الهرمل أو في مجاهل العاصي

“مجاهل الهرمل”، لطالما استُعمِلت هذه العبارة في أمثلة يتداولها اللبنانيّون للدّلالة على شيء مجهول بالنسبة إليهم أو بعيد عنهم. انطلاقاً من ذلك، رأَتْ “المفكّرة القانونيّة” ضرورةً في إنْجاز تحقيقٍ شامل عن المنطقة في مسعى للإحاطة بها والإضاءة عليْها وإدْراجها ضمن مشاغل الوطن المأزوم والذي يُفترض أن يكون في صدد البحث عن غدٍ مغاير عن أمسه.
2021-10-14

شارك
الهرمل من أعلى، تصوير: كامل جابر

“مجاهل الهرمل”، لطالما استُعمِلت هذه العبارة في أمثلة يتداولها اللبنانيّون للدّلالة على شيء مجهول بالنسبة إليهم أو بعيد عنهم. وحتّى بعض الصور التي يحفظونها أو يتلقّونها من حين إلى آخر عن هذه المنطقة، جلّها صور نمطية مؤدّاها تعميق المسافة بينها وبينهم. وبنتيجة ذلك، باتَتْ المنطقة بأرضها وناسها (الذين يناهز عددهم المائة ألف) تعيش على هامش خريطة الوطن رغم صغْره، مع ما يستتبع ذلك من تضييق لسبل كسب العيش ودفع الكثيرين من شبّانها إلى القيام بأعمال مخالفة للقانون. وقد تعزّز ذلك بفعل إهمال متمادٍ من الدولة في مختلف أنظمة الحكم التي عرفتها ومراحله للمنطقة. فما شهدناه في زمان الدولة العثمانية والانتداب الفرنسي، شهدناه أيضاً إلى درجة كبيرة في دولة ما بعد الاستقلال كما في دولة ما بعد الطائف. وعليه، وبدل أن تتْبع الدولة سياسة تنمويّة دامجة لأطرافها، بدَتْ وكأنّها تتكيّف مع تحويل المنطقة إلى منطقة خارجة عن القانون ومرتع لزراعة حشيشة الكيف والأفيون والتهريب، وهو الأمر الذي يُترجم في عدد المذكّرات الغيابية الصادرة بحقّ الآلاف من أبناء المنطقة الذين باتوا يشكّلون فئة وازنة من سكّانها، فئة الطفّار. وبذلك، بدَتْ الدّولة وكأنّها تدفش بذراعها اليُمنى (ذراعها الجنائيّ) منطقةً كان يُفترض أن تكون في حضنها.

انطلاقاً من ذلك، رأَتْ “المفكّرة القانونيّة” ضرورةً في إنْجاز تحقيقٍ شامل عن المنطقة في مسعى للإحاطة بها والإضاءة عليْها وإدْراجها ضمن مشاغل الوطن المأزوم والذي يُفترض أن يكون في صدد البحث عن غدٍ مغاير عن أمسه. وبذلك، حاولنا من خلال هذا العدد أن نرسم بمعيّة أبناء وبنات المنطقة بطاقة تعريفية حقيقية لها تعكس حكاياتهم وقضاياهم وآمالهم وأوضاعهم من دون مواربة أو مجاملة أو مبالغة، فلا تبقى أصواتهم ضائعة على مدى 180 كيلومتراً تفصل بين أبعد نقطة في القضاء ومراكز القرار في بيروت. وقد واجه سعْيُنا صعاباً كثيرة بفعل نقْص المعطيات الموثوقة وندرة الدراسات الحديثة، وهذا مؤشّر آخر على بُعد المنطقة عن الاهتمام العامّ.

وما زاد من ضرورة قيامنا بذلك، أمران:

الأوّل، أنّ المنطقة طوّرت منذ عقود تنظيمات موازية لتنظيمات الدولة، وهي تنظيمات عشائرية ما برحتْ تنجح في فرض أعرافها في جغرافيّتها والفضاء العام على طول القضاء. وفي حين تتأثّر هذه التنظيمات منذ بدء التسعينيّات بتنامي العصبية الطائفية وتنامي تواجد حزبَي “الثنائي الشيعي” في المنطقة، فإنّها ما برحتْ تؤثّر في الآن نفسه فيهما وتضع حدوداً لنفوذهما أو هامشاً لتحرّكهما. ولهذا الواقع العشائري انعكاساتٌ اجتماعية لا تقلّ أهميّة عن انعكاساته السياسية، وهي تتمثّل في تنظيم طرق موازية وبديلة عن قوانين الدولة لضمان احترام القيم والمصالح المشروعة المتعارف عليها والأهمّ في إرساء سلّم قيم مختلف عن سلّم القيم الرسمي، سلّم قيم أكثر انسجاماً مع حاجات المنطقة تفرضه سياسات التخلّي عنها. فعلامَ تقوم هذه التّنظيمات البديلة؟ وما هي الأعراف والقيم السائدة فيها؟ وما هي الأزمات التي تعترضها؟

الثاني، أن اقتصاداً بديلاً نشأ في المنطقة، غالبه على هامش القانون وبخلاف صريح معه. وهذا الاقتصاد يقوم بشكل خاص على زراعة القنّب والإتجار به والتهريب عبر الحدود السورية الذي تضاعفت غنائمه في ظلّ اعتماد لبنان سياسات دعم السلع ونفاذ قانون قيصر. وقد بدا كأنّما المنطقة تعصي تماماً كالنهر الدافق الذي ينبع منها وتبيح لنفسها النشاطات الاقتصادية المخالفة للقوانين الوضعية، من باب استيفاء حقّها الضائع في التنمية.

ومن هنا، وكما بدا من الضروريّ أن يحتلّ قضاء الهرمل ما يستحقّ في اهتمامات دولة غالباً ما همّشته، بدا من الضروريّ أن نفهم جيّداً النسيج العشائري فيه كما مقوّمات اقتصاده الناشئة تمهيداً لمعالجتها وأخذها بالحسبان في سياسات الغد.

بقي ختاماً أن نأمل استكمال هذا التحقيق بتحقيقيْن آخريْن عن جارتيْ الهرمل المتروكتيْن والمهمّشتيْن مثلها: عكّار والضنّية، لقناعة منّا أنّه ليس بإمكان لبنان التوازن خارج هذه السيبة الجغرافية التي تحتضن نحو ربع السكان عددياً وربع مساحة البلاد جغرافياً.

يمكنكم الاطلاّع على باقي نصوص ملف "الهرمل" عبر هذا الرابط.


وسوم: