عشوائية التثقيف الصحي في مصر

يُشْكَل الحديث عن الوعي الصحي في مصر. والعلة في ذلك كثيراً ما تعود لارتفاع معدلات الأُمية، وانحسار قنوات التثقيف الصحي المعتمدة، كما افتقاد ثقافة التعرف على السلوكيات والعادات الصحية لاقتفائها كنمط للحياة، واقتصار تذكرها حال المرض الذي يكشف في لحظته عن تعدد مسالك الاستشفاء المتبعة في المجتمع بتعدد الطبقات والثقافات. فالثقافة المجتمعية المحيطة لم تعفِ ـ حتى - المرض من فرض بصماتها التي تتجلى في
2015-09-30

بسمة فؤاد

باحثة من مصر


شارك

يُشْكَل الحديث عن الوعي الصحي في مصر. والعلة في ذلك كثيراً ما تعود لارتفاع معدلات الأُمية، وانحسار قنوات التثقيف الصحي المعتمدة، كما افتقاد ثقافة التعرف على السلوكيات والعادات الصحية لاقتفائها كنمط للحياة، واقتصار تذكرها حال المرض الذي يكشف في لحظته عن تعدد مسالك الاستشفاء المتبعة في المجتمع بتعدد الطبقات والثقافات. فالثقافة المجتمعية المحيطة لم تعفِ ـ حتى - المرض من فرض بصماتها التي تتجلى في سُبل اكتشافه والكشف عنه ومقترحات العلاج.

ألوان الطب

يمثل الطب الشعبي أحد وجوه الثقافة الصحية في مصر، وهو يستمد مادته المختلطة من خبرات العجائز وأصحاب التجارب، بالإضافة للفولكلور الطبي المتوارث لعادات بقيت وغابت أسبابها، وهو مفضل لدى قطاع واسع من المصريين عملاً بالمقولة الشائعة "اسأل مجرب ولا تسأل طبيب"، فيما يتسم الفرع "الديني" منه بلمحة أكثر تخصصية، إذ لا يُقدمه إلا رجال الدين بافتراض إلمامهم بالمادة الدينية في العلاج وإحاطتهم بتأويلاتها، فضلاً عن تبرك المرضى بهم والظن أن الله لن يردّ تضرعهم إليه بطلب الشفاء. ومع ذلك، فإن جمهور هذا النوع من الطب لا يقتصر على المتدينين، وإنما يبدو أن الانتماء لدين ما يُعد شرطاً للاستطباب بوسائله. فلن تجدي بركة الشيخ في علاج "المسيحي"، كما لن تحل بركة القس في علاج "المسلم". بالمقابل، قلما يتصالح الطب العلمي الحديث بوجه عام مع تلك الأنماط العلاجية المنتشرة بالمجتمعات، إذ لا يعتمد منهجه إلا النتائج العملية التي تظفر بها أبحاثه مراراً، والاستعلاء غالباً هو موقفه منها بغض النظر عن أية نتائج تأتي بها مع مريديها، إذ يراها جميعاً لا تستحق إلا أوصاف الخرافة والجهل والشعوذة.

فرائس المرض

برغم استسهال الاستعلاء على كل أشكال الطب المخالفة للطب العلمي الحديث، استناداً إلى تشوش مرجعيتها من ناحية، كما لانهيار السببية أمام الكثير منها، إلا أن ذلك لا يكفي لدحرها، الذي لا يمكن الاتفاق عليه كهدف، "إذ يستمر الطب الشعبي في لعب دور مهم في الرعاية الصحية، وفي كثير من أنحاء العالم يعتبر الشكل المفضل في الرعاية الصحية، ولا يزال صراع التساؤلات بين صانعي القرار السياسي وأصحاب المهن الصحية وعموم الناس حول مدى مأمونية وجودة وتوافر وتطوير مثل هذا النوع من الرعاية الصحية. وبالنظر إلى هذا الانتشار الواسع، نجد فقراً في الأبحاث حول سلامة الطب الشعبي ونجاعته، وهي مسألة شديدة الأهمية"، ذلك بحسب ما ورد في "استراتيجية منظمة الصحة العالمية في الطب الشعبي، 2005".
لذلك يبدو ضرورياً وجود قنوات تربط بين كل مناهج الطب المختلفة، وإنصاف المُجدي منها ليتم ممارسته علانية تحت رقابة ترسم الحدود وتضع الضوابط وتحدد المهام، كما تجرِّم ممارسة أية ألوان من الطب من دون ترخيص وتنشر الوعي بذلك، إذ لا يقع فحسب المريض البسيط أو الجاهل فريسة له بل كثيراً ما يتخفى بعض المتعلمين والمستنيرين أثناء ولوجهم لبعض أوكار الطب الشعبي لغير المختصين، وهم أسرى الضعف والوجع والتشبث بالحياة.

الإعلام والوعي الصحي

يُعوَّل كثيراً على دور الإعلام بوجه عام كوسيلة هامة لنشر الوعي الصحي بين الأفراد، خاصة مع غياب أي قنوات شرعية أخرى محددة للتثقيف الصحي، سواء عبر المدارس أو وحدات الرعاية الصحية التابعة لوزارة الصحة.. ولكن السؤال عن مدى وفاء الإعلام بدوره في هذا الصدد يبقى حاضراً. وفي ذلك كشفت دراسة أجرتها "مؤسسة الصوت الحر" عن "تغطية قضايا الصحة في عينة من الصحف المصرية" خلال نيسان/أبريل 2015، أن المادة الصحافية المهتمة بالصحة خلال فترة الدراسة جاءت غالباً في صورة خبرية، هدفها مجرد الإخبار والإعلام، ثم جاء التثقيف الصحي كهدف تالي من خلال معلومات وصفتها الدراسة بالسطحية، كما أشارت إلى أن العناوين الصحافية كثيراً ما كانت تحمل أكثر مما يأتي به النص: "على سبيل المثال، ذكرت إحدى الصحف - محل الدراسة - في اليوم الأول من وصول فيروس كورونا لمصر، خبراً بعنوان "العدوى وسبل الوقاية"، بينما لم يأت في النص أي معلومة عن سبل الوقاية، بل فقط شرح موجز ـ ومخل - لماهية الفيروس". كذلك أوضحت الدراسة "توضيح دور الحكومة كان أحد أسباب التغطية في المادة الصحية، وكانت الأخبار تهدف إلى تقديم صورة إيجابية لدور الحكومة ممثلة في وزارة الصحة والوزير، فيما خبر واحد فقط جاء سلبي الاتجاه". وجدير بالذكر أن الدراسة شملت بعض الجرائد الورقية ومواقعها الالكترونية أيضاً. ولا يختلف الأمر كثيراً عند الحديث عن الإعلام المرئي، فما زالت صيحات التحذير التي يُطلقها الخبراء تدوي بين الحين والآخر حول عدم صلاحية وعدم ترخيص كثير من الأدوية التي يُعلَن عنها في الفضائيات كحلول سحرية للمشكلات الصحية الملحة مثل السمنة والنشاط الجنسي وخلافه، كما عدم موثوقية كثير من المعلومات المطروحة في برامجها.

هواة التثقيف الصحي

سمح الفراغ الموجود بتمدد الهواة، وكانت صفحات فايسبوك ملجأ جديداً لكثيرٍ منهم، فأصبح هو الآخر مصدراً لبث المعلومات الطبية. وعليه فقد راجت صفحات يُديرها وينظمها أفراد عاديون لا تشملهم مهنة ولا يشفع لهم تخصص، يجمعهم فقط هدف التثقيف الصحي للناس وهم في ذلك يقدمون خلاصة خبرات عامة وقراءات حرة في صورة نصائح للمرضى. كثير من هذه الصفحات يكون متخصصاً باستهداف فئات معينة من المرضى، مثل صفحة "ارتفاع ضغط الدم" و "أصدقاء مرضى الفشل الكلوي" و "أنا سكري" وغيرها، وهي غالباً ما تركز إرشاداتها على الأنماط والعادات الغذائية. وبرغم الدور الإيجابي الذي يمكن أن تقدمه تلك الصفحات، إلا إنها أحياناً تخلط بين التثقيف والتوعية من ناحية، والتشخيص والعلاج من ناحية أخرى. فقد تجد مداخلات ومشاركات تتضمن وصف دواء بعينه أو التحذير من آخر!

دور الطبيب

من جهة أخرى، يندر العثور على الطبيب الذي يتسع صدره لمناقشة مريضه وتوعيته بحالته، قد يدفعه لذلك ضيق وقته أو ضيق صدره أو فقره العلمي، وهو يعتمد على رهبة المريض من مناقشته في الوصفات الفولكلورية التي يتلقاها من الأهل والجيران، حيث ردها سهل حتماً كجهالات متوارثة لا تستحق الوقوف أمامها. إلا أن ما يقرأه المريض على فايسبوك (خاصة إنْ طُعِمت المعلومات المطروحة بأسماء أجنبية، من قبيل نقلاً عن "الدكتور الأميركي فلان أو البريطاني كذا)، يُشعر المريض بموثوقية معلوماته وجدارتها بالعرض على الطبيب. وهذا الأخير غالباً ما يلعن فايسبوك الذي جرّأ المرضى عليه. تُفصِّل د.هالة عصمت (مستشارة بمنظمة الصحة العالمية) بأن "توعية أي إنسان بمرضه الحالي أو باحتمالات مرضه المستقبلي بسبب سلوك غير صحي هو أول وأهم واجبات الطبيب. ولا يصح التعويل على ضعف المستوى المعرفي والثقافي للمريض كحجة لعدم توعيته بحالته، إنما فقط يتحكم ذلك في طريقة الشرح وأسلوب توصيل المعلومة ومحاولة تبسيطها. لكن يبقى - في النهاية - الكشف والتشخيص وأسلوب العلاج قرار الطبيب، والشيء غير المقبول هو أن يُصر مريض على أسلوب علاج معين يخالف ما يراه الطبيب، ويكون في غير مصلحته، لمجرد أن المريض قام بتجميع بعض المعلومات من التلفزيون أو الإنترنت. فالتشخيص والعلاج مسألة تحتاج إلى دراسة طويلة ثم خبرة تُكتسب بطول الممارسة، وليس مجرد قراءة مقال أو أكثر. ثم إن التثقيف الصحي يجب أن يكون مسؤولية المدرسة أولاً، ليس فقط عن طريق تعليم السلوك الصحي، ولكن كذلك بتعليم طرق البحث عن المعلومة بطريقة سليمة. ثم يأتي بعد ذلك دور الإعلام الذي يجب أن يعتمد الأطباء الأكفاء كمصدر للمعلومات وليس الهواة والقراء غير المختصين".
تبقى "الوقاية خير من العلاج" القاعدة الذهبية للحفاظ على الصحة، بينما يُناط بالإعلام تمهيد السبل إليها بنشر الوعي والتثقيف الصحي، وفاءً لدوره وكسباً لجماهيره.. ولكنه يبدو لاهياً بأدوار ومكاسب أخرى.    

للكاتب نفسه