إحياء صراع الحقوق والواجبات

من دون التخوف من مغبة إطلاق أحكام عامة على شرائح وفئات واسعة ومتنوعة من المجتمع، يمكن التحدث عن انهيار شديد في مستوى الخدمة التي يقدمها الجهاز الإداري في الدولة للمواطنين، حتى بات الزهد في طلب الخدمات الحكومية - لمن استطاع - أهون من اللجوء إليها وتحصيلها بالعناء. وزِد على الانشغال في وقت الدوام بأعمال شتى لا صلة لها بالوظيفة، التسديد خلف كل موظف "مزوِّغ" بأنه "موجود لكن
2015-10-01

بسمة فؤاد

باحثة من مصر


شارك

من دون التخوف من مغبة إطلاق أحكام عامة على شرائح وفئات واسعة ومتنوعة من المجتمع، يمكن التحدث عن انهيار شديد في مستوى الخدمة التي يقدمها الجهاز الإداري في الدولة للمواطنين، حتى بات الزهد في طلب الخدمات الحكومية - لمن استطاع - أهون من اللجوء إليها وتحصيلها بالعناء. وزِد على الانشغال في وقت الدوام بأعمال شتى لا صلة لها بالوظيفة، التسديد خلف كل موظف "مزوِّغ" بأنه "موجود لكن بيصلي، في دورة المياه، كان لِسَّه هنا ..!". والحقيقة – غالباً - أنه موجود بالفعل لكنه وقَّع الحضور ثم انصرف للمقهى القريب من العمل، أو للسوق أو غير ذلك، بعد التأكيد على الزملاء بشفرة العودة حال التفتيش المفاجئ أو العمل المُلِح: "على تليفونات"! لذلك تمثل سِحنة العميل وخدمته تعطيلاً لما عزم الموظف على استغلال وقت العمل لإنجازه، قد يصب الأمر حد التأفف من توالي العملاء وقد يصل لتعمد تعطيل بعض الخدمات.

ضرورة الإصلاح

يقدر عدد العاملين المدنيين في الدولة بحوالي 6.36 مليون موظف، يتوزعون على العديد من القطاعات (التعليم والصحة والدفاع والحماية الاجتماعية والإسكان وغيرها). ولكن الإحصاءات تشير إلى أن ما يزيد نسبته عن 46 في المئة منهم معيّنون في محافظة القاهرة وحدها. وهذا سوء توزيع صارخ، ينبئ بوجود عجز في العديد من المحافظات، إضافة لوجود عجز أيضاً في أعداد العاملين ببعض القطاعات مثل الصحة والتعليم، بحسب ما ورد في تقرير المبادرة المصرية عن "إصلاح الجهاز الإداري للدولة". ربما لذلك وأكثر، فإن إصلاح الجهاز الإداري للدولة هو بالأساس مطلب جماهيري قبل أن يكون سعياً حكومياً تدعمه السلطة، لذلك لجأت الدولة مؤخراً لإلغاء قانون 47 لسنة 1978 ("العاملين المدنيين بالدولة") واستبداله بالقانون 18 لسنة 2015 الذي أطلقت عليه اسم قانون "الخدمة المدنية". لكن.. مباشرة نظم الموظفون وقفات احتجاجية علت خلالها أصواتهم تعارض القانون الجديد وتعلن المخاوف وتذكر بالمحاذير، وقد ساندهم وتبنى مطالبهم كثير من رموز القوى المدنية، فيما اكتفت السلطة بالقول أنها قد تُضمِن بعض مقترحات المعارضة في اللائحة التنفيذية للقانون، أما نصوصه فلا مجال لإعادة النظر فيها!

ثقافة الموظف

"إن فاتك الميري تمرغ في ترابه"، مقولة تلخص ثقافة تقدير العمل الحكومي وتفضيله على غيره، والأسباب وراء ذلك عديدة، أهمها "استقرار الدخل وإن كان قليلاً، انخفاض ساعات العمل، تساوي الرئيس مع مرؤوسيه (فكلهم موظفون في الحكومة)، كثرة الإجازات، صعوبة تسريح العاملين أو فصلهم نهائياً مهما أساءوا العمل".. لذلك دأب الموظف الحكومي على استغلال تلك المزايا لمنتهاها وبات يستجدي منها عوضاً عن ضعف أجره، بل برع في تصيّد ثغرات القانون وانتزاع كل ما قد يحمل في طياته ميزة ولو جزئية في مساره الوظيفي، فكان تعدد الإجازات بين العارضة والمرضية والاعتيادية، بخلاف الأذونات وزيارات التأمين الصحي، وهي استخدمت كوسائل لاستمداد أكبر قسط من الراحة أثناء العمل. بل صار الموظفون يتضامنون على "التزويغ" لادخار الإجازات الاعتيادية لمّا كان القانون يضمن استردادها نقوداً في نهاية الخدمة، كأن توفيرها - بظن القانون - دليل على التزام الموظف بالعمل! وحتى إن انقطع الموظف تماماً عن العمل خلال "إجازة بدون مرتب"، فإنه يظل يترقى رغم غيابه عن العمل، ما دام يدفع التأمينات الاجتماعية. الآن.. يصطدم القانون الجديد مع ذلك، فالإجازة لن تتحول نقوداً، والتواجد بالعمل شرط الترقي فيه. قد يحمل هذان التعديلان تحديداً درجة من الوجاهة، إلا أنهما بالتأكيد بمثابة سحب لبعض مزايا العمل الحكومي بالنسبة للموظفين، مما سيؤدي إلى التركيز على العيوب ويعزز الإلحاح لمواجهتها.

معضلة "على أد فلوسهم"

يُأصل بعض الموظفون لتلك الحالة من اللامبالاة، بأن مبعثها هو تدني الأجور بما لا يُشبع الحاجات الأساسية لهم، ويدفعهم لادخار بعض طاقتهم لعمل آخر في فترة ثانية من اليوم. ذلك لا ينفي ما يردّ به آخرون منهم أيضا ("أنه طالما قبلت الوظيفة فعليك الوفاء بمتطلباتها، وإلا فاتركها لغيرك"). ولكن الخطير في ذلك هو "تحويل" شكل الاحتجاج للمعارضين منهم، من الأشكال المقبولة كالإضراب مثلاً، إلى فكرة التطبيع مع اللامبالاة كرد فعل انتقامي هادئ لا يدفع ثمنه إلا مواطن آخر ــ بالتأكيد ــ يمنحه عمله نصيبا وافيا من العناء، لتتحول المهن المختلفة في مصر لساحة تصفيات، كلٌ يستغل نفوذه في ملعبه. وعلى الرغم من أن قضية الأجور تعتبر حجر عثرة عتيدا في وجه الإصلاح، إلا إن القانون الجديد فاقم الأزمة بتقليص الزيادات في الأجور حتى صارت الزيادة السنوية بمعدل خمسة في المئة فقط من الأجر الوظيفي، ما لا يصل إلى خمسين جنيهاً عند بعض الدرجات الوظيفية. بل فعَّل كذلك فكرة المساس بالحوافز بمقتضى مستوى الأداء في العمل، وهو على الرغم مما يبدو وجيهاً للوهلة الأولى، إلا أن الحقيقة أن الراتب الذي يتحصل عليه الموظف مشتملاً على الحوافز، لم يصل للحد الأدني الذي نودي به، أي 1200 جنيه مصري للدرجة السادسة مثلاً، لذلك فإن الحصول على الحوافز لا يُعد مكافأة قدر ما يمثل خصمها عقاباً.
ربما تساق بعض المبررات للتسكين، على شاكلة أن البلد يمر بفترة عصيبة وأن ميزانية الدولة لا تكفي لتلبية طموحات الموظفين.. لكن ما تتوالى به الأخبار (بغض النظر عن مبلغ صوابها أو المبالغات فيها) حول ضخامة رواتب بعض الفئات مثل الشرطة والجيش والقضاء وغيرها.. مقابل تفاهة الفتات الذي يتقاسمه الموظفون، يُعقِّد المسألة ويجعلهم يميلون لتشخيص القضية على أنّها سوء توزيع وغياب للعدالة الاجتماعية، وهو ما كشفته هتافاتهم: "هما ياكلوا حمام وفراخ.. واحنا الجوع دوخنا وداخ". كذلك حمل شعارهم: "اوعى تزايد عالوطنية.. العمال أصحاب قضية"، رداً على ذاك الخطاب "الوطني" الذي يُساق لإسكات أى معارضة.

عوار التقييم: لقطة عابرة

التقييم فعلاً هو أحد أهم بنود الإصلاح التي يُوصى بأخذها في الاعتبار حال الاتجاه نحو الإصلاح الإداري. لذلك اهتم مُشرع القانون الجديد بتقارير تقييم الأداء للموظفين وعوَّل عليها كثيراً في تحديد المسار الوظيفي للعامل. ولكن الموضوع يتماس مع نقطة الضعف الأهم في مصر: عشوائية نظم التقييم. ربما يُلخص مخاوف الموظفين من الاحتكام للتقارير التي يعتمدها المديرون، ذاك المشهد الذي انتشر مؤخراً لزيارة محافظ الجيزة للطبيب الشاب في وحدة طب الأسرة بكرداسة، وبديلاً عن إبداء أيّ ملاحظات موضوعية جادة، خاطب المحافظ الطبيب: "خرج إيدك من جيبك"، ثم أصدر حكمه فوراً بأن الطبيب لا يحترم العمل! رغم لحظية الموقف وعابريته، إلا أنّه شديد التعبير عن حال كثير من المسؤولين في مصر، حيث الكبر والغطرسة والاعتماد على الأهواء الشخصية وإطلاق الأحكام الجزافية التي لا تستند لأدلة ومعطيات موضوعية وواقعية. لذلك يتخوف الموظفون من وقوعهم فرائس لأهواء مديريهم، بما قد يربط درجة التقييم بطريقة كلام الموظف أو طريقة جلوسه أو غيرها. من جهة أخرى، كشفت اللقطة عن فكرة التباس المهام التي يتورط فيها العديد من المسؤولين، فكما عوتب الطبيب على عدم توافر مقاعد للمرضي وعدم نظافة دورات المياه، فإنه على نفس المنوال قد يُطلب من أيّ موظف القيام بأي مهمة، وانخفاض التقدير جزاء من يرفض، وهو ما قد يترتب عليه - وفقاً للقانون - تغيير مكان الموظف أو فصله النهائي بحسب الحالة. يسمح بذلك أيضاً بعض الكلمات المطاطة الواردة بالقانون مثل "مظهر الموظف وسُمعته"، ومن ذلك ما ورد بالمادة 55 من أن كل موظف "يخرج على مقتضى الواجب في أعمال وظيفته، أو يظهر بمظهر من شأنه الإخلال بكرامة الوظيفة يجازى تأديبياً"؟!
يزيد الأمر سوءاً أنه إذا تظلم الموظف من تقديره في تقرير الأداء، فإن عدم الرد عليه ــ حسب القانون الجديد ــ يعد رفضاً نهائياً للتظلم. لا يمكن فهم عدم الرد على أنه رفض للتظلم بقدر كونه باعثا على الشك في أن التظلم لم يُنظر من الأساس، خاصة في ظل ازدحام المكاتب وكثرة الأوراق وترهل النظام. ويعزز ذلك ما بات عادة في معظم الجهات الحكومية، برفض التوقيع للعميل باستلام أصل مستند تمّ استلامه بالفعل، خشية إسقاط المسؤولية على الجهة الحكومية حال تاهت الورقة المُقدمة وسط أكوام الأوراق التي يجلسون بينها!
لا شك أن قانون الخدمة المدنية الجديد ما زال بحاجة إلى مزيد من القراءة والمراجعة والاشتباك المجتمعي، للوقوف على نقاط القوة والضعف، لكن الحاجة للإصلاح تبقى ضرورة مُلحة، سواء كانت لجهة تحسين حالة الأجور للموظفين أم لإعادة ضبط قواعد تسيير العمل لتحقيق الصالح العام. 

للكاتب نفسه