث يتم تخزين ثاني أكسيد الكربون في حقول غاز/ نفط فارغة (الهيدروجين الأزرق)". بالإضافة إلى مسألة استخدام موارد المياه النادرة لإنتاج الهيدروجين، يمكن اعتبار هذا مثالاً آخر على إلقاء النّفايات في دول الجنوب (إنشاء "مناطق تضحية") ونقل العبء البيئي إليها.

أخيراً وليس آخراً، يستلزم إنشاء البنية التحتية الضّروريّة لإنتاج ونقل الهيدروجين الأخضر قدراً كبيراً من الاستثمارات الأوليّة. بالنظر إلى التجارب السّابقة في تنفيذ مثل هذه المشاريع عالية التكلفة وكثيفة رأس المال، ينتهي الاستثمار إلى خلق المزيد من الدّيون للبلد المستقبِل، ممّا يعمّق الاعتماد على الاقتراض متعدّد الأطراف وعلى المساعدات الخارجية.

خاتمة

يبدو أن ما يوحِّد جميع المشاريع المذكورة أعلاه هو افتراضٌ خاطئ بأنّه يجب التّرحيب بأيّ توجّه نحو الطاقة المتجدّدة، وأنّ أيّ تحوّل عن الوقود الأحفوري، بغضّ النّظر عن كيفيّة تنفيذه، يستحقّ العناء. يحتاج المرء أن يقول ذلك بوضوح: أزمة المناخ التي نواجهها حاليّاً لا تُعزى إلى الوقود الأحفوري في حدّ ذاته، بل في استخدامه بطريقة غير مستدامة ومدمّرة من أجل تغذية الآلة الرأسماليّة.

تهيمن المؤسسات ومجموعات التفكير (think-tanks) النيوليبرالية الدولية على معظم الكتابات حول الاستدامة وتحولات الطاقة والقضايا البيئيّة في شمال أفريقيا، ولا تتضمّن أفكارها أسئلةً حول الطبقية أو العرق أو الجندر أو السلطة أو التاريخ الاستعماري. 

في جميع الحالات، يقع استبعاد الأشخاص العاديين والعمّال الفقراء من أي استراتيجية ويتمّ تصويرهم على أنّهم غير فعّالين ومتخلّفين وغير منطقيّين. الأكثر تأثّراً بالأزمة المناخيّة/ البيئيّة (والأساليب الهرميّة وغير العادلة لمعالجتها) في شمال أفريقيا هم صغار الفلّاحين، وصيّادو الأسماك/ البحّارة الصّغار، والرّعاة (الذين يتمّ الاستيلاء على أراضيهم لبناء محطّات الطّاقة الشمسيّة الضّخمة وحقول الرياح)، والعاملون في قطاع الوقود الأحفوري والصناعات الاستخراجية، والعمّال في القطاعات غير المُنظّمة والطبقات المُفقَّرة. لكن تهميشهم وقع ومُنِعوا من تحديد مستقبلهم. 

على النقيض، يجب أن يغيِّر التّحوّل الأخضر والعادل بشكل أساسي نظامنا الاقتصادي العالمي الذي لا يصلح على المستوى الاجتماعي والبيئي، وحتى البيولوجي (مثلما كشفته جائحة كوفيد-19)، وأن ينهيَ العلاقات الاستعمارية التي ما زالت تستعبِد الشّعوب.

لا تُعزى أزمة المناخ التي نواجهها حاليّاً إلى الوقود الأحفوري بحدّ ذاته، بل إلى استخدامه بطريقة غير مستدامة ومدمّرة من أجل تغذية الآلة الرأسمالية. تهيمن المؤسسات ومجموعات التفكير (think-tanks) النيوليبرالية الدولية على معظم الكتابات حول الاستدامة وتحولات الطاقة والقضايا البيئيّة في شمال أفريقيا، ولا تتضمّن أفكارها أسئلةً حول الطبقية أو العرق أو الجندر أو السلطة أو التاريخ الاستعماري.

يجب أن نتساءل دائماً: من يمتلك ماذا؟ من يفعل ماذا؟ من يحصل على ماذا؟ من يفوز ومن يخسر؟ ومصالح من تأتي في المرتبة الأولى؟ نحن بحاجة إلى الابتعاد عن المنطق الإمبريالي والعرقي (وكذلك الجندري) لتحميل العبء للآخرين، الذي إذا تُرك دون تحدّي، فإنه لن يؤدي إلّا إلى استعمار أخضر ومزيد من السعي للاستخراج والاستغلال من أجل أجندة خضراء مزعومة.

 يستلزم الكفاح من أجل العدالة المناخية [4] والانتقال العادل أخذ المسؤوليات ونقاط الضعف المتفاوتة بين الشمال والجنوب في عين الاعتبار. لذلك يجب سداد الديون البيئية والمناخية إلى بلدان الجنوب العالمي التي باتت أكثر تضرراً من تغيرات المناخ والتي حبَستها الرأسمالية العالمية في نمط استخراجي نهّاب ومدمّر. في سياق عالمي من اللّبرلة القسرية والدفع باتجاه صفقات تجارية غير عادلة، بالإضافة إلى التدافع الإمبريالي على النفوذ وموارد الطاقة ، يجب ألا يصبح أيّ انتقال أخضر، وأيّ حديث عن الاستدامة واجهةً لامعة لمخططات الاستعمار الجديد للنهب والسيطرة. 

______________

[1] يشير مصطلح "النساء السلاليّات" إلى النساء القبليات في المغرب واللاّتي يعشن على أراضٍ جماعية.
[2] شارك أحد مؤلفي ورقة مبادرة 2 × 40 جيغاواط لهيدروجين أوروبا أيضاً في كتابة "بيان" الهيدروجين Dii North Africa-Europe في تشرين الثاني/ نوفمبر 2019.
[3] على سبيل المثال، شهدت الجزائر حرائق غابات مهوّلة هذا الصيف، أدّت إلى وفاة 90 شخصاً واحتراق آلاف الهكتارات. كما سجّلت تونس موجة حرّ خانقة وصلت درجات الحرارة فيها في شهر آب/ أغسطس إلى أكثر من 50 درجة مئوية.
[4] يجتمع كل عام القادة السياسيون والمستشارون ووسائل الإعلام عبر العالم، في مؤتمر من مؤتمرات الأمم المتحدة للمناخ (مؤتمر الدول الأطراف المعروف باسم COP) ولكن الحكومات تسمح بارتفاع انبعاثات الكربون وتفاقم الأزمة، على الرغم من الخطر الماثل عالمياً. قد بسطت الشركات متعددّة الجنسيّات نفوذها على المحادثات، مُشجِعةً على المزيد من "الحلول الزائفة" التي تهدف فقط إلى الربح. مؤتمر الدول الأطراف (COP26) الذي سيعقد في غلاسكو في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر2021، سيكون محط الكثير من الاهتمام، ولكننا نعرف أنه لن يرقى إلى المستوى المطلوب للتصدّي فعلاً لأزمة المناخ 

مقالات من المغرب العربي

للكاتب نفسه