عثرات على طريق التمكين

تنصهر قضايا المرأة في حنايا مجتمع كهلٍ متهالك حتى التلاشي، ما يجعل معاودة الطرح ممكنة في كل وقت ما لم يعتم اليأس وينتصر، ربما يعجل بهذا التلاشي استغراق الأطروحات المتداولة في التصارع بين تطرفين أحدهما يصعد بالمرأة لتقف ضداً للرجل ونداً، والآخر يهوي بها حيث الاستتار خلف الرجل طلباً للأمان كأقصى الغايات في مجتمع الغاب حيث القوة وحدها فصل الخطاب. لم تنجح كل الدعاوى المرسلة لتمكين المرأة من تخفيف
2015-03-05

بسمة فؤاد

باحثة من مصر


شارك
| en
إنجي أفلاطون - مصر

تنصهر قضايا المرأة في حنايا مجتمع كهلٍ متهالك حتى التلاشي، ما يجعل معاودة الطرح ممكنة في كل وقت ما لم يعتم اليأس وينتصر، ربما يعجل بهذا التلاشي استغراق الأطروحات المتداولة في التصارع بين تطرفين أحدهما يصعد بالمرأة لتقف ضداً للرجل ونداً، والآخر يهوي بها حيث الاستتار خلف الرجل طلباً للأمان كأقصى الغايات في مجتمع الغاب حيث القوة وحدها فصل الخطاب. لم تنجح كل الدعاوى المرسلة لتمكين المرأة من تخفيف وطأة الضغوط الاجتماعية التي تحاصرها في المجتمع المصري وتمعن في تكبيلها، وهواة إشعال حطب الصراعات المجتمعية يتفننون في توسل جذور دينية لعادات اجتماعية مشوهة، فتعاد تسمية الأشياء، ليصير الخنوع حياءً، وقبول الظلم عفواً، وترك الحق فضلاً! ولعل هذا الطّرح يُعبِّر مجدداً عن بعض علامات الانتهاك في طريق واسع ممتد.
"اللهلوبة" تعاني التنشئة الاجتماعية للمرأة كثيراً وبصفة عامة اختناقات الثقافة الاجتماعية الشائعة. تبدأ المعاناة منذ لحظة الميلاد الأولى حيث لا تزال تتباين وجهات استقبال خبر ميلاد البنت (خاصة في الأسر الفقيرة) بين الترحيب والامتعاض، سواء كان مقنعاً أو صريحاً، واستسلاماً للقدر واستشرافاً للجدوى. يبدأ الإقحام المبالغ للفتاة في الأعمال المنزلية بدعوى تعويدها على حمل مسؤولية البيت للمستقبل، وبالتوازي تعويد أخيها الاستعلاء على الأعمال المنزلية كشأن نسائي بحت لا يليق بالذكور. من يستهويها مدح الأسرة أنها صارت "لهلوبة" تُستهلك مبكراً في مفاهيم زائفة تربط معنى الأنثى لديها ـ زوراً - بفقاعات الصابون والمنظفات. فما تلمعه مرة تعود لتزيدها ثانية، وكلما بالغت بالمزيد كلما ادخرت رصيداً بمهارتها لدى الأقارب والجيران لجذب الخُطاب في المستقبل. كما تترسخ ثقتها بذاتها كأنثى ماهرة، بغض النظر عن تحققها أو عدمه في أي المجالات الحياتية الأخرى، بينما تتصدّر "لا" كإجابة حاسمة لصد كل فكرة تُلمِح بمس تابو التقاليد المقدس، واللاءات لا تنتهي. إحداها تمنع كلمة والأخرى تكتم صرخة وثالثة تحظر حركة. وهكذا تتعاظم الممنوعات، حتى يصير بيت الأهل سجناً لا انفكاك منه إلا بالزواج، الذي قد لا تبحث من خلاله الفتاة عن شريك مناسب يقاسمها الحياة، إنما بالأحرى عن متنفس حيث مساحة أوسع من الحرية!
زي المرأة
تخضع المرأة لماكينة الأحكام المجتمعية الفورية، ويتدخل زي المرأة تحديداً لينال نصيباً وافراً من الأحكام الجاهزة، فكل لِبسة ترتديها يقابلها حكم مباشر غالباً ما يتعلق بأخلاقها وعفتها وربما يصل لاستشراف حصافتها، إذ يُطرح زي المرأة باعتباره قضية كبرى تستدعي ضوابط عامة وأطراً واضحة، وذلك بخلاف التعويل عليه كسبيل لاستبيان الكثير عن المرأة. على سبيل المثال، في مصر يمكن القول إن غطاء الشعر "الحجاب" من أبرز سمات زي المرأة، وقد صار الى حد بعيد مظهراً عاماً للنساء "المسلمات" في جميع الطبقات الاجتماعية، حتى أن من تتخلى عنه يمكن اعتبارها استثناء. برغم الامتداد الديني للظاهرة، إلا إن انتشارها لا يشي بالامتثال للأمر الديني وضوابطه، بل هو أقرب إلى الاحتباس خلف قيد مجتمعي ضاغط، خاصة أنه في أغلب الحالات يخالف بصورة واضحة ومتكررة وأحياناً فجة الضوابط الشرعية له. الطريف أن الحكم المجتمعي تدرَج من النظر للحجاب باعتباره لا يمثل شيئاً على الإطلاق، وهو ما كشفه الاختفاء التام له (فترة ما قبل السبعينيات)، إلى الانتشار التام أيضاً مع تطور الحكم المجتمعي ليصبح شرطاً لابتداء علاقة المرأة بربها وفقاً للسياق الاجتماعي الشائع، وبغض النظر عن الانفلات من الدين الذي يمكن رصده على عدة مستويات أخرى. أكثر من ذلك، فإن أنصار هذا الزي وخصومه يبالغون في تحميله المعاني، فهو شرط العفة والإيمان للمناصرين، وسبب التخلف والتأخر للمناهضين. وهكذا فإن كل حركة وكل سكنة تصدر عن المرأة تُحمَّل بالمعاني الممكنة وغير الممكنة.
عمل المرأة
حتى الآن لم يُحسم بعد بصفة تامة الجدل المثار حول عمل المرأة، إذ لا يزال دائراً في بعض القطاعات الاجتماعية بين القبول والرفض. بخلاف الأسباب المعلنة للرفض والتي تربط عادة بين صون المرأة وتعزيزها من ناحية ومنعها عن العمل من ناحية أخرى، فإن أسباباً مسكوت عنها يحركها ظنٌ بأن التمكين المادي للمرأة قد يحفزها للتمرد على بعض الأنماط الحياتية التي تُذعن لها في حالة العوز والحاجة. كما تؤكد خبرات الواقع أن بعض النساء تُبقي على حياة مأساوية تنتهكها لأبعد الحدود تمسكاً بالمأوى والمعيل، ذلك ـ طبعاً - بغض النظر عن استشراء البطالة وتردي أوضاع سوق العمل التي تُقعد الرجال قبل النساء. ومع ذلك فإن انتهاكات حصرية للمرأة تتوالى لتطال كثيرات ممن يلجأن إلى العمل. بل إن وظائف كاملة ـ خاصة في القطاع الاقتصادي غير الرسمي - لا يشغلها إلا النساء والعلة هى التدني الصارخ للأجر مقابل العمل الآمن. تأتي الصيغة الشائعة "مطلوب آنسة للعمل" التي يستخدمها بعض أصحاب الأعمال للإعلان عن وظيفة لتُكمل النغمة البائسة. فالمطلوب "آنسة" وليس شاباً ليتسنى لصاحب العمل أن يبخسها حقها ويخفض أجرها، وكذلك "آنسة" وليست متزوجة لضمان التفرغ التام وعدم الانشغال بزوج أو أطفال. وماذا لو تزوجت الآنسة؟ حتماً ستذهب ليأتي بغيرها! هكذا بمنتهى الجرأة.. مطلوب عامل ليس له حياة خاصة ليتفرغ لعمل لا يعطيه إلا الفتات!
المرأة الريفية
برغم عموم المعاناة، إلا أن المرأة الريفية تمثل اختصاراً شاملاً للقصة كاملة. إذ غالباً ما يعترضها قسط وافر من الانتهاكات، إن لم تذقها جميعاً. تمثل نسبة النساء اللاتي يعملن في القطاع الزراعي حوالي 42.8 في المئة من النساء، بينما حوالي 62.6 في المئة من النساء في الريف المصري يعملن في العمل الأسري غير مدفوع الأجر. وعلى الرغم من أنه ما بين 63 إلى 80 في المئة من النساء الريفيات في مصر يعانين من الأمية، إلا إن نسبة البطالة للمرأة انخفضت إلى 17.8 في المئة لمصلحة الريفية، مقابل 29.2 في المئة للمرأة الحضرية، وفقاً للإحصاءات الواردة عن المجلس القومي للمرأة في كتيب "المرأة الريفية في مصر" الصادر في طبعته الأولى (2013). وعلى الرغم من تعاظم الأدوار التي تؤديها المرأة الريفية عن نظيرتها الحضريه، إلا أن حقوقها تعاني معدلات انتهاك أعلى، خاصة مع تضييق مساحات الاختيار أمامها وانسداد آفاق الحرية والاستقلال الفكري. مثلاً، تتعرض المرأة الريفية غالباً لألوان مختلفة من العنف الذي لا يتضمن بالضرورة (وإن لا يمنع) الاعتداء عليها بالضرب، وإنما الأكثر شيوعاً هو الاعتداء على حقها في اختيار مساراتها الحياتية المحورية بما يوافق طموحها، على مستوى التعليم من ناحية وعلى مستوى الزواج من ناحية أخرى. فما زالت تُغصب الفتاة الريفية على الزواج ممن تراه الأسرة مناسباً، و"العاقلة" - كما يدّعون - هي من ترضخ سريعاً وترضى بما ارتضاه لها الأهل، ذلك بخلاف الاعتداء على حقوقها المادية، وخاصة حقها في الميراث وإن بصور مقنعة.
على كل ما تلاقيه المرأة من المجتمع إلا أنها كثيراً ما تسكن لجلاديها، إذ كثيراً ما يفشل دعاة حقوق المرأة في اجتذاب أنصار لأطروحاتهم من النساء فضلاً عن الرجال، حيث المبالغة في فكرة المساواة والتغافل عما تخلفه من تسطيح للقضية على نحو يصوره كمعاداة ومبارزة فجة للرجل، ما يدفع بأغلب النساء أسرى الارتواء بأفكار التيار التقليدي الأقرب لتلبية الحاجة الإنسانية الطبيعية للمرأة بالاستكانة إلى رجل لا يسلبها حقوقها وإنما يشاركها الدفاع عنها.
ويبقى أنه على هامش الاحتفال بيوم المرأة العالمي، نستدعي لحظة صدق تتساءل: بأي فكرٍ وبأي عقلٍ يستبيح مجتمعٌ نفسه/ بعضه؟

للكاتب نفسه