كيف صعدت القبيلة في السودان وكيف تضعضعت القوى الحديثة؟

أسس نظام البشير ميليشيا كاملة التسليح تنحدر من قبيلة محددة. بالمقابل نشأت الحركات المسلحة المناهضة على أساس قبلي محض، وإن كانت جماهيرها تضم قبائل متعددة، إلا أن القيادة والفاعلية والتأثير تنحصر في قبيلة بعينها، وفي بعض الأحيان في بيوت محددة داخل القبيلة. وهكذا تحولت أدوار القبيلة إلى أدوات سامة في الصراع السياسي، أججت وخرّبت المناخ العام أيما تخريب.
2021-07-23

شمائل النور

كاتبة صحافية من السودان


شارك
مذبحة الجنينة في دارفور

كان لافتاً تسيّدُ القبيلة في المشهد السياسي طيلة سنوات حكم الرئيس المخلوع عمر البشير، حتى بلغ الأمر أن الأوراق الثبوتية الرسمية لا تخلو من ورود اسم القبيلة. ويُعتقد على نطاق واسع أن نظام الحركة الإسلامية الذي حكم البلاد لنحو ثلاثين عاماً أغلق بعض الوظائف في جهاز الدولة على قبائل بعينها، وإن كانت القبيلة في السودان في الأصل حاضرةً في المشهد السياسي منذ استقلال البلاد في العام 1956، ولم تكن بعيدةً عن هذا الملعب مع القوى المدنية والحديثة.

والناظر في تشكيلات القوى الحزبية السياسية في السودان يجد أن القبيلة أو الطائفة لعبت دوراً رئيسياً في تشكيلها، وهذا يتجلى في أحزاب كبيرة وتاريخية. والمتعارف عليه أيضاً أن هناك مناطق ذات ثقل قبلي دفعت بولاء تاريخي لأحزاب أو كيانات سياسية محددة. وربما هذا طبيعي ومتسق إلى حد كبير مع تركيبة المجتمع السوداني الزاخر بالتنوع. وعلى الرغم من تاريخ هذه البلاد الطويل في تجربة العمل المدني والسياسي مقارنةً مع دول المنطقة، إلا أن القبيلة لم تخرج من الملعب السياسي، بل تحولت في أحيان كثيرة إلى أداة للضغط على الدولة وليّ ذراعها.

نفوذ القبيلة.. إرثٌ تركه البشير ودعّمه الفراغ

هذا يثبّت الدور الفاعل للقبيلة خلال سنوات التاريخ الحديث للسودان. وبقدر ما أسهمت القبيلة في الحياة السياسية، وكان لها الدور غير المباشر في نشوء كيانات حديثة، إلا أن الصراع القبلي حول النفوذ السياسي قاد إلى انهيار أنظمة. وهذا تبدّى بشكل صارخ في عهد الدولة المهدية (1885 - 1898). وبقدر أكبر، أسهم الصراع والتناحر القبلي في عهد حكومة البشير في إسقاطها، حيث تضعضعت مؤسسات الدولة وتوسع النفوذ القبلي، وترك البشير إرثاً بالغ التعقيد في هذا الصدد، تحصد قوى ثورة ديسمبر زراعته الآن. وعلى أقل تقدير، فقد ترك البشير ميليشيا قبلية توازي الجيش في الكم والعتاد، وهي الآن شريكةٌ في الحكم الانتقالي.

أغلق نظام الحركة الإسلامية الذي حكم البلاد لنحو ثلاثين عاماً بعض الوظائف في جهاز الدولة على قبائل بعينها. وإن كانت القبيلة في السودان في الأصل حاضرةً في المشهد السياسي منذ استقلال البلاد في العام 1956، ولم تكن بعيدةً عن هذا الملعب، جنباً إلى جنب مع القوى المدنية والحديثة.

تحوّلت وضعية القبيلة في المشهد السياسي بشكل كبير خلال سنوات حكم البشير، وعلى نحو خاص خلال السنوات الأخيرة التي احتدم فيها الصراع السياسي، وأحاطت بالبلاد الضغوط الدولية. لجأ نظام البشير لاستخدام نفوذ بعض القبائل لتأدية أدوار سياسية لم تخرج أغراضها عن كيفية المحافظة على كرسي السلطة مهما كلّف الثمن.

وعمدت حكومة البشير في أي تشكيل حكومي أو تغيير وزاري إلى مراعاة التوازنات القبلية على حساب المؤسسية والكفاءة والتأهيل. ولم يكن مدعاةً للاستغراب إذا حملت الصحف اليومية أن وفداً قبلياً وصل للخرطوم للمطالبة بتمثيلهم في الحكومة بدافع "أن القبيلة لا ترى نفسها في السلطة". ولسنوات طويلة ظلت مناصب محددة محفوظةً لقبائل بعينها، أو مناطق جغرافية محددة. صحيحٌ ربما أن بعض المناطق، جراء الحروب والصراعات، احتاجت في وقت مضى إلى خصوصية في التعامل، لكن لم تسهم هذه الموازنات القبلية في حلحلة قضايا تلك المناطق، لأن سياسة البشير كانت تنطلق من حصد ولاء القبيلة عبر منتسبيها الجالسين على كراسي السلطة، وليس انطلاقاً من مبدأ إيجاد حلول ومعالجات لقضايا هذه المناطق. وكان هذا تلاعباً خبيثاً بمفهوم "تقاسم السلطة والثروة".

بلغ الأمر أن أسس نظام البشير ميليشيا كاملة التسليح تنحدر من قبيلة محددة. بالمقابل نشأت الحركات المسلحة المناهضة على أساس قبلي محض، وإن كانت جماهير هذه الحركات تضم قبائل متعددة، إلا أن القيادة والفاعلية والتأثير داخل هذه الكيانات تنحصر في قبيلة بعينها، وفي بعض الأحيان في بيوت محددة داخل القبيلة.

حينما تفجرت شرارة "ثورة ديسمبر 2018"، بدت الفرصة مواتيةً لصعود القوى الحديثة، والأحزاب السياسية. وقد حدث ذلك بالفعل. "تجمّع المهنيين" الذي يضم قطاعات مختلفة من مهن مثل الطب، الهندسة، الصيدلة، المعلمين، الصحافيين، وغيرها من القطاعات المهنية حظي بقبول واسع وسط المجتمع السوداني الذي فقد لفترة طويلة الثقة بالأحزاب.

وهكذا تحولت أدوار القبيلة إلى أدوات سامة في الصراع السياسي، أججت وخرّبت المناخ العام أيما تخريب. فاتخذت حكومة البشير القبيلةَ بطاقةً رابحة مرة، وخاسرة ألف مرة في اللعبة السياسية. وفي إطار هذه الموازنات والمعادلات السياسية، تحولت بعض القبائل إلى دول داخل الدولة السودانية، وكسرت طوق المؤسسية والدستور والقانون في مرات عديدة. وحتى نظام البشير نفسه فقدَ السيطرة على لعبة القبيلة، وأصبحت مفاتيح وأقفال في التسويات السياسية باستخدام زعماء هذه القبائل لنفوذهم وسط حواضنهم القبلية، لحصد أكبر قدر من الامتيازات التي تمنحها الحكومة أو من جهة أخرى لابتزازها.

في ظل هذا النفوذ القبلي والقبضة الأمنية التي عُرف بها نظام البشير، تراجع أداء وتأثير القوى الحديثة، وحاصرت أجهزة البشير نشاط الأحزاب وعمدت إلى اختراقها وإضعافها، تارةً بالتقسيم، وتارةً بشراء المواقف، حتى فقدت تأثيرها إلا في بعض المناطق ذات الولاء التاريخي.

ثورة ديسمبر فرصةٌ.. فهل بدأت بالتلاشي؟

حينما تفجرت شرارة "ثورة ديسمبر 2018"، بدت الفرصة مواتيةً لصعود القوى الحديثة والأحزاب السياسية. وقد حدث ذلك بالفعل. "تجمّع المهنيين" الذي يضم قطاعات مختلفة من مهن مثل الطب، الهندسة، الصيدلة، المعلمين، الصحافيين، وغيرها من القطاعات المهنية حظي بقبول واسع وسط المجتمع السوداني الذي فقد لفترة طويلة الثقة بالأحزاب. فالالتفاف الذي طوّق به السودانيون تجمع المهنيين أعطى إشارةً نيرة لعودة القوى الحديثة، وعلى نحو خاص المهنية منها. لم تكن هناك حاجةٌ للتنقيب حول ما هو تجمع المهنيين، ومن وراءه. وبدا أن المهم بالنسبة لكثيرين وقتها كان أن هناك جسماً جديداً كلياً يقود الثورة، ويضع البذرة الأولى في بناء الدولة المدنية الحديثة التي تأخرت كثيراً رغم التجربة السياسية الطويلة.

في وقت وجيز، حصد تجمع المهنيين قبولاً ونفوذاً لا يُضاهى، وفي ظله استطاعت بعض الأحزاب إعادة تقديم نفسها رويداً، في تحالف عريض جمع القوى المعارضة لحكومة البشير.

ظل تجمع المهنيين حاضراً في المشهد طيلة شهور الثورة، وقبل الاتفاق بين المدنيين والعسكريين كان طرفاً رئيسياً في عملية التفاوض التي انتهت باتفاق، ثم بحكومة انتقالية ضمّت المدنيين والعسكريين. غير أن الوضع تبدل في أعقاب تشكيل الحكومة، وانقسام تجمع المهنيين نتيجة تنافس القوى الحزبية داخل مكوناته. فالتجمع في الأساس تشكل من شباب الأحزاب في القطاعات المهنية، ويبدو أن الأحزاب استعجلت الحصاد في وقت لم تثمر فيه نبتتها حديثة التكوين، فتكالبت على التجمع للاستحواذ على قبوله ونفوذه وسط المجتمع، وعلى نحو خاص لدى الشباب الذين كانوا العمود الفقري في الثورة.

ومؤلمٌ أن شباب الأحزاب في تجمع المهنيين أضاعوا فرصةً تاريخية كي يلعب التجمع الدور المناط به في قيادة البلاد نحو البناء المدني الحديث، مستثمراً هذا القبول والنفوذ الذي لم تحظَ به الأحزاب السياسية. لكن الذي اتضح أن الأحزاب هي من دفعت لتشكيل تجمع المهنيين، لأداء دور محدد لفترة محددة، بعدما أدركت أنها فقدت القبول والثقة في الشارع السوداني. بعد الانقسام الذي حدث في تجمع المهنيين، برزت بشكل صارخ أيادي الأحزاب في تخريبه وتفكيكه. وعلى إثر ذلك تراجع دور التجمع في رمشة عين، وفقد كل ذلك البريق ولم يعد شيئاً يُذكر.

قوى الثورة ترضخ لضغوط زعماء القبائل

في تشرين الأول/ أكتوبر 2020، اضطر رئيس الوزراء الانتقالي، عبد الله حمدوك، لإعفاء والي ولاية كسلا، الشاب المعين حديثاً، وذلك تحت ضغط زعيم قبيلة أخرى مناوئة للحاضنة القبلية لوالي كسلا. ولم يستطع الوالي الجديد تنفيذ قرار تعيينه، وبقي في الخرطوم نحو أربعة أشهر حتى صدر قرار إعفائه جراء التحشيد القبلي الذي قاده أحد نُظار القبائل، وانتهى الأمر باشتباكات بين الطرفين راح ضحيتها قتلى وجرحى، وانتقلت الاشتباكات لتشمل مدناً أخرى بشرق السودان الذي تلعب فيه القبلية دوراً مؤثراً. ولم يكن هناك سببٌ لرفض الوالي الجديد سوى أنه منحدرٌ من قبيلة محددة. واستمرت هذه الأحداث القبلية لشهور، حتى انتصر الزعيم القبلي بفرض ما يريد، لكن الصراع في شرق السودان لا يزال يتجدد لأسباب عديدة.

تبدل الوضع في أعقاب تشكيل الحكومة الانتقالية، وانقسام تجمع المهنيين نتيجة تنافس القوى الحزبية داخل مكوناته. فالتجمع في الأساس تشكل من شباب الأحزاب في القطاعات المهنية، ويبدو أن الأحزاب استعجلت الحصاد في وقت لم تثمر فيه نبتتها حديثة التكوين.

توارت القوى الحديثة والأحزاب السياسية بعد الثورة، وكفّت يدها عن أي نشاط مدني، ولم تعد تتواصل مع المجتمعات، كما كان يحدث في السابق، وفشلت مراراً في إحداث تأثير في محطات عديدة حدثت بعد الثورة، أبرزها تجدد الصراعات القبلية في دارفور.

كان رضوخ رئيس الوزراء لضغط الزعيم القبلي بمثابة مباركة وتأييد لدور القبيلة، وإن كانت النوايا ألّا تنفجر الأوضاع في شرق البلاد. إلا أن النتيجة المباشرة كانت تعزيزاً لدور زعماء القبائل. والزعيم القبلي نفسه، احتج قبل أيام وحشد قبيلته وأغلق الطريق القومي الرابط بين الخرطوم وشرق السودان.

وما يحدث في شرق السودان نموذجٌ يحدث في مناطق عديدة باختلاف الأسباب والحيثيات. لكن القاسم المشترك هو أن القبيلة هي صاحبة النفوذ على حساب المؤسسات من جهة، وعلى حساب القوى الحديثة من جهة أخرى.

هذا المشهد، هو،علاوة على أنه نتاج طبيعي لإرث معقد خلفه البشير، فهو من جانب آخر، مدعوم بشكل ما من قبل المكونات العسكرية الشريكة في الحكم الانتقالي. بعد إزاحة البشير في نيسان/ أبريل 2019، مال جزء من المكون العسكري للتحالف مع القبائل، ففي ظل بحث المكون العسكري عن حواضن اجتماعية لجأ – كنتيجة طبيعية - لاستغلال الحواضن التقليدية للنظام السابق، وفي ظنه أنه ممسكٌ ببطاقة رابحة في مواجهة قوى الثورة التي اتخذ غالبها موقفاً حاداً من العسكريين بعد مجزرة فض اعتصام القيادة العامة في حزيران/ يونيو 2019. وقد ظل مجلس السيادة الانتقالي مشرع الأبواب باستمرار - ولا يزال - لاستقبال وفود القبائل. وزعماء القبائل أنفسهم، ممن حازوا على امتيازات من النظام السابق استشعروا خطر التلاشي مع تسيّد القوى الحديثة المشهدَ بعد الثورة، ربما هذا ما حفّزهم إلى الهرولة بحثاً عن صيغة تحفظ لهم وضعيتهم وتحافظ عليها. هذا من جانب، لكن من الجانب الآخر، فإن ثمة حافزٌ يجعل هذه القوى التقليدية تعود لتتربع على الفعل السياسي والاجتماعي، وهو عدم قدرة القوى الحديثة على إكمال ما بدأته إبّان الثورة، وتراجع دورها وتأثيرها بشكل مريع. فقد توارت القوى الحديثة والأحزاب السياسية بعد الثورة، وكفت يدها عن أي نشاط مدني ولم تعد تتواصل مع المجتمعات، كما كان يحدث في السابق، وفشلت مراراً في إحداث تأثير في محطات عديدة حدثت بعد الثورة أبرزها تجدد الصراعات القبلية في دارفور.

يمكن تحديد بعض أسباب هذا التراجع للقوى الحديثة مع صعود القبيلة، لعل أبرزها أن هذه القوى، وكأثر للثلاثين عاماً من الحكم الديكتاتوري، لا تزال هشّة التكوين. ونتيجة الهشاشة هذه انقساماتٌ وتشظي، وهذا ما يجعلها غير قادرة على أن تُكوّن لُحمةً متماسكة، لديها قيادة مواكِبة للتغيرات الكبيرة التي طرأت. وبالتالي فقد خلّف هذا الوضع فراغاً عريضاً ملأته الأنظمة الاجتماعية التقليدية المتمثلة في القبيلة. وعطفاً على هذا، فإن عدم قدرة مؤسسات الدولة على النهوض، وخاصةً منها المعنية بتطبيق القانون، منح القبيلة بقصد أو بدونه شرعية اتخاذ القرارات أو رفضها.

كان رضوخ رئيس الوزراء لضغط الزعيم القبلي بمثابة مباركة وتأييد لدور القبيلة، وإن كانت النوايا ألّا تنفجر الأوضاع في شرق البلاد. إلا أن النتيجة المباشرة كانت تعزيزاً لدور زعماء القبائل. والزعيم القبلي نفسه، احتج قبل أيام وحشد قبيلته وأغلق الطريق القومي الرابط بين الخرطوم وشرق السودان. وما يحدث في شرق السودان نموذجٌ يحدث في مناطق عديدة باختلاف الأسباب والحيثيات.

تبقى الدولة المدنية الحديثة المنتظرة في السودان رهينة نهوض قوًى حديثة، وعلى رأسها الأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني النشطة في قضايا المجتمعات. ولا تزال الفرصة مواتيةً إذا ما بدأت الأحزاب السياسية التغيير من داخلها، فلا يزال بعضها محتفظاً بقيادته من دون تغيير منذ عقود. ولا تزال الفرصة مواتيةً إذا ما انصرف تجمع المهنيين المنقسم إلى بناء النقابات.. وما دون ذلك فإن الفرصة التي منحتها "ثورة ديسمبر" ستتبدد. 

مقالات من السودان

للكاتب نفسه