من بروكسل لسخنين..

كبعض الناس، لديّ معارف محتمل وجودهم ببروكسل. بعضهم من أوروبا وبعضهم في أوروبا. بعضهم يستقلّون المترو ومنهم من يتنقل في المطارات. فيهم عرب وغير عرب. يشمل يهوداً أيضاً. هم أشخاص تعرفهم منذ زمن قديم أو جديد، أو معارف لا أكثر. وفي جميع الأحوال هناك احتمال ما، بسيط، وارِد، منطقي، وممكن في أن يمرّ بعضهم أو أحدهم في مطار بروكسل أو إحدى محطات المترو فيها. ولا أريد لأيّ من هؤلاء أن يتأذوا. لا من تفجير
2016-03-31

هشام نفّاع

كاتب وصحافي من فلسطين / مقيم في حيفا


شارك
سبحان آدم - سوريا

كبعض الناس، لديّ معارف محتمل وجودهم ببروكسل. بعضهم من أوروبا وبعضهم في أوروبا. بعضهم يستقلّون المترو ومنهم من يتنقل في المطارات. فيهم عرب وغير عرب. يشمل يهوداً أيضاً. هم أشخاص تعرفهم منذ زمن قديم أو جديد، أو معارف لا أكثر. وفي جميع الأحوال هناك احتمال ما، بسيط، وارِد، منطقي، وممكن في أن يمرّ بعضهم أو أحدهم في مطار بروكسل أو إحدى محطات المترو فيها. ولا أريد لأيّ من هؤلاء أن يتأذوا. لا من تفجير انتحاري همجي يخدم أعداء شعبي وأمتي ورؤيتي وأخلاقي، ولا من انفجار بالون غاز تعرّضت أنابيبه لتسرّب بسبب إهمال شركة أو بلديّة.
لهذا – على صعيد الحجّة الأولى – لا متّسع ولا دافع ولا مبرّر لأيّ صاحب بصيرة لا تعاني قصر نظر ولا محدودية ضمير، للقفز فرحاً علانية، ولا للانكماش بابتسامة تشفِّ خفيّة على أن عملاء التكفير - عملاء، نعم، فأفعالهم تخدم فقط من يزعمون أنهم أعداؤهم - قد ضربوا موقعاً عاماً وكأنه موقعة جهاد. الجهاد، أقول لأولئك العملاء، ينطبق على حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي، ولكن ليس عليهم. لهؤلاء قضايا أوطان، محدّدة، ملموسة، قابلة للقياس، وليست عدميِّة. أقول هذا مع التنويه إلى أنني سأناضل ضد أن يحكمني أي تيّار تسييس للدين، أو تديين للسياسة، ومن جميع الأديان، بما يشمل حماس وحزب الله والجهاد الإسلامي، حتى لو اتفقت معه في حقه وواجبه بمقاومة احتلال أو عدوان أجنبي. وهي معادلة سأتفق ضمنها أيضاً مع كل آخر، يشمل ملحدين، يحاربون ضد احتلال أو عدوان أجنبي. إيمان هذا وإلحاد ذاك هي مسألة تحلّ في المكانة رقم 2 قياساً بالضرورة رقم 1 المتمثلة بالواجب الوطني لكل شعب في صدّ عدوان/احتلال/استعمار أجنبي. بعد هذا سنتفرّغ لخصوماتنا ونزاعاتنا وحتى حروبنا الأهلية. لا بأس. وأوافق على ما قد يخطر الآن ببال البعض: ويا للبؤس! ولكن هذا حال تاريخنا بمنابعه ومساراته ومصبّاته.
الجريمة في بروكسل كانت ضد شعب، وليس ضد حكّامه. ليس في جيبي ذرّة تماثل مع سلطات تتأذّى بسبب صمتها على تفشي عصابات مرتزقة تكفيرية كافرة حتى بما تزعم الإيمان به. فليذهب أولئك وهؤلاء إلى جهنّم. إذا دمّر داعشي مركزاً لأية سلطة هيمنة من أي نوع، سأواصل شرب قهوتي بابتسامة راضيّة. "فخّار يكسّر بعضه". لكني كوطنيّ وأمميّ، أرفض المسّ بشعبي أو أيّ شعب. مع أنني سأظلّ آمل، وأتمنى وأناشد وأطالب، أن تتحمّل الشعوب مسؤولية. على الأقلّ مسؤولية عن سلامتها ومصلحتها، على أولادها ومستقبلهم، فلا تترك للتكفيريين (أدوات الجريمة) ولا للملوك والأمراء والسلاطين (وكلاء الجريمة) ولا لسادة الهيمنة (كبار مستثمري الجريمة) أن يواصلوا إجرامهم. جميع أولئك المذكورين بين قوسين هم آباء وأمهات داعش وأخواتها وأنسبائها وأقربائها. هذه الحثالات لم تأت من فراغ، بل من مختبرات ودفيئات الهيمنة.
بخصوص الشعوب، من أجل مصلحتها الحقيقية بالسلام والعدل والتقدّم، يجب التأكيد بأن السذاجة ليست حجّة دفاعيّة كافية؛ ولا الجهل، ولا الهرب إلى حيّز الخاص الأناني. من يواصل شرب نبيذه بينما يُسفك دم السوري أو الفلسطيني على مدار سنين، فإنه يرفع من أسهمه في بورصة سفك دم أحبائه في مترو أو مقهى أو مطار. لا يمكن لأحد حماية مؤخرته بواسطة إنزال غلالة قاتمة غبية على ناظريه.
ولا تأتي المناشدة بضرورة اليقظة أخلاقياً. لندع الأخلاق على الرفّ الآن، لا بل نفعياً، من أجل منفعة شعوب الغرب (حكوماتهم لتذهب إلى الجحيم!). لأن إطفاء يقظة الوعي المدني والإنساني والأخلاقي، ليست بأي شكل شفاعة ولا درعاً أخلاقياً، ولا تميمة و"حجاباً" بوجه القتل والقتلة، والتكفير والذبح، ولا مبرراً للقطعنة الذاتية – التحوّل الطوعي إلى خروف في قطيع.

أهل أوروبا المنعَمون المحظوظون بسِعة العيش، العقلاء العقلانيون – افتراضاً- المتعلمون الذين يحظون بإمكانية وحيّز التدقيق والتأمّل في وقائع الأيام وتراكماتها، ملزمون بأخذ مسؤولية عما يجري لهم، كنتاج لما تركوه يقع لغيرهم. إنّ مَن ينظر بعينين زجاجيّتين إلى تدمير وقتل وإذلال أهل سوريا والعراق وليبيا واليمن وفلسطين. إن من يسلك كذلك، يجب أن يساعده عقله التحليليّ الشهير على إدراك أن زجاجيّة بصره ستنعكس في دمّ يُراق بمراكز حضارة أوروباه البيضاء. فقد انتهى عصر إعدام المشرق فوق منصّة لا يرشق الدم المسفوك فيها الملابس الرسميّة لسادة الغرب الأبيض. انتهى بعدما قرّر سادة التجارة والرأسمالية وأنصار السوق المنفلتة فتحَ الحدود على مصراعيها لحركة الربح. أردتموها وسمحتم بها قرية صغيرة لتناكُح أرباب المال؟ تفضّلوا نتائجها.
فهذه الطريق تعمل باتجاهين: صدّرتم أرباحا منهوبة من بلادنا إليكم وورّدتم إليها الهيمنة والنهب واستغلال ثروات وموارد شعوبنا وقوّة عمل فقرائنا؟ تمام، صحتين. لكن في الدرب الموازي المواجه، لن تصادفوا علمانيّينا وتقدميّينا يناقشونكم ويزعجون طمأنينتكم بحجج الفكر وأدوات التحليل. لأن حكّامكم تحالفوا مع حكّام شعوبنا والقوى الرجعيّة المتسلّطة سياسيا، اجتماعيا،ً واقتصادياً، وتواطئوا معهم على وأد الحريّة، على إعدام الشهيق والزفير، على جَلد النظرة التي تجرؤ على التعلّق بأفق أفضل مغاير، وطمس وكنس وسحل الكلمة التي تقول "لا" للظالمين المستبدّين، الحاكمين تحت ذريعة سلالة العائلة والنّسب المقدّسة.. أولئك الذين ينعمون بأرقى أحياء فيافي حضارتكم، بدعارة المال المجازي والحرفي.
لصانعي القرارات والسياسات يجب القول: بما أنّكم تواطأتم ضد أنفاسنا الحرة مع وكلاء قمع شعوبنا لضمان ربحكم وهيمنتكم، فلن يتبقى لكم سوى ما تفرزه هذه الحثالات التي تستبدّ بشعوبنا. الطفيليات السلطويّة العربية الحاكمة لن تنتج ابن رشد ولا ابن سينا ولا ابن خلدون. ستنتج البغدادي وبن لادن وأشباههما الدموية وسائر الطفرات القميئة. لذلك، كمخرج لكم ولنا: أنصفوا شعوبنا ولتتملككم الهيبة أمام كرامتها وحقها وحريّتها وانعتاقها من بشاعة الحثالات التي تخنقنا بسبب تواطئكم معها. عندها فقط ستعيش بروكسل وباريس ولندن ونيويورك بسلام.
فسلام الشعوب بحقّ الشعوب في بروكسل وباريس ولندن ونيويورك، وكذلك في دمشق وبغداد وصنعاء وجنين وسخنين والقاهرة وطرابلس وطهران والرياض.
إن العالم بات قرية صغيرة، كما تعلّمنا منكم. وبدون عدالة ستظلّ دماء تُسفك فيها. هذا مؤلم وهذا فائض عن الحاجة والمنطق والعقل. ليأخذ كل شعب وكل فرد دوره من اجل حقه على مسطرة العدل للجميع. فتعلّموا واعتبروا وانزلوا عن بغال غطرستكم التافهة والقاتلة، لنا ولكم.


وسوم: العدد 186

للكاتب نفسه

صوت يوم الأرض وصَداه في "الاتحاد"

هشام نفّاع 2015-03-27

وقفت جريدة "الاتحاد" الحيفاوية في آذار 1976 وحيدةً أمام حشد وسائل الإعلام السلطوية الإسرائيلية، عبرية منها و "عربية". مطلع ذلك العام الفصْل، كانت السلطات الإسرائيلية تعدّ مشروع مصادرةٍ ضخمًا لأراضي...

داعش و"الحلول الأمنية"

هشام نفّاع 2014-09-22

لا يتألف داعش من شياطين ولا من مخلوقات فضائية. كل سياسي يصوّرهم استثنائيين لدرجات أسطورية، له مصلحة في هذا. فالطريقة الأفضل لقطع الطريق على الفهم، ما بين الظاهرة وما بين...