فن الحرب: تفكيك أوصال ليبيا

أعاد رئيس الوزراء الايطالي «ماريو مونتي» إلى ليبيا رأس «دوميتيلا» المسروق منذ عشرين عاما، بعدما قطع من تمثال قديم. اعتبرت تلك عطية رمزية لدعم «الصداقة الإيطالية ــ الليبية» المتجددة. وفيما يخص الرؤوس المقطوعة، فإن ماريو مونتي ماهر فعلاً. فقبل أن يصبح رئيساً للحكومة، كان لسنوات عضوا في البنك الأميركي «غولدمان ساكس»، واحد من أكبر البنوك في
2014-02-12

مانليو دينوتشي

باحث من ايطاليا


شارك

أعاد رئيس الوزراء الايطالي «ماريو مونتي» إلى ليبيا رأس «دوميتيلا» المسروق منذ عشرين عاما، بعدما قطع من تمثال قديم. اعتبرت تلك عطية رمزية لدعم «الصداقة الإيطالية ــ الليبية» المتجددة. وفيما يخص الرؤوس المقطوعة، فإن ماريو مونتي ماهر فعلاً. فقبل أن يصبح رئيساً للحكومة، كان لسنوات عضوا في البنك الأميركي «غولدمان ساكس»، واحد من أكبر البنوك في العالم، حيث تسببت المضاربات (بما في ذلك الاحتيال في قروض «سوبرايم») في قطع وظائف العمل وحياة الناس، وفي رفع أسعار الحبوب عالمياً. وكاستشاري دولي، كان «فاتحَ أبواب» أمام مصالح ليست اقتصادية فحسب، بل سياسية: أكبر مساهمي هذا البنك ينتمون إلى النخبة المالية الجبارة، المنظمة على شكل حكومة ظل حقيقية في أكثر من دولة، في صالونات لا تتقرر فيها فحسب عمليات المضاربة الكبيرة، مثل الهجوم على اليورو، بل أيضاً تلك التي تستبدل حكومة بأخرى أكثر نفعا.

قاطعو الرؤوس العصريون 

تَقرر في هذه الصالونات السرية إسقاط برلسكوني سياسيا: هو مفيد جدا في تفكيك الشؤون العامة وفي «التحريرات»، لكنه مع ذلك أساء إلى صورته بسبب اتفاقياته الاقتصادية مع ليبيا القذافي وروسيا بوتين. ثم أصبح أكثر إزعاجا عندما ثارت ثائرته مثلما كشفت صحيفة واشنطن بوست - بسبب ما قامت به فرنسا يوم 19 آذار/ مارس 2012، أي المبادرة بالهجوم على ليبيا. لقد هدد برلسكوني الحلفاء بمنعهم من استخدام القواعد الإيطالية. ثم انضبط بعدما نهرته هيلاري كلينتون، ولعبت إيطاليا دورها في الحرب بمجرد أن مزقت معاهدة عدم الاعتداء الموقعة مع ليبيا.
لكن ذلك لم ينقذ برلسكوني، وكان عليه أن يضع رأسه على المقصلة عندما هددت «الأسواق» (تحت إدارة حكومة الظل) بتقويض إمبراطوريته الاقتصادية وفي هذه الصالونات السرية أيضا، تقررت الإطاحة برأس القذافي. عملياً، بهدم الدولة التي بناها، وباغتياله. وليس من باب الصدفة أن الحرب بدأت بالسطو على الثروة السيادية: 170 مليار دولار على الأقل استثمرتها الحكومة الليبية في الخارج، بفضل إيرادات صادرات النفط التي تدفق أكبر جزء منها في خزائن الدولة، وتركت هوامش ربح محدودة للشركات الأجنبية. استثمرت الأموال على نحو متزايد في إفريقيا، من أجل تطوير المؤسسات المالية للإتحاد الأفريقي (بنك الاستثمار والبنك المركزي)، وإنشاء الدينار الذهبي لمنافسة الدولار. مشروع قوضته الحرب التي قررتها - قبل الحكومات الرسمية - حكومات الظل التي يشكل غولدمان ساكس طرفا فيها. نزل ماريو مونتي بطرابلس مرتديا زيَّ رئيس الوزراء الإيطالي، يرافقه الأميرال دي باولا، الذي يشغل اليوم منصب وزير الدفاع، والذي لعب، مثل رئيس اللجنة العسكرية لحلف شمال الأطلسي، دورا أساسيا في الحرب على ليبيا. وقد أحضرا رأس «دوميتيلا»، كهدية. 

ليبيا.. الذاكرة القصيرة

أحد آثار أسلحة إلهاء الجماهير هو إفراغ الذاكرة من الأحداث، حتى تلك التي حدثت مؤخرا، ما يجعلها تفقد الأثر. وهكذا يطبق الصمت على الحدث الذي وقع منذ فترة وجيزة، حين بدأ القصف الجوي - البحري على ليبيا رسميا لـ«حماية المدنيين». وفي غضون سبعة أشهر، نفذ طيران الولايات المتحدة وحلف الشمال الأطلسي 30 ألف مهمة، بما في ذلك 10 آلاف هجوم، باستخدام أكثر من 40 ألفا من القنابل والصواريخ.وبالإضافة إلى ذلك، تسللت قوات خاصة إلى ليبيا، من ضمنها «قوات كومندوس» قطرية مكلفة بمهمات محددة. فتم تمويل المناطق القبلية المناهضة لحكومة طرابلس وتسليحها، فضلا عن جماعات إسلامية، صنفت على أنها إرهابية أشهرا فقط قبل ذلك. العملية برمتها - حسب سفير الولايات المتحدة لدى منظمة حلف شمال الأطلسي - أدارتها واشنطن: بواسطة قيادة «أفريكوم» أولا، ثم بواسطة حلف الشمال الأطلسي. ونحن الآن نرى النتائج: الدولة الليبية تتفكك. برقة - التي تحوي ثلثي النفط الليبي- أعلنت نفسها مستقلة، ورأّست أحمد الزبير السنوسي حاكما لها.
وهو الحفيد الأصغر للملك إدريس، الذي تقلد العرش على يد بريطانيا العظمى والولايات المتحدة، ومنحهم مقابل ذلك، في سنوات الخمسينيات والستينيات، قواعد عسكرية وحقول نفط. وتلك امتيازات تبخرت في عام 1969 عندما وقع الانقلاب على الملك. فزان أيضا، حيث توجد آبار بترول أخرى كبيرة، تريد أن تكون مستقلة. سوف لن يبقى لطرابلس غير تلك الآبار قبالة سواحل العاصمة، وبالتالي سوف تتمكن شركات النفط الكبرى من إيجاد ظروف مثلى لها لدى القادة المحليين، الواحد ضد الآخر.
وفي هذه الأثناء، عمد مجلس الأمن الدولي إلى تمديد مهمته باعتبار «التطورات الإيجابية» التي «تحسّن آفاق مستقبل ديموقراطي وسلمي ومزدهر». ولو أنه لم يفلح في تجنب الإعراب عن «انشغاله بالاعتقالات غير القانونية المستمرة، والتعذيب والإعدام خارج نطاق القضاء». ميليشيات مسلحة تغذيها سياسة الإمبراطورية الجديدة، تستخدم لإشعال حرائق حروب أخرى في بلدان أخرى. وفي ليبيا، كان أول الضحايا هم المهاجرون الأفارقة، القادمون من جنوب الصحراء الكبرى.

بترول بلون الدم

يقول شريط إعلان الحلقة الثانية من مسلسل «الحرب الإنسانية»: بعد أن ساعدوا الليبيين في التخلص من ديكتاتورهم الضاري، واصل الطيبون الذين يقودهم البطل «كريس» عملهم بلا مقابل. لكن الأشرار - الإرهابيين الذين لا يزالون معششين في البلد - قتلوا كريس «الذي خاطر بحياته من أجل مساعدة الشعب الليبي في بناء قواعد أمة جديدة حرة» (بحسب هيلاري كلينتون أثناء تشييع السفير الأمريكي كريس ستيفنز).
لقد أطاحت بكريس ستيفنز القوةُ التي خلقها بنفسه عندما قام، مرتديا لباس سفير أميركي، بقيادة عملية تحييد المليشيات التي تعتبرها واشنطن غير موثوق بها، وأدمج الموثوق بها في القوات الحكومية. عملية معقدة جدا: ففي ليبيا اليوم 100 ألف مقاتل مسلح ينتمون إلى جميع أنواع التشكيلات، ومن بينها الموالين للقذافي. وتدخل «بلقنة» ليبيا ضمن خطط واشنطن في حال لم تستطع التحكم بالدولة الموحدة. فمن الملح السيطرة على النفط الليبي: أكثر من 47 مليار برميل احتياطي، وهو الأكبر في إفريقيا. من المهم أيضا السيطرة على الأراضي الليبية، كموقع متقدم للقوات العسكرية. إن قوات المارينز للتدخل السريع التي بعث بها الرئيس أوباما إلى ليبيا، المدعومة بطائرات من دون طيار من قاعدة سيغونيلا (قاعدة جوية بحرية أمريكية بصقلية)، كرد رسمي على مقتل السفير الأميركي، ليست الأولى ولن تكون الأخيرة. فقد أرسلت وزارة الدفاع الأميركية قوات خاصة و«متعاقدين» لحراسة أرصفة النفط الكبرى. وأدخلت الشركات النفطية إلى ليبيا بموجب اتفاقات رسمية أو سرية (من خلال الفساد المنتشر)، وحصلت على عقود تمنحها فوائد أكثر بكثير من العقود السابقة. وفي الوقت نفسه، يُحضّر لخصخصة قطاع الطاقة في ليبيا. وتشارك قطر أيضا في تقاسم الغنائم، فبعد تكلفة مساهمتها في الحرب التي تبلغ أكثر من 2 مليار دولار، حصلت الدوحة على 49 في المئة (ولكن بسيطرة فعلية) من البنك الليبي للتجارة والتنمية. إنه استثمارٌ جيد، استثمارُ الحرب.

القوات الكولونيالية تولد مجددا

الحرب لا تنتهي بذلك. فقد توسعت التصدعات وتشعبت. ولا تسيطر طرابلس سوى على جزء صغير من «ليبيا الجديدة»، في ظل مواجهات مسلحة بين الميليشيات وقتل واختفاء. المشكلة على وشك أن تجد حلا، ليس في طرابلس، بل في واشنطن. فبعد أن قادت الولايات المتحدة عملية «الحامي الموحد»، تتكفل الآن بحماية «ليبيا الجديدة» عن طريق تشكيل «قوة نخبة» ليبية مكونة من 500 رجل، كنواة لبناء الجيش المستقبلي. والمهمة الرسمية لقوة النخبة تلك، التي وافق على إطار عملها الكونغرس، ستكون «مجابهة وهزم المنظمات الإرهابية والمتطرفة العنيفة». ويجري اختيار تشكيلة الرجال على يد موظفين من وزارة الدفاع الأميركية ووزارة الخارجية ووكالة الاستخبارات المركزية CIA، مع كفاءة تفضيلية: معرفة اللغة الإنكليزية.
وسيتم تدريبهم، والتحكم بهم من طرف القوات الخاصة الأميركية المنقولة إلى ليبيا من باكستان واليمن.ستضطلع هذه القوات في الواقع بدور قوات «المحليين» (indigène) الاستعمارية سابقا. وفي المقام الثاني، ولكون تشكيل الجيش يتطلب أعواما، فإن نشر قوات خاصة أميركية في ليبيا لن يكون ذا طابع مؤقت. وسيكون تحت تصرف الولايات المتحدة أيضا قواعد عسكرية خاصة، متصلة بتلك الموجودة في صقلية. تستخدم القواعد في القيام بعمليات، ليس داخل الأراضي الليبية فحسب، بل وفي أجزاء أخرى من القارة. وثالثا، سيكون تحت تصرف الولايات المتحدة الأميركية أدوات سلطة، ليست عسكرية فقط، بل سياسية واقتصادية، ستضمن لها وصولا امتيازيا إلى النفط الليبي.
وأما الحلفاء الأوروبيون، فربما يقدمون المساعدة... تحت قيادة الولايات المتحدة. مساهمة كبيرة قد تتحملها إيطاليا القريبة جدا جغرافياً والقوية بخبرتها في ثلاثينيات القرن الماضي في السيطرة الاستعمارية على ليبيا.

إعادة غزو افريقيا

في الوقت نفسه الذي جدد فيه الرئيس الديموقراطي أوباما تأكيده، في خطاب تنصيبه الثاني، أن الولايات المتحدة «مصدر أمل الفقراء، وتدعم الديموقراطية في أفريقيا»، كانت الطائرات الأميركية العملاقة (C-17) تنقل القوات الفرنسية إلى مالي، حيث نصبت واشنطن النقيب «سانوغو» في السلطة في آذار/ مارس 2012. وهو تلقى تكوينا في أميركا على يد البنتاغون ووكالة الاستخبارات المركزية.
تُظهر سرعة انطلاق العملية، التي تدور رسميا «لحماية مالي من تقدم المتمردين الإسلاميين»، كما يُظهر التعاون الفوري للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي - الذي قرر أن يرسل إلى مالي متخصصين في الحرب مع طاقم التدريب والقيادة أنه قد تم التخطيط لها بالتعاون بين واشنطن وباريس ولندن وعواصم أخرى. إن القوى الغربية، التي تتنافس شركاتها متعددة الجنسيات على احتكار الأسواق ومصادر المواد الخام، تتفق عندما تكون مصالحها المشتركة على المحك، مثلما هو الحال في أفريقيا التي تتعرض «للخطر» بسبب الانتفاضات الشعبية وبسبب المنافسة الصينية. مالي، أحد أفقر بلدان العالم، غنية جدا بالمواد الأولية: تصدِّر الذهب وحجر الكولتان، الذيْن تنتهي مداخيلهما في جيوب الشركات متعددة الجنسيات، والنخبة المحلية. والأمر مشابه بالنسبة إلى الجارة النيجر الأكثر فقرا من مالي نفسها، رغم أنها إحدى أغنى البلدان باليورانيوم الذي تضع الشركة الفرنسية ـ متعددة الجنسيات «أريفا» يدها على استخراجه وتصديره. وليس من المصادفة أن ترسل باريس، بالتزامن مع العملية في مالي، قوات خاصة إلى النيجر.
الوضع في تشاد مماثل، حيث تستغل الشركة الأميركية إكسون موبيل وشركات أخرى متعددة الجنسيات حقول النفط (ولكن الشركات الصينية قادمة أيضا). وتوفر النيجر وتشاد أيضا الآلاف من الجنود الذين يتم إرسالهم تحت القيادة الفرنسية إلى مالي. ما أطلق في مالي مع القوة الفرنسية كرأس حربة هو إذاً عملية واسعة النطاق، تبدأ من منطقة الساحل لتصل إلى غرب إفريقيا وشرقها. وهي تلتحم بتلك التي بدأت في شمال إفريقيا، مع تدمير الدولة الليبية، والمناورات لخنق الثورات الشعبية في مصر وأماكن أخرى.عملية طويلة الأجل، كجزء من مخطط إستراتيجي يهدف إلى جعل القارة كلها تحت سيطرة «الديموقراطيات الكبرى» العسكرية، التي تعود مجددا إلى إفريقيا بخوذة استعمارية ملونة بألوان السلام.

ترجمة خالدة مختار بوريجي، بالاتفاق مع فصلية «نقد»

مقالات من ليبيا

القاتل في ليبيا

2023-09-13

الليبيون يعرفون أن المشكلة تكمن في مكان آخر: تنبأ بها عام 2022 تقريرٌ كتبته إدارة ليبيّة شبحيّة: "يجب علينا بشكل عاجل صيانة وتقوية سدَّي درنة، وهناك حاجة إلى سدّ ثالث،...