بين الوحش والإنسان

كان أحد الإعلاميين اليمنيين يصرخ، بانفعال متصنِّع، أثناء مداخلته في أحد البرامج اليومية في إذاعة تابعة لجماعة الحوثيين، مُديناً صمت الدول العربية تجاه ما تتعرض له اليمن وفلسطين! البرنامج كان مكرساً للحديث حول الاعتداء الإسرائيلي على المسجد الأقصى، ولم أتنبه له إلا في اللحظة التي امتدت يد السائق لإطفاء المذياع بشيء من الحنق ونفاد الصبر. التفت نحوي وقال "إسرائيل قصفت المسجد الأقصى.
2015-10-01

محمد العبسي

كاتب صحفي من اليمن


شارك

كان أحد الإعلاميين اليمنيين يصرخ، بانفعال متصنِّع، أثناء مداخلته في أحد البرامج اليومية في إذاعة تابعة لجماعة الحوثيين، مُديناً صمت الدول العربية تجاه ما تتعرض له اليمن وفلسطين! البرنامج كان مكرساً للحديث حول الاعتداء الإسرائيلي على المسجد الأقصى، ولم أتنبه له إلا في اللحظة التي امتدت يد السائق لإطفاء المذياع بشيء من الحنق ونفاد الصبر.
التفت نحوي وقال "إسرائيل قصفت المسجد الأقصى. طيب. كم مسجداً فجروه هم أو قصفوه".
لم أكن في مزاج جيد لخوض محادثة مع سائق التاكسي، وصحيح أن قذائف الحوثيين والقوات الموالية للرئيس السابق قصفت، عن عمدٍ أو من دون قصد، العديد من المساجد والمستشفيات، آخرها مسجد السعيد في مدينة تعز، لكنّ سوء مزاجي لم يكن السبب الوحيد لعدم خوضي أي محادثة معه، واكتفائي بهز رأسي، بقدر ما يتعلق الأمر بازدواجية المعايير، والتناقضات المريعة لدى اليمنيين والعرب على المجمل. إذ بات شأنا اعتيادياً يومياً أن تجد شخصاً ما (في الحافلة، أو المقيل، أو وسائل الإعلام التواصلي) يريد أن يجرّك بالقوة إلى صفّه وجماعته، ضمن الاستقطابات الجاهلية التي أججتها على نحو مريع الحرب في اليمن، على أساس طائفي أو مناطقي أو عصبوي أو مذهبي.
لم يعد مفاجئاً ولا صادماً في اليمن أن تجد أستاذاً جامعياً وحقوقياً مرموقاً يدين القصف السعودي لأهداف في صنعاء وصعدة وعمران، ويناهض، بأعلى صوته، ترويع الأطفال وتعريض حياة المدنيين للخطر... وفي الوقت نفسه تجده مؤيداً، أو صامتاً في أحسن الأحوال، على القصف والقذائف اليومية التي تمطرها المدفعية الحوثية على سكان مدينة تعز. والعكس: في كل مرة تَقتل طائرات "تحالف عاصفة الحزم" مدنيين في صنعاء أو في ذمار أو أي من المدن اليمنية، ينبري أنصار العاصفة للدفاع والتبرير، بل والتشفي في بعض الحالات، على الرغم من سقوط عشرات الضحايا من الأطفال والنساء.
شرخت الحرب، بشقيها الداخلي والخارجي، اليمنيين، وقسمتهم إلى معسكرين، وباتت مواقفهم تجاه الأحداث والانتهاكات اليومية تتحدد، لا بناءً على معايير قيمية أو أخلاقية، بل بحسب هوية الجاني وانتماء الضحية. مع أو ضد بصريح العبارة.
أبعد من ذلك أخذتُ أتساءل: لماذا شعرتُ، كيمني، بالتعاطف مع اللاجئين السوريين إلى أوروبا، وبكيت بحرقة لدى رؤية مشاهد مؤلمة ومهينة تعرضوا لها في بعض الدول الأوروبية، بينما لم أشعر بالتعاطف ذاته على اللاجئين الصوماليين الذين يهانون في اليمن، وتستخدمهم عصابات التهريب في الجريمة، وتحتجزهم في معسكرات تعذيب كشفت عنها قبل عام منظمة "هيومن رايتس ووتش"؟ حتى حاملو أرقى الشهادات الجامعية منهم ليس أمامهم أي فرصة للعيش الكريم، والوظيفة الوحيدة المتاحة للصومالي في اليمن هي غسيل السيارات للذكور، والخدمة في المنازل للإناث!
لكنّ الأمر لا يقتصر علي أو على شريحة واسعة من اليمنيين، بقدر ما هي لوثة غير مرئية في المجتمعات العربية ودول العالم الثالث، بل وحيث لم ينتصر للإنسان والحريات العامة والخاصة. يتعايش المرء مع التناقضات من دون أن يشعر بها، فيمتدح تعامل وترحيب ألمانيا باللاجئين، وهو ذاته يؤيد من تسبب في تشريد وتهجير الآلاف في بلده من أبناء جلدته؟ ويذم سلوك رجال الشرطة الذين انهالوا بالضرب على لاجئين على حدود بعض الدول الأوروبية بينما تقوم الميليشيات في بلده، بأبناء جلدته، بما هو أبشع وأشنع.
على نحو أعمق، يمكننا أن نتساءل أيضاً: كيف يستطيع شخص طائفي ومذهبي متعصب، في بلده وحياته وطريقة تفكيره، أن يكون إنساناً أكثر نبلاً وتسامحاً وأقل عصبوية، ولو لأيام أو ساعات أو لحظات إشراق عابرة، عند تلقيه وتفاعله مع قضايا وقعت في مكان ما من العالم، كأزمة اللجوء إلى أوروبا، كما حدث مؤخراً وبدا جلياً على صفحات التواصل الاجتماعي؟ بمعنى كيف لشخص تعاطف مع نازحين سوريين ومقدونيين ماتوا اختناقاً داخل حافلة نمساوية، على نحو إنساني لمجرد كونه لا يعرفهم، وليسوا من أقاربه، ولا قبيلته، ولا مذهبه، وربما ليسوا من ديانته، بينما هو في بلده لا يتعاطف، ولا يتحمس إلا لضحية من مذهبه أو جماعته؟
كيف لشخص بكى بحرقةٍ وتفجّع عند رؤية جثة الطفل السوري إيلان مرمية على ساحل بحر إيجه، (وما أكثرهم في اليمن والعالم العربي ككل)، من دون أن تستفز مشاعره ويؤثر فيه موت مئات الأطفال منذ اندلاع الحرب في اليمن ولو بدرجة أقل ونبرة حزن أخفض؟ إيلان وأسرته حاولوا النجاة على الأقل. قرروا النزوح مدركين المخاطر فكانوا ضحية جملة من العوامل المعقدة: الحرب، فرار المهرب، الطبيعة وهيجان البحر، المخاطرة...
بالمقابل: كم من أطفال اليمن، أو بلد آخر كسوريا أو العراق، ماتوا وهم في منازلهم، فلا ركبوا البحر، ولا خاطروا، ولا طمحوا في حياة أفضل من التي لديهم، مؤثرين السلامة على المخاطرة، وجحيم البقاء في "الوطن" على "نعيم" اللجوء؟
أليس الإنسان هو الإنسان؟ لماذا تستثار المشاعر هناك وتقمع هنا؟
كم واحداً منا كان إنساناً في تلقيه لحادثة غرق الطفل إيلان فيما لم يضطرب وجدانه عندما قتلت قذائف الحوثيين والقوات الموالية لصالح 16 طفلاً في يوم واحد بمدينة تعز أو في عدن! وعلى "الضفة الأخرى"، كان إنساناً في تلقيه لحادثة غرق الطفل إيلان، فيما لم يشعر بالتعاطف والحزن لمقتل سناء البدوي طالبة الصف التاسع إثر قصف طيران التحالف منزلها في جولة الرويشان بصنعاء؟
بل ويا ليته توقف عند ذلك: البعض ألزم نفسه مهمة تنظيف القذارة وتبرير وإنكار كل جريمة أو غارة "خاطئة": أبيدت أسر بكاملها وقتل نحو 100 شخص في قصف طيران التحالف لسكن مهندسي محطة كهرباء المخا في محافظة تعز. والقائمة تطول: 7 مِن أفراد أسرة عبد المجيد الفضلي (الأم والأبناء والحفيدة) قتلتهم بوحشيّة غارة على حي النهضة بمدينة صنعاء، وأصغر الضحايا طفلة في الثانية من عمرها (هويدا).
على المستوى العربي: كم رجل دين مسلماً جنّ وثارت ثائرته بسبب مشهد ضرب شرطة إحدى الدول الأوروبية، كالمجر مثلاً، للاجئين على حدودهم، بينما ضميره في إجازة، والأقليات تُشرَّد وتذبح على يد داعش، والمعارضون والصحافيون يُرمَون في سجون ومعتقلات الأنظمة العربية؟ وهل يمكن مقارنة معاملة أسوأ الدول الأوروبية بمعاملة الشغالات الفلبينيات في دول الخليج مثلاً؟ رواية ساق البامبو للكويتي سعود السنوسي تجيب.
كيف يمسي أحدنا كونياً إذاً ويصبح سُلالياً في الوقت نفسه؟
كيف يؤمن بغاندي ويترحم على أدولف هتلر؟
كيف يتخلى عن إنسانيته لمصلحة الوحش المسيطر داخله؟
نزلت من التاكسي وليس برأسي أجوبة.

للكاتب نفسه

محمد العبسي.. كيف كان يرى اليمن؟

"لو أن 99 في المئة من الشعب اليمني تطبعوا بأسوأ الصفات الطارئة التي حفّزتها الحرب، مثل المناطقية والعنصرية والكراهية والعنف اللفظي والمادي، سأظل مؤمناً بـ1 في المئة المتبقية من اليمنيين...

صحافي يمني.. مع الأسف الشديد

  بين الاختطاف والإخفاء القسري والتهديد بالقتل والشروع به، يبدو التوقف عن العمل وفقدان الوظيفة، أو الهجرة، أقل الخسائر وأكثرها شيوعاً! فما إن يتم الإفراج عن صحافي حتى يعتقل آخر،...

مبادرة "الفقراء الجدد" في اليمن

وحده الموت مزدهر في اليمن في هذه الأيام. ومَن نجا من الموت ولم يقتل في إحدى الغارات اليومية المكثفة لطيران تحالف "عاصفة الحزم" على العديد من المدن، وبخاصة العاصمة صنعاء...