نواكشوط مدينة تختزل قصة دولة!

في البدءِ كانت مدينة نواكشوط مجرد حلم لدى الجيل المشارك في تأسيس مشروع الدولة الموريتانية، حيث عقد بها أول اجتماع للحكومة الموريتانية أيام الاحتلال الفرنسي في 12 تموز/ يوليو 1957، ليقوم بعد ذلك المختار ولد داداه (أول رئيس لموريتانيا) في العام 1958 بوضع الحجر الأساس لها كعاصمة لموريتانيا. وقد رافقه الرئيس الفرنسي اَنذاك شارل ديغول. قبل وضع الحجر الأساس للمدينة صدر مرسوم يقضي بتحويل
2014-08-06

أحمد ولد جدو

كاتب ومدون من موريتانيا


شارك
العاصمة نواكشوط (من الانترنت)

في البدءِ كانت مدينة نواكشوط مجرد حلم لدى الجيل المشارك في تأسيس مشروع الدولة الموريتانية، حيث عقد بها أول اجتماع للحكومة الموريتانية أيام الاحتلال الفرنسي في 12 تموز/ يوليو 1957، ليقوم بعد ذلك المختار ولد داداه (أول رئيس لموريتانيا) في العام 1958 بوضع الحجر الأساس لها كعاصمة لموريتانيا. وقد رافقه الرئيس الفرنسي اَنذاك شارل ديغول. قبل وضع الحجر الأساس للمدينة صدر مرسوم يقضي بتحويل عاصمة «الإقليم الموريتاني» إليها بعدما كانت عاصمته مدينة سان لويس بالسنغال، وكان ذلك في 24 تموز/يوليو 1957.
لم يتجاوز سكان نواكشوط آنذاك بضع مئات، وكانت تفتقر لأبسط مقومات المدينة العصرية. كانت قرية صغيرة على المحيط الأطلسي، على أرض تعاني نقص المياه والمناخ الصحراوي.

وفي مذكراته عن سبب اختيار نواكشوط كعاصمة لموريتانيا قال الرئيس الموريتاني المختار ولد داداه:
«نظرا لعدم وجود مكان ملائم يتوسط البلاد الموريتانية، كانت نواكشوط المكان الأنسب دون منازع، فقد كان هذا المكان رغم بعده عن المناطق الشرقية والشمالية يوفر جملة مزايا هامة: فهو لا يبعد عن النهر أكثر من 200 كلم، وتربطه به الطريق «الامبريالية» رقم 1، كما يربطه هذا الطريق بمناطق الشمال أيضا حتى الحدود مع الجزائر.

ووقوع نواكشوط على شاطئ المحيط الأطلسي يمكن بل يجب أن يجعلها ميناء، وذلك مكسب عظيم لعاصمة المستقبل، وهي ميزة تشترك معها فيها نواذيبو، لكن نواكشوط تتفوق عليها بعدم التطرف شمالا وعدم العزلة».
وكانت مخططات وتوقعات الجيل المؤسس للمدينة والدولة أن عدد سكان نواكشوط سيصل إلى 20 ألف مواطن بحلول 1975. لكن تغيرات الطبيعة قررت غير ذلك، فقد ضرب موريتانيا الجفاف في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، فحدثت هجرات جماعية اليها من سكان الأرياف والمدن الموريتانية، بعدما فقدوا ما كان يعينهم على العيش، ووصل عدد سكان العاصمة في 1975 إلى 130 ألف نسمة، ثم وفي عقد أو يكاد تصاعد ليصل إلى أكثر من نصف مليون، حسب المكتب الوطني للإحصاء. وهكذا بدأت العاصمة رحلتها مع العشوائية، دون أي اعتبار لخطط عمران المدن العصرية، وبالترافق مع ذلك تفاقمت فيها مظاهر الفقر والعوز، وتقلصت فيها روح المدنية، وخاصة أن البلاد شهدت هزات مثل «حرب الصحراء» (1975-1991)، ثم إطاحة النظام المدني الذي جاء بعد الاستعمار عبر انقلاب الجيش 1978.

ما زالت نواكشوط تعبر عن حالة موريتانيا: مدينة يغلب عليها الشحوب، ويعيش 46 في المئة من سكانها (يقارب اليوم عدد سكان نواكشوط المليون) تحت خط الفقر، وتنتشر فيها أحياء الصفيح و«الأعرشة» وتتحكم فيهم أقلية تقطن في شمال المدينة في مقاطعة «تفرغ زينة». وتتكون المدينة من تسع مقاطعات وتتميز بانعدام الساحات العمومية وأماكن الترفيه والفضاءات الثقافية. تخلو العاصمة اليوم من دور السينما بينما كانت المدينة تحتضن 14 داراً أيام الحكم المدني الأول، ويقول الكثيرون إن الاهتمام بالمجال الثقافي والتربوي خف مع الانقلابات وتزايد سطوة العسكر.

وتعكس المدينة كذلك الشرخ بين مكونات الشعب الموريتاني وعدم التلاقي بينها. فمن ينتقل من مقاطعات نواكشوط الشمالية والشرقية إلى بعض مقاطعاتها الجنوبية يخيل إليه أنه انتقل إلى بلد آخر. فأغلبية سكانها من الزنوج الموريتانيين، والوجود «العربي» يكاد يكون معدوماً، وحالة الفرز الاستقطابي تلك مستجدة. وتاريخ موريتانيا شهد حالة اقتتال بين العرب والزنوج وذلك في عام 1989.

التفاوتات الحادة بين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لمقاطعات العاصمة، والتنافر العرقي، والتفاوت الطبقي في نواكشوط، يتجلى أيضا عند النظر إلى تلاميذ المدارس الابتدائية الحكومية، فمن الملاحظ أن مدارس التعليم الرسمي تهجر من طرف «البيظان» (العرب) نتيجة لرداءة مستواها، وبحثاً عن تعليم أفضل في المدارس الخاصة - كل حسب طاقته - وأن أغلب مرتاديها هم من شريحة الحراطين (العبيد السابقين). الأمر مقلق، فحين يتربى جيل من دون أن يحتك ببقية مكونات الشعب، فذلك يعني ولادة عائق جديد أمام مستقبل التعايش في دولة متعددة القوميات.

وعلى ذلك، فكل ما سبق ليس هو الهاجس الاكبر لدى سكان نواكشوط.

فكابوسهم الأول هو الأخبار والدراسات البيئية التي تقول إن مدينتهم مهددة بالغرق في ظرف عشرين سنة. تحدثت عن ذلك دراسة لمركز «أكريتين» الإقليمي للاستشعار عن بعد، وهو تابع لدول شمال أفريقيا، التي أوضحت أن خطر أن يغمر المحيط الأطلسي مدينة نواكشوط وبعض المناطق القريبة منها، حقيقي.

وبدوره قال البنك الدولي إن مدينة نواكشوط تعد من ضمن أكثر عشر مدن في العالم تضرراً من الاحتباس الحراري وما ينجم عنه من ارتفاع محتمل لمنسوب البحر. لكن تهديد البحر لا يشكل مصدر قلق النواكشوطيين الوحيد، فاليوم تشهد بعض أحياء المدينة انبعاث المياه من باطن الأرض نفسها. كما ينغص على السكان حياتهم انعدام الصرف الصحي في المدينة، فحين ينزل المطر تتحول إلى مستنقع كبير يستحيل معه التنقل.

 

مقالات من موريتانيا

للكاتب نفسه