بيروت: جولة بين مباني خندق الغميق المتداعية

يقع حي خندق الغميق المتواضع على بعد خمس دقائق فقط من وسط مدينة بيروت، وتشهد مبانيه عن تراث معماري طالته بالكاد الجرافات. لكنه يتداعى بسبب الإهمال.
2021-10-11

شارك
أحد شوارع خندق الغميق. صورة لداليا خميسي.

هذا المحتوى هو مساهمة في ملف مشترك أنجز في إطار نشاط شبكة "إعلام مستقل من العالم العربي".

بعد انفجار 4 أغسطس/آب في بيروت، كنت أجد نفسي أسير وأبحث عن الأزقة التي زرتها ذات مرة، والمنازل التي توقفت فيها لأعجب بها أو الأسواق والأحياء التي أجد فيها العزاء. في إحدى جولاتي الأخيرة، ذهبت إلى خندق الغميق في حي الباشورة، على بعد خمس دقائق سيرًا على الأقدام من وسط المدينة وحوالي خمس عشرة دقيقة من الميناء. الباشورة، مثل العديد من الأحياء الأخرى في بيروت، هي شهادة على كفاح مختلف الأجزاء الحضرية للحفاظ على أصولها وتحمل التحولات والتغيرات العنيفة في المدينة. يتناقض النمو البطيء والتطور في خندق الغميق بشكل كبير مع وسط المدينة الذي أعيد بناؤه. هنا، على عكس وسط المدينة النظيف اللامع، تتميز الأزقة والطرق الوعرة بالأشجار الخانقة والمنازل المدمرة والجدران الحجرية التي تلتهمها الأعشاب الضارة. والعديد من المباني المزخرفة المتدهورة، والتي لا يزال معظمها مأهولاً.

الحديقة السرية

خلال تجوالي كنت أرى أينما استدرت الواجهات المتضررة والنوافذ المكسورة، وأسمع صرير الزجاج المكسور وهو يتطاير. قررت التوجه نحو كنيسة القديس جاورجيوس المهجورة، وهي كنيسة سريانية كاثوليكية جميلة تم بناؤها عام 1878، وهي اليوم عالقة بين البنايات الشاهقة لـ “الحي الرقمي لبيروت” (Beirut Digital District) في ضواحي خندق الغميق. لو لم أكن أعرف أنها هناك لما كنتُ رأيتها.

أثناء محاولتي البحث عن شخص لمساعدتي في الدخول إلى ما تبقى من الكنيسة المهجورة، التقيت دنيا. كنت قد سلكت طريقًا مسدودًا بين منزلين حجريين متداعيين، وفي نهايته كانت بوابة حمراء مقفلة. رأتني إحدى الجارات الجالسة على شرفة قريبة واقترحت علي زيارتها. كنت مترددة في البداية، ما دفع بها إلى مناداة دنيا، وهي امرأة تبلغ من العمر 50 عامًا، والتي خرجت من متجرها. فتحت دنيا البوابة الحمراء وأدخلتني إلى منزلها، وأجلستني في فناء ذي طراز سحري متهالك، ومن الواضح أنه كان في ما مضى حيا برجوازيا. وفجأة، تضمحل ضوضاء المدينة. لحظات من الهدوء تحت ظل شجرتي برتقال وتوت.

يتكون منزل دنيا من طابق واحد بجدران بيضاء ونوافذ خشبية وسقف مائل من القرميد الأحمر أضيف حديثًا. كان المطبخ متصلًا بالخارج من الناحية الأخرى، بمبنى مربع تمامًا. نمت أشجار قصيرة وعريضة، لتعزل المنزل بالكامل عن بقية المدينة. انتقلت العائلة إلى هنا من جنوب لبنان في عام 1958، واستأجرت المنزل من أحد الأقارب. وقد مكثوا في الخندق منذ ذلك الحين، ولم يغادروا المدينة مطلقًا خلال الصراعات والحروب المختلفة التي شهدتها.

بعد فترة وجيزة من جلوسي، أرتني دنيا نوافذها التي تضررت من الانفجار. عرّفتني على والدتها التي كانت مستلقية على أريكة بالداخل. بينما كنا نتحدث، أخبرتاني كيف نجت كلاهما في ذلك اليوم -وكيف استمرتا في تكرار هذه “المعجزة”. نسخة أخرى من الحكاية المؤلمة التي يشاركها الكثير من سكان بيروت.

امتداد لبيروت في القرن التاسع عشر

وغالبًا ما يشار إلى خندق الغميق ببساطة باسم “الخندق”. توجد العديد من التفسيرات حول أصل الاسم، منها تلك التي تعود إلى عهد الانتداب الفرنسي، عندما كان الشباب في المنطقة متورطين في مناوشات مع الجنود الفرنسيين. وفي رواية أخرى، تعود التسمية إلى بداية ثورة 1958 التي تحدت حكم الرئيس كميل شمعون ونظرته المؤيدة للغرب. كما اغتيل الصحفي الناصري نسيب المتني، رئيس تحرير صحيفة “التلغراف”، في المنطقة المجاورة أيضًا. تصوّر قصص أخرى للحي على أن مصيره أن يبقى دائما معزولًا عن محيطه -ربما لأنه تم بناؤه في نقطة جغرافية منخفضة بين تلتي العاصمة، الأشرفية والمصيطبة، وتحيط به مقبرة غير منفذة على طرفها الغربي.

المقبرة.

تقع مقبرة الباشورة على مشارف خندق الغميق، ولها جدران عالية مصنوعة من الحجر الرملي، وهي مادة استخدمت في الغالب في أواخر القرن التاسع عشر في جميع أنحاء لبنان. ربما تم بناء الجدران في وقت مبكر من عام 1892، ثم تم ترميمها بعد الحرب العالمية الأولى. هناك معلومات متضاربة حول عمر المقبرة نفسها، فبعض النصوص تعود بها إلى عام 1878، والبعض الآخر يزعم أن الإمام الأوزاعي زارها في القرن الثامن. ولا تزال هناك مصادر أخرى تعود إلى زمن الخليفة عمر بن الخطاب، أي إلى القرن السابع.

تاريخياً، كان موقع المقابر ومواضع الموتى مهمًا دائمًا. وأدت طقوس إحياء الذكرى والممارسات الروحية إلى ظهور قصص معجزات أو أشباح أو أنشطة أخرى تربط بين الأحياء والأموات. وفي خندق الغميق، ترتفع المقبرة بعدة أمتار عن الشارع، فلا يسير المرء بجانب القبور، بل يسير في الواقع أسفلها. تساءلت بصوت عالٍ عما إذا كان هذا هو ما أعطى الشارع -ومؤخرا الحي- اسمه. لكن دنيا ضحكت وقالت إنها تنسى وجود المقبرة لأنها نادراً ما تراها من منزلها. تضفي الجدران الضخمة هالة من الصفاء على الحي الذي يبدو أنه يعيش بشكل غير مريح في النسيج الحضري الكثيف لبيروت.

عندما مررت بالمقبرة، كان هناك رجل يجلس مستظلا بالجدار على الرصيف. كان هادي يجلس على كرسي بلاستيكي. ابتسم وقال إنه يجلس هنا يوميًا في انتظار أن ينضم إليه الآخرون في أوقات فراغهم. قبل عشرة أشهر، تم تسريحه من المطبعة التي كان يعمل بها، ولأول مرة في حياته، أصبح لديه الوقت لمجرد الجلوس ومشاهدة الناس وهم يمرون. لكن وهو اليوم قد بلغ 65 عاما، ومع الأزمة الاقتصادية وعدم وجود خطة تقاعد، فهو اليوم قلق بشأن مستقبله. يقول هادي إنه توجد نوافير بداخل المقبرة، بعضها لا يزال صالحا للاستعمال ومستخدمًا. وإذا قمت بحفر بضعة أمتار في الأرض، ستجد قنوات المياه القديمة للحي، والتي كانت تستخدم عندما كانت بيروت محاطة بجدرانها التي تعود إلى العصور الوسطى في أربعينيات القرن التاسع عشر، مع سبع بوابات وسوق محاط بقطع أراض زراعية. في ذلك الوقت، كانت المقابر تقع في الضواحي، لا في المدينة كما هو الحال اليوم.

في منتصف القرن التاسع عشر، خضعت بيروت لتحول كبير في تاريخها الحديث. وضع المرفأ المدينة الساحلية على الخريطة في وقت مبكر من القرن الثامن عشر، لكن بعد قرن ونصف، تم بناء البنك عثماني وتوسيع الميناء الرئيسي وإنشاء طريق يربط بيروت بدمشق والشرق الأوسط الداخلي. كما جلبت هذه الحقبة مجموعات سكانية مختلفة إلى المدينة نتيجة الصراعات والاضطرابات في حلب، دمشق ووادي البقاع وجبل لبنان. أوجدت الهجرة الوافدة ازدهارًا في البناء تبعًا لذلك. وبحلول عام 1860، استقر حوالي 20 ألف تاجر وحرفي ماهر في المدينة، وساهموا في نموها الاقتصادي. فيما بعد، وصل المزيد من المهاجرين من الريف بحثًا عن فرص عمل في الميناء والأسواق والأراضي الزراعية المحيطة بمنطقة وسط المدينة. وبعد عقدين من الزمان، توسعت المدينة بسرعة إلى ما وراء جدرانها وبواباتها المتلاشية.

في ذلك الوقت، تحولت الأراضي الزراعية المحيطة بالمدينة القديمة إلى امتداد لنسيج المدينة. وما يعرف اليوم بخندق الغميق كان مليئا بالفيلات ثلاثية الأقواس ومنازل العمال، إلى جانب الحقول الزراعية المنتجة والأشجار. تم بناء العديد من القنوات التي تمر عبر الحي على شكل خنادق كانت تستخدم في الأصل للري. تساءلت إن لم يكن هذا هو سبب اسمها.

تحولات ديمغرافية

في نهاية الحرب العالمية الأولى، عندما انهارت الإمبراطورية العثمانية وانقسمت بين الدول المنتصرة، أصبحت بيروت جزءًا من لبنان الكبير الخاضع للحكم الفرنسي. وصل اللاجئون مما يُعرف اليوم بأرمينيا وسوريا وتركي، وكان معظمهم من المسيحيين الفارين من الحكم العثماني ثم الحكم التركي لاحقًا، إضافة إلى العائلات اللبنانية الريفية القادمة إلى بيروت بحثًا عن فرص العمل والأمان.

عمل الوافدون الجدد في المرفأ أو في الأسواق وسط بيروت، والتي كان من السهل الوصول إليها من المنطقة. ارتبط شارع طيان في خندق الغميق مباشرةً بشبكات الشوارع والأزقة المترامية الأطراف بالقرب من البحر، ووُصف بأنه نزهة سلسة في الصباح. وتم توسيع الفلل ثلاثية الأقواس من القرن الماضي بشكل عمودي لاستيعاب كثافة المنطقة.

فيلا ثلاثية الأقواس.

قال هادي إن هذه الحقبة كانت العصر الذهبي للحي. تغيرت الكثير من أسماء الشوارع أيضًا بين العشرينيات وعام 1940، وهو اتجاه واضح لتأكيد الهوية من قبل السكان. كما تحول شارع الأمويين إلى شارع خندق الغميق بعد أن اختفت معظم قنوات المياه.

بالإضافة إلى شبكة من الفيلات والمباني والممرات التي تربط الحي، تم ربط خندق الغميق ببعضه البعض من خلال أزقة كثيفة، تم إنشاؤها عندما تم تحويل الغرف الصغيرة المجاورة والمحيطة بأراضيها الزراعية وحدائقها لإيواء الأعداد المتزايدة من العمال القادمين من المناطق الريفية. أدى ذلك إلى إنشاء مجتمع مختلط فريد من نوعه من سكان الحي. استمر نمط المباني العمالية على الأطراف في الازدهار بشكل جيد في الخمسينيات من القرن الماضي، مما أوجد حيًا متعدد المنافع والدخل لا تزال ملامحه واضحة إلى اليوم.

مرة أخرى، حدثت تحولات ديموغرافية مع بداية صراع عام 1958 في لبنان. ومع وجود العديد من المجتمعات المختلفة في حي مزدحم، أصبح خندق الغميق أحد ساحات القتال الرئيسية في الصراع. خرجت المجتمعات المسيحية المتدينة، في حين استقرت العائلات المنحدرة من الأشخاص الذين قدموا من جنوب لبنان. وقد تم وضع استراتيجيات نمو حضري مختلفة من عام 1955 إلى عام 1965، بما في ذلك إنشاء ثلاث طرق سريعة فصلت خندق الغميق عن الأحياء الأخرى. وخلال هذه العشرية، أتيح المجال لبناء مباني حكومية في المناطق المجاورة للمنطقة، مما أدى إلى تحول ديموغرافي أكبر من ذي قبل وزيادة الطلب على المساكن والمساحات المكتبية.

في أحد أزقة العمال القليلة المتبقية - وهو ممر بعرض مترين لا يمكن الوصول إليه إلا سيرًا على الأقدام - تعيش ابتسام، وهي امرأة في السبعينات من عمرها. عند مروري بمنازل مجاورة صغيرة بُنيت بين 1840 و1950، وقد أحاطت بكثير منها ساحة لم يبق بها سوى عدد قليل من الأشجار، رأيتها جالسة خارج سلسلة من المنازل التي كانت ملكا لأجدادها وهي اليوم تستأجر على شكل غرف للعمال ذوي الدخل المنخفض القادمين من الخارج. سألتها وأنا أجلس للحديث معها: “ما عسانا نفعل لتغيير الوضع؟”، في إشارة للأزمة الكبيرة التي تلوح في الأفق. تعاني ابتسام من مرض السكري، وكغيرها، لم تتمكن من العثور على الأدوية التي تحتاجها لعدة أسابيع.

صورة لابتسام.

تراث معماري مهدد

دنيا، صاحبة المتجر، لديها أيضًا منزل يبدو أيضا من صنف سكن العمال، لكن والدتها وهي لا تعرفان متى تم بناؤه. ذكرت والدتها أنه عندما انتقلوا، كان المنزل قديمًا بالفعل، وأن الساحات في ذلك الوقت كانت مليئة بالأشجار، وبغرف صغيرة متناثرة في الحقول لإيواء آلاف العمال الريفيين الذين جاؤوا للاستقرار في المدينة.

“هذا المنزل يتطلب الكثير من الصيانة باستمرار”، قالتها دنيا ضاحكةً عند السؤال ما إذا كان المسكن مدرجا كمبنى تراثي في المنطقة. فقد تعرّض تراث بيروت للتهديد الشديد بسبب القرارات التي اتخذتها الحكومات المتعاقبة منذ الحرب الأهلية، حيث تم الرفع من قوائم التصنيف للعديد من المباني المدرجة، وأُهملت الأحياء.

تضيف دنيا: “قد يعتقد المرء أنه يجب حماية المباني التراثية، لكن جميع المنازل المدرجة على أنها تراث مهجورة وتتداعى”. تحاول هي وأمها على الأقل الحفاظ على هذا المنزل بالعيش فيه بدلًا من تركه يتداعى، فحينها سيكون للمالك عذر لهدمه.

ركّزت حماية التراث في بيروت بشكل أساسي على الفيلات المركزية ثلاثية القوس التي ظهرت في القرن التاسع عشر لإيواء السكان ذوي الدخل المرتفع وأول المهاجرين إلى المدينة، ويمكن العثور على بعضها في الأطراف الشمالية لخندق الغميق. من الواضح أنها صنعت بزخارف وتفاصيل كثيرة، خلافا للمنازل التي تقطنها دنيا وابتسام. ولا يزال عدد قليل منها مدرجًا في القوائم كمباني محمية، ولكن معظمها مهجور ومتداعٍ، كغيرها من المباني في باقي أنحاء المدينة.

في ظل هذه المنازل والأشجار، التقيت علي وعباس، وهما شابان في التاسعة عشرة من العمر قدّما نفسيهما كعضوين في حزب سياسي قوي. يقول عباس إن الحي هو بالفعل “خندق”، وبالتالي “يجب أن نستمر في المقاومة واحتلال المساحة الموجودة في المدينة”. أما في الليل، فهما يتسكعان في الشوارع وفق علي، لأن الداخل أصبح لا يطاق مع الانقطاع المستمر للكهرباء بسبب الأزمة.

سألتهما عن الساحة والأشجار. يقول علي: “أنا أدرس الطب، ولست مهتمًا حقًا بالمشاهد الطبيعية”، لكن السؤال جعله يرصد الأشجار والفروع في كل مكان: المخبأة وراء الملصقات وتحت اللافتات، أو تلك التي تتدلى فوق شعارات سياسية ودينية مكتوبة على الجدران. “اعتادت جدتك استخدام هذه الأشجار عندما كانت تريد إعطاء شخص ما مكانًا في الحي”، تقول خديجة والدة علي من متجر البقالة الخاص بها في الشارع. وبينما كنت أواصل البحث عن الأشجار، انصرف علي وعباس للعب البلياردو في مقهى قريب.

بيروت، ورشة بناء دائمة

مع اندلاع الحرب الأهلية عام 1975 وانقسام بيروت إلى شرقية وغربية على أساس التعدد الطائفي، تباطأ النمو الحضري. وجد خندق الغميق نفسه مباشرة على ما سمي الخط الأخضر الذي يفصل المدينة، وتحول حرفيًا إلى خندق. أدى الصراع إلى وصول أعداد كبيرة من اللاجئين، ومعظمهم من جنوب لبنان، وتم توزيعهم في شقق شاغرة في بيروت. كانت العديد من المباني التي سكنتها هذه العائلات النازحة سليمة، بينما تضرر البعض الآخر من قذائف الهاون والشظايا. وقد تبددت معظم آثار التنوع الاجتماعي والاقتصادي للحي، كما حدث مع مناطق أخرى في المدينة.

مباني قديمة تتداعى.

مع انتهاء الحرب، كان من المفترض أن يغادر النازحون المدينة ويعودوا إلى ديارهم. اقتصرت تدخلات وزارة المهجرين في أغلب الأحيان على تقديم تعويضات مالية لمهجري الحرب لإجلائهم. استغرق الأمر أكثر من عقد من الزمن بالنسبة لمعظم النازحين لمغادرة الشقق. واليوم، لا تزال بعض الأشياء المتناثرة بين المباني الشاغرة تذكّر بسكانها السابقين: كتب وصحف، وصور شهداء على الجدران، وحذاء وحيد، وأشياء أخرى تستخدم في الحياة اليومية.

يجلس سلمان في محل حلاقة أمام جدران المقبرة. انتقل هذا الرجل إلى خندق الغميق من منطقة الميناء بعد أن فقد والده عام 1945 وظيفته في محطة السكة الحديد التي تربط بيروت بسوريا وفلسطين. وعلى الرغم من إعلان لبنان استقلاله في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 1943، لم تنسحب القوات الفرنسية والبريطانية إلا بعد عامين. كان والد سلمان متورطًا في أعمال شغب ما دفعه لترك وظيفته، ثم فتح محل الحلاقة الذي يديره سلمان الآن. سألته عن نشاطه التجاري فقال: “العديد من المفكرين والصحفيين الذين حاولوا الحديث عن الهوية والحدود والديكتاتوريات العسكرية في المنطقة تم اغتيالهم من حولنا - رياض طه، كامل مروة”. ثم نظر إلي بصمت وابتسم، قبل أن يلتقط قطعة من الورق المقوى لاستخدامها كمروحة. “لم أغادر متجري قط. لم أفعل أثناء الحرب، ولن أفعل الآن”.

منذ عام 1990 ونهاية الحرب الأهلية، أصبحت بيروت ورشة بناء دائمة، تنمو المباني العالية في أفقها باستمرار. تعرضت العديد من الأحياء لموجات هدم عنيفة في العقدين الماضيين، ما مهد الطريق لمباني جديدة تتجاهل كل سياق تاريخي وديمغرافي. أتت الجرافات بالصخب والغبار لتجعل الأرض تهتز باستمرار، ليصبح هذا النشاز جزءًا من الحياة اليومية. في بعض الحالات، دمرت المشاريع الاستثمارية أحياء بأكملها، وأسفرت عن إجلاء العائلات ذات الدخل المنخفض والمتوسط من المناطق التي كانت دائمًا تستمد منها سبل عيشها وترتبط بها اجتماعيًا. كانت أسوأ النتائج بعد الحرب الأهلية خلال إعادة إعمار وسط بيروت من قبل شركة العقارات “سوليدير”، وهي شركة تم إنشاؤها بدعوة ترميم المنطقة. لكن بدلاً من ذلك، قامت “سوليدير” بهدم العديد من المباني المتضررة التي كان من الممكن ترميمها، وحولت الأحياء إلى مركز تجاري راقٍ يخدم الأثرياء فقط - بل حتى القليل منهم. كان هدم خندق الغميق أبطأ وأكثر صمتًا مقارنةً بغيره، فكل الأنظار كانت متجهة إلى وسط المدينة، بما في ذلك أنظار المستثمرين. لقد أنقذ ذلك المنطقة من الجرافات المدمرة، لكنه ترك أيضًا بنايات مثل القاعة المركزية التي مزقتها الحرب في شارع تيان مهجورة، والعديد من المواقع التراثية المنتشرة في المنطقة تتدهور، وجدران المقابر تتداعى، وكنيسة القديس جاورجيوس في انتظار التجديد الموعود، وحي العمال مزدحم بالناس ويعاني من الحرمان.

بعيدًا عن الحي في ذلك اليوم، تساءلت كيف سيؤثر الانهيار الاقتصادي والسياسي الحالي - أي كل هذه الأزمات الأخيرة - على خندق الغميق. ربما سيقوده مجددا على طريق ألفه من الهجرة الداخلية والخارجية، والازدحام والتكثيف، والدمار والبناء..

-ترجم المقال من الانكليزية أحمد العربي.

-صور: داليا خميسي.

هذا النص هو مساهمة "ماشا الله نيوز" في ملف "السكن في العالم العربي: بين الحق والضغوطات" الذي يندرج ضمن نشاطات شبكة "إعلام مستقل من العالم العربي".

_____________
شبكة "إعلام مستقل من العالم العربي" هي إطار تعاون إقليمي تشارك فيه "السفير العربي"، "مدى مصر"، "ماشا الله نيوز"، "نواة"، "حبر"، "باب المد" و"أوريان XXI".

مقالات من لبنان