العودة إلى "الاقتصاد العربي" في فلسطين

بمجرد أن مكّن النضال الأخير قضية 1948 من استعادة مركزية الاهتمام، وذلك بمختلف جوانبها السياسية والاجتماعية والجغرافية، فقد باتت فلسطين الكاملة في المرصاد، ليس فقط غزة أو القدس أو رام الله، بل أيضا يافا وحيفا وحتى الشتات.
2021-05-30

رجا الخالدي

باحث في التنمية الاقتصادية الفلسطينية


شارك
| fr en
في أسواق القدس القديمة

تدلل الأحداث التي عصفت بفلسطين، خلال الأسابيع الفائتة أقله، ودون مبالغة، إلى تغيّر كبير في تصور/ منظور الفلسطينيين لآفاق الوحدة والرؤية السياسية الفلسطينية، والمقاومة الفعالة للاحتلال الإسرائيلي، مع ظهور رواية متجددة لمعنى التحرر بين الشباب الفلسطيني، تلقى صدى لدى جيلهم ومسانديهم في أرجاء العالم كافة.

بعد أن ننفض غبار المعركة الأخيرة، ينبغي على النظام السياسي الفلسطيني أن يعيد النظر، ويستقي العبر قبل توجيه دفة المراحل القادمة للمواجهة. وبشكل خاص، فلا يمكن للسياسة الفلسطينية المستقبلية ألّا تستفيد من الطاقة الكامنة والمقدرة على التعبئة الجماهيرية، التي أكدت الأحداث الأخيرة أنها في حيز الممكن. بمجرد أن مكّن النضال الأخير قضية 1948 من استعادة مركزية الاهتمام، وذلك بمختلف جوانبها السياسية والاجتماعية والجغرافية، فقد باتت فلسطين الكاملة في المرصاد، ليس فقط غزة أو القدس أو رام الله، بل أيضاً يافا وحيفا وحتى الشتات.

فقد هزت الأحداث الأخيرة ركيزةً أساسية في الرواية الاستعمارية التي حددت ملامح اقتصاد الشعب الفلسطيني منذ العام 1948، من خلال تقسيمه، لتسود عليه بسيطرتها على الجغرافيا، والموارد، والأسواق ورأس المال، وعبر فرض أنظمة قانونية تميّز بين مختلف المناطق تحت هيمنة السيادة الإسرائيلية. وإلى أن اندلعت الأحداث الأخيرة، كانت هذه السياسة قد حققت نجاحات في عزل ما كان يشكل اقتصاداً عربياً متناغماً ومتصلاً في فلسطين الانتدابية، وكان يشكل في حينها جزءاً من "الاقتصاد الثنائي" للانتداب البريطاني في فلسطين. اليوم تعتمد مكونات هذا الاقتصاد كلها "اعتماداً مفرطاً" على المركز الإسرائيلي. ولكن، الطاقة الكامنة التي تجلت في هذه اللحظة - التي أعادت رسم الصراع السياسي الفلسطيني بعدسة جامعة للفلسطينيين جميعهم - تعني وجود حاجة لا تقل إلحاحاً عن الدوافع السياسية الوطنية، لإعادة التفكير في مجمل الثقل "العربي" في توازن القوى الاقتصادية مقابل اقتصاد إسرائيل.

تبعية اقتصادية عربية فلسطينية للمركز الإسرائيلي

ما زالت معظم الروايات حول ما يمكن تسميته بـ "النظام" الاقتصادي الفلسطيني، تطرح اقتصاداً فلسطينياً واحداً (يقع ضمن حدود الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين في العام 1967)، في مقابل اقتصاد إسرائيلي واحد. لكن على أرض الواقع، تظهر الديناميات التي تحكم العلاقة بين الاقتصاد الشمولي الإسرائيلي – اليهودي المهيمن، والاقتصادات الصغيرة العربية الفلسطينية (أو الأسواق) التي تدور في فلكه. وهي نسخة خاصة بالقرن الواحد والعشرين من نموذج الاقتصاد الوطني، لمتلازمة التبعية بين المركز والمحيط التي اشتهر الاقتصادي راوول بريبيش في تحليلها ضمن نظريات التنمية الدولية، أي العلاقة بين الشمال والجنوب.

ما زالت الحكمة التقليدية تعرّف الاقتصاد الفلسطيني على أنه ذلك الاقتصاد المشرذم تحت ولاية السلطة الوطنية الفلسطينية في الضفة الغربية (حوالي 60 في المئة من أراضيها خاضعة للحكم العسكري الإسرائيلي المباشر)، وثم الاقتصاد الفلسطيني في القدس الشرقية التي ضمتها إسرائيل منذ العام 1967، واقتصاد غزة الذي مزقته الحرب (وزادت حدة تمزقه الآن). وبينما تشكل تلك المناطق المحتلة المختلفة، مجتمعةً، مساحة دولة فلسطينية واحدة، فإنه يفترض تجميع الجزر/المناطق المعزولة بشكل أو بآخر في وحدة اقتصادية واحدة في سياق السيناريو الوردي لحل الدولتين، بحيث تشكل اقتصاداً وطنياً واحداً، يتعايش مع أو إلى جانب اقتصاد إسرائيل. تشكل مثل هذه التصورات مثالاً لما يحدث عندما تُخفي النظريات المضللة حقائق قاسية تستمر وتتصاعد وتيرة خلقها على الأرض منذ ما قبل العام 1948، وهي التقدم المتواصل لمشروع بناء الدولة اليهودية على كافة أراضي فلسطين، مقابل حسر المساحة والأفق المتاحين لبناء دولة عربية في أي مكان كان من فلسطين.

تظهر الديناميات التي تحكم العلاقة بين الاقتصاد الشمولي الإسرائيلي – اليهودي المهيمن، والاقتصادات الصغيرة العربية الفلسطينية (أو الأسواق) التي تدور في فلكه كنسخة خاصة بالقرن الواحد والعشرين من متلازمة التبعية بين المركز والمحيط التي اشتهر الاقتصادي راوول بريبيش في تحليلها ضمن نظريات التنمية الدولية، أي العلاقة بين الشمال والجنوب.

في مفارقة تاريخية غير منصفة، فإن ذلك الجزء المنصوص عليه في قرار التقسيم رقم 181 الصادر عن الأمم المتحدة في العام 1947 بخصوص إنشاء الدولة اليهودية، قد نفّذ بالكامل، وإن كان بمزاج إسرائيل وحلفائها وليس حسب حدود أو مبادئ ذلك القرار. لكن الأفق السياسي لإنشاء دولة عربية فلسطينية بالمسيرة والروح ذاتيهما، وإن كان ضمن حدود أصغر بكثير مما نصت عليه خطة التقسيم، بات منعدماً. المضحك المبكي في هذه الحالة، هو أحد أحكام هذه الخطة المنسية الذي تحول إلى حقيقة على الرغم من عدم وجود اتفاق سياسي بشأنه: في حين أن أرض فلسطين ينبغي تقسيمها إلى دولتين، فإن الاقتصاد العربي – اليهودي الثنائي القائم قبل 1948 يجب ألّا ينقسم. بموجب خطة التقسيم، كان ينبغي على الدولتين إنشاء "اتحاد اقتصادي" صمم في العام 1947 بقصد تحقيق تقدم متبادل ومنافع تنموية بعد استقلال الطرفين.

في واقع الأمر، ومنذ العام 1967 بات القانون الإسرائيلي، وأنظمته وسياساته ومعاييره، يشكل القوة السيادية الاقتصادية التجارية والمالية المهيمنة في كافة أنحاء أراضي الدولة، وكذلك في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وحتى في غزة المعزولة. بقيت الاستثناءات الممنوحة للسلطة الوطنية الفلسطينية في هذا الإطار محدودةً، لا تتخطى الجوانب الإدارية. الاتحاد الاقتصادي ليس مجرد أمر مفروض بحكم الواقع منذ خمسة وعشرين سنة بعد اتفاق أوسلو واتفاق باريس الاقتصادي، بل نجح أيضاً في خلق "مرحلة انتقالية" تشارك كافة الأطراف في إبقائها سارية المفعول. بوجود مستوطنات إسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، مدمجة بالكامل في الاقتصاد الإسرائيلي اليهودي، فإن الاتحاد الاقتصادي الفلسطيني – الإسرائيلي بات اليوم قائماً بحكم القانون، من المنظور الإسرائيلي على الأقل، على جانبي "الخط الأخضر" لحدود الهدنة في العام 1949، وإن تمت إزالته وإهماله بشكل كبير الآن.

بات الواقع على الأرض والنظام السياسي/القانوني يدحض كلّاً من المفهوم الانتدابي لـ "ثنائية الاقتصاد العربي – اليهودي" اليوم، وترنيمة عملية السلام بخصوص "دولتين واقتصادين لشعبين". لكن تركيزنا على الاقتصاد الفلسطيني في الأراضي المحتلة و"علاقته" بإسرائيل، يتغاضى عن أمر آخر لا يقل أهميةً عن النظام الاقتصادي الفلسطيني الحقيقي. فعدا فلسطينيي المنفى الذين يزيد عددهم على 7 ملايين نسمة، فإن الفلسطينيين سكان الضفة الغربية وغزة ليسوا العرب الوحيدين الذين يعيشون ضمن هذا الاتحاد الاقتصادي الفلسطيني–الإسرائيلي، كما أن المخططين لأرض إسرائيل لا يعتبرون تلك الأراضي المحتلة المناطق الوحيدة للتواجد العربي السكاني والاقتصادي في خضم مشروعهم الاستعماري. أي أن الفلسطينيين العرب الذين بقوا في قراهم ضمن خطوط الهدنة في العام 1949، وأصبحوا مواطنين إسرائيليين، يبلغ تعدادهم اليوم 1,7 مليون نسمة، أو ما يعادل 20 في المئة من سكان إسرائيل. وعلى كافة الصعد، فإن هذا الحيز الفلسطيني في إسرائيل يتكون أيضاً من جزء (عربي) محروم ومقموع وتابع لـ"الاقتصاد الثنائي" السابق لفلسطين.

الصورة الكبرى: "النظام الاقتصادي" الفلسطيني الحقيقي

لتعزيز الموقف في الصراع من أجل التحرر الوطني للانعتاق من تبعية المحيط للمركز، ينبغي على أي استراتيجية مستقبلية لتوظيف الاقتصاد أن تشتمل على هذا الجزء غير المحسوب حسابه لما يسمى بـ "الاقتصاد العربي" في إسرائيل. ربما تظل "الواقعية" السياسية، واللعب بحسب المرجعيات القائمة، يمليان حدوداً لاقتصاد فرضي لدولة فلسطينية مفترضة في الضفة الغربية وقطاع غزة خلال المستقبل القريب. مع ذلك، فإن واقع "الاقتصاد العربي" الصامد، وإن كان مشتتاً، لفلسطين المحتلة العام 1948، وتجربة إعادة اللُّحمة الفلسطينية سياسياً واجتماعياً واقتصادياً منذ ذلك الحين على الرغم من الحدود والشتات واختلاف الوضع القانوني، مجتمعة تملي قصة مختلفة.

يُفترض تجميع المناطق المعزولة في وحدة اقتصادية في سياق السيناريو الوردي لحل الدولتين، لتشكّل اقتصاداً وطنياً واحداً، يتعايش مع اقتصاد إسرائيل. تشكّل مثل هذه التصورات مثالاً لما يحدث عندما تُخفي النظريات المضللة حقائق قاسية تستمر وتتصاعد منذ ما قبل العام 1948: التقدم المتواصل لمشروع بناء الدولة اليهودية على كافة أراضي فلسطين، مقابل حسر المساحة والأفق المتاحين لبناء دولة عربية في أي مكان من فلسطين.

تؤكد روايتي البديلة على بقاء فعلي لـ "اقتصاد عربي" ضمن أرض فلسطين التاريخية. كذلك يتعايش فعلاً نموذجان اقتصاديان متمايزان في هذه الأراضي، ولكن دون أي ملامح تكافؤ بينهما، أو إمكانية أن تتوقف عن الاتساع الفجوةُ التنموية بينهما. فهناك اقتصاد يهودي لدولة إسرائيل، مهيمن ومعولَم، ويعتمد على الصناعة والمال والتكنولوجيا. بينما هناك أيضاً "اقتصاد إقليمي عربي" صمد من الجليل حتى النقب ضمن الغلاف الاقتصادي/الأمني/الاستعماري الإسرائيلي. وبطبيعة الحال، فإن الاستعمار الصهيوني هو مَن حال دون متابعة مسيرة تطوره منذ ما قبل العام 1948، بينما شوّه الواقع الجيو - سياسي والعولمة هيكليته وقوض من احتمال استقلاله. ولكن هذا الاقتصاد الفلسطيني هو الحقيقة على الأرض. فعلياً، "الاقتصاد العربي الفلسطيني" اليوم ليس متجانساً، وبالكاد يتواصل جغرافياً، كما أنه لا يشكل وحدةً واحدة مترابطة، على شاكلة نظيره اليهودي الإسرائيلي. عليه، لا يمكن أن يكون الطرف الآخر في النموذج الثنائي، "المرحوم" والمضلِّل، أو حتى طرفاً معترفاً به في اتحاد اقتصادي. فهو لا يعد اقتصاداً بعد زراعي أو في طور التصنيع، وليس اقتصاد خدمات قيمة أو اقتصاد تصدير. بل إن عملية التحول البنيوي الاقتصادي المعتادة مشوهةٌ، أو عالقة في شبكة المصالح المرتبطة في استدامة بناء الدولة الإسرائيلية والمشروع الاستعماري، وتحت وطأة الآثار المدمرة للتوسع المفرط الرأسمالي المحلي والإقليمي والعالمي. ولكن تلك الصدمات التي عصفت بالمحيط الفلسطيني بفعل المواجهة الاستعمارية، والتعرض غير المتكافئ ودون حماية، لتحرير الاقتصاد والخصخصة والعولمة والأمولة، ظلت تعيق إمكانية النمو الاقتصادي الفلسطيني.

من هذا المنطلق، يمكن أن ننظر للاقتصاد الفلسطيني على أنه مكونٌ من أقاليم أو مناطق تركيز عربية مختلفة متباعدة ضمن الاتحاد الاقتصادي المفروض عنوة، وغير المتكافئ مع اقتصاد إسرائيل (اليهودي). وعلى الرغم من الاستنزاف أو التدهور الاقتصادي، فقد قاومت هذه الأقاليم الاقتصادية بوسائل قانونية وديموغرافية وسياسية المنطق الإقصائي المطلق للزحف الاستعماري. ها هي أطلال الاقتصاد العربي الأصيل لفلسطين – وهي أربعة، إن لم يكن أكثر - معازل اقتصادية جغرافية غير مترابطة مبعثرة من البحر إلى النهر، كلها تحت سيادة دولة إسرائيل:

1. الضفة الغربية: أحد أشكال نموذج اقتصاد السوق الحر:

a. رام الله – حكم نيوليبرالي دون السيادي.

b. الخليل، المحرك الصناعي لفلسطين.

c. أراضي المنطقة "ج"، تحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية المباشرة.

d. وشمال الضفة الغربية، الممر للجليل العربي في إسرائيل.

2. القدس الشرقية: حكاية من الضم والعزل والفصل عن المحيط.

3. قطاع غزة: حالة نيو ليبرالية إسلامية أجهضت بفعل الحصار والحرب.

4. المناطق العربية في إسرائيل، العمق الداخلي لاقتصاد فلسطين العربي.

يعيش كلٌ من هذه المعازل الاقتصادية مساره الخاص من التبعية أو الاستقلال عن اقتصاد المركز الإسرائيلي (المتروبول)، بعد أن فقد تواصله التاريخي ووحدته الذاتية، والتي كان من شأن استمرارها المحافظة على سيناريو الاقتصاد الثنائي ضمن اتحاد اقتصادي متوازن. كلٌّ من هذه المعازل يعد هامشياً بالنسبة للمركز اليهودي، رغم أنها ما زالت ذات فائدة للاقتصاد الإسرائيلي فيما يتعلق باستخراج الموارد على عدة مستويات. كل معزل يعد هامشياً بالعلاقة مع اقتصادات المنطقة العربية والعالم. كل معزل مرتبط بالاقتصاد اليهودي/الإسرائيلي لغايات التجارة الخارجية والنشاط المالي وما يتعلق بالتواصل مع الخارج. كما أن كل معزل فُصل عن غيره بالقوة بعد العام 1948، وأعيد تواصلها في العام 1967 ثم توحدت تماماً في العام 1994، وتبع ذلك فصلها مجدداً منذ العام 2000 و2007، ليعود تواصل بعضها خلال السنوات الأخيرة. تشكل هذه المناطق مجتمعةً اليوم نحو 12 في المئة من مجمل الدخل القومي المتولد ضمن فلك الاقتصاد اليهودي الإسرائيلي، مقارنةً مع أكثر من 40 في المئة قبل العام 1948. هذا هو واقع "غياب النظام" الاقتصادي الفلسطيني في فلسطين اليوم، سواء على الخريطة أو في عالم صنع السياسات. وكما اعتبر المخططون الإسرائيليون حتى تسعينيات القرن الماضي الضفة الغربية وقطاع غزة سوقاً مربحاً خاضعاً لمصالح إسرائيل الاقتصادية والأمنية القومية، فإن ساستهم وخبراءهم اليوم يرون أن استيعاب الاقتصاد العربي والقوى العاملة العربية في إسرائيل ضرورةٌ استراتيجية لتوليد النمو الاقتصادي الإسرائيلي القادم.

أي اقتصاد فلسطيني لأي دولة؟

من بين إخفاقات الأكاديميين وخبراء السياسة بشأن الاقتصاد الفلسطيني، بقدر يفوق إخفاقهم في استمرار تبني وهم بقاء "الاقتصاد الثنائي" النظري، كانت سهولة انخراطهم في مشاريع "التخطيط" خلال العقدين الماضيين لممارسة سيادة دولة فلسطينية ما زالت قيد الإنشاء. استند هؤلاء أساساً إلى "فرضيات" أن إسرائيل كانت فعلاً هي الأخرى تخطط لهذا "اليوم التالي". ولكن يبدو أن الأمر ليس كذلك على الإطلاق.

خريطة فلسطين

تتشارك كافة أكوام المخططات والمشاريع والخطط والنماذج والاتفاقيات الصورية والقوانين وسياسات التنمية والاستراتيجيات المصممة والمنشورة منذ أوسلو لاقتصاد "الدولة الفلسطينية المستقلة" بسمات ثلاث على الأقل:

• لم تتمكن أي منها من تقريب الشعب الفلسطيني ولو خطوة واحدة نحو الاستقلال.

• العديد منها يستند إلى تفسير مشكوك به للنظريات الاقتصادية، وحدود بلا معنى، بالإضافة إلى فرضيات سياسية طوباوية.

• لم تنظر السياسات والمخططات الإسرائيلية لأي منها ولو بنظرة جانبية.

لتعزيز الموقف في الصراع من أجل التحرر الوطني للانعتاق من تبعية المحيط للمركز، ينبغي على أي استراتيجية مستقبلية لتوظيف الاقتصاد أن تشتمل على هذا الجزء غير المحسوب حسابه لما يسمى بـ "الاقتصاد العربي" في إسرائيل.

تلك هي الحقائق القاسية التي ينبغي استيعابها وقياس تبعاتها عند التفكير بكيفية التخطيط لاقتصاد فلسطيني ينسجم مع الأهداف السياسية الوطنية، ويحافظ على تماسكه وامتداده الفعلي في جميع أنحاء البلاد، وقدرته على تحمل الصدمات والضغوط الخارجية، وكذلك على الاستجابة لاحتياجات الشعب الفلسطيني التنموية.

لن يُزال بفعل قوى السوق وحدها، ما تجلى من مسار تفتت المناطق العربية غير المتواصلة لصالح الوحدة الاقتصادية الفلسطينية ضمن الاتحاد الاقتصادي الإسرائيلي الأوسع. العوائق السياسية التي تعطل تنفيذ أجندة التنمية الاقتصادية الجامعة لكل الفلسطينيين بارزةٌ. فالمعركة الأخيرة ليست سوى إشارة عن الطريق للمضي قدماً، والانقسام السياسي الداخلي الفلسطيني ما زال متأججاً. ومع تجدد المواجهات في القدس العربية، تبين أن صمود الاقتصاد المحلي بحاجة للمحافظة على تدفق المتسوقين الفلسطينيين القادمين من إسرائيل، كما أن التبادل الاقتصادي العابر للحدود بين الضفة الغربية والفلسطينيين من إسرائيل، والمقدرة قيمته بنحو مليار دولار سنوياً، يتأرجح بشكل كبير تحت رحمة الإجراءات الأمنية الإسرائيلية.

حتى في غياب مثل هذه الصدمات الخارجية، فإن القنوات المختلفة للتبادل، غير المتكافئ والتابع، بين المناطق العربية والمركز الاقنصادي الإسرائيلي، ليست موجهةً نحو إحداث نمو مستدام ورفاه حقيقي أو مكاسب تنموية للمناطق الفلسطينية المعزولة والأضعف. وعليه، يمكن أن يكون أحد الاستنتاجات أنه في ظل تعثر المسار السياسي وشح المكاسب، أو المواجهات والعقوبات الاقتصادية الجماعية المدمرة، فإن نموذج "الضم دون دمج "، الذي يميز العلاقات بين الفلسطينيين في إسرائيل والاقتصاد الإسرائيلي، سوف يتعمق ويسري بنيوياً لا محالة على كافة المناطق الاقتصادية الفلسطينية الخاضعة للسيادة الإسرائيلية.

في ظل مثل هذه الآفاق، لا يمكن للمقاومة الاقتصادية الأصيلة للسكان العرب الفلسطينيين مواجهة تهويد الأرض أو صهينة نظام الحكم بشكل مستدام ومنظم، طالما أن الانقسام السياسي يقوض من إمكانية الفعل الجماهيري الموحد والمنسق في كافة أرجاء فلسطين. من هنا، فقد أحيت الأحداث الأخيرة آمالاً واقعيةً بأن من شأن الوحدة السياسية توليد وحدة اقتصادية.

حتى العام 2021، طرحت رواية السلام الاقتصادي وعقيدة "تحسين جودة الحياة" بصفتها الخيار الوحيد الباقي أمام العرب الفلسطينيين سواء في الأراضي المحتلة أو داخل إسرائيل، خاصةً خلال عصر ترامب - نتنياهو الكارثي. استطاع توازن القوى التجاري والمالي والرأسمالي، الذي لم يتم تحديه حتى الآن، خلق روابط وأسواق عابرة للدول بينما تَشوّش مفهوم ومصالح "الأمن القومي الاقتصادي" الفلسطيني. في هذا السيناريو السابق للعام 2021، أصبحت المصالح المشتركة والتعاون التجاري الفلسطيني – الإسرائيلي القاعدةَ، وليس الاستثناء.

مثل هذه النتيجة ليست بعيدة الاحتمال كما ربما نرغب في أن نصدق. في الواقع، فإن هذا التعايش في ظل السيادة الاستعمارية نلمسه كل يوم في كثير من نقاط الاتصال الاقتصادي الإسرائيلي – الفلسطيني. واقع التشابك الاقتصادي الفلسطيني الإسرائيلي متربعٌ على المشهد وعميق الامتداد، ولن ينهيه سوى ثورة في العقول، وفي الشوارع، تؤسس للفصل الكامل عن التبعية الاقتصادية الاستعمارية، أو على الأقل للندية. هكذا، فإن آفاق بروز اقتصادين مستقلين ومنفصلين باتت اليوم حتى أبعد منالاً من آفاق دولتين منفصلتين ومستقلتين.

اعتبر المخططون الإسرائيليون حتى تسعينيات القرن الماضي الضفة الغربية وقطاع غزة سوقاً مربحاً خاضعاً لمصالح اسرائيل الاقتصادية والأمنية القومية، فإن ساستهم وخبرائهم اليوم يرون أن استيعاب الاقتصاد العربي والقوى العاملة العربية في إسرائيل ضرورة استراتيجية لتوليد النمو الاقتصادي الإسرائيلي القادم. 

مع هذا، فإن الفترة الحالية تشهد نشوء حراك شعبي فلسطيني جديد، مقاوِم للحكم الاستعماري الصهيوني، ومستند لأجندة مشتركة للحقوق المدنية والإنسانية والثقافية والاقتصادية المتساوية لجميع العرب الفلسطينيين على شاكلة ما يتمتع به اليهود الإسرائيليون. بينت هذه الانتفاضة فجأةً أننا قد نحتاج لنهضة فكرية موازية، بإعادة التفكير في عقود من الحكمة التقليدية الاقتصادية السياسية. ومع استنفاذ الاستراتيجية الفلسطينية، والتزامها بعملية سلام ترمي إلى حل دولتين دون تحقيق هذه الدولة، ومع التجربة المشتركة وطموحات مختلف أجزاء الشعب الفلسطيني الخاضعة لدرجات متمايزة من السيطرة الاستعمارية الإسرائيلية، تظهر ظروف مهيئة جداً لنضال جديد. هذا النضال قد يبعد إنشاء الدولة الفلسطينية المستقلة عن دائرة التركيز، ليصبح الهدف الأهم العدالة الاجتماعية والحقوق السياسية والكرامة الإنسانية: استراتيجية مقاومة اقتصادية عربية فلسطينية تستند إلى أرض واحدة، ودولة واحدة لشعبين واقتصادين.

إذا عاود اقتصاد عربي النشوء في فلسطين من خلال جمع أطرافه من المحيط الذي تم حجزه فيه طوال 70 سنةً، فإن علينا استسقاء الدروس لمقاومة التبعية، وتعزيز الانعتاق من الاستعمار وتبني استراتيجيات تنموية حققت نجاحاً عند تطبيقها في مناطق أخرى من العالم. تعج الاحتياجات التي ينبغي تلبيتها على المدى الآني. بدايةً ينبغي على المخططين وواضعي السياسات الاقتصادية في السلطة الوطنية الفلسطينية، والمستثمرين، أن يدفعوا باتجاه احتساب الطاقة الاقتصادية العربية الكاملة لفلسطين عند تصميم وتنفيذ مشاريع التنمية.

يساهم الفلسطينيون داخل إسرائيل بشرائهم السلع والخدمات في ضخ النقد في اقتصادات الضفة الغربية والقدس، وهذا أمر ينبغي دعمه ومأسسته. ويمكن لاتحاد المستثمرين والعاملين في قطاع السياحة في القدس والناصرة وبيت لحم وأريحا تعظيم العروض السياحية الفلسطينية. كما يمكن توظيف المدخرات العربية الفلسطينية الراكدة في إسرائيل، في الإنتاج، عبر استثمارات مشتركة في التطوير العقاري والمواصلات واللوجستيات والاقتصاد الرقمي في المناطق الخاضعة لولاية السلطة الوطنية. كما يمكن لأصحاب العمل العرب في إسرائيل أن يوظفوا عمالةً فلسطينية من الضفة الغربية للعمل في الاقتصاد المحلي، في حين يمكن للرأسمال البشري الفلسطيني داخل إسرائيل أن يملأ بعض الفجوات في سوق العمل في الضفة الغربية. كذلك الصناعات الخفيفة الفلسطينية في الضفة الغربية (الغذاء والأثاث والألمنيوم) حققت حصةً متنامية في الأسواق المحلية، وهي قابلة للتصدير في الأسواق العربية داخل إسرائيل كبديل عن المنتجات الإسرائيلية.

مع تجدد المواجهات في القدس العربية، تبين أن صمود الاقتصاد المحلي بحاجة للمحافظة على تدفق المتسوقين الفلسطينيين القادمين من إسرائيل، كما أن التبادل الاقتصادي العابر للحدود بين الضفة الغربية والفلسطينيين من إسرائيل، والمقدرة قيمته بنحو مليار دولار سنويا، يتأرجح بشكل كبير تحت رحمة الإجراءات الأمنية الإسرائيلية. 

كافة هذه المسارات الجديدة للتعاون التجاري والمالي الفلسطيني ضمن الاتحاد الاقتصادي الإسرائيلي قابلةٌ للتنفيذ، ومربحةٌ ومجدية مالياً. كما أنها ممكنةٌ من الناحية القانونية. في الواقع، أسهم التعنّت الإسرائيلي وعنصرية وحتمية مشروعه الاستعماري، في توحيد هذه التجمعات الفلسطينية المبعثرة في لحظة مشتركة من الهوية والنضال، بغض النظر عن الأيديولوجية السياسية والجغرافيا أو الدين أو الطبقة الاجتماعية. نادراً ما توفرت الظروف المادية للحمة أبناء فلسطين في حيز واحد ووقت واحد ومن أجل غاية واحدة. كما تعكس الظروف الراهنة تواجداً اقتصادياً لا يمكن لإسرائيل أن تتغاضى عنه، كما تكشف الروابط العضوية بين الفلسطينيين والتي لم تتحلل بعد هذه السنين الطويلة من انقطاعهم عن بعضهم البعض. 

مقالات من فلسطين

إرهاب المستوطنين في الضفة الغربية تحوّل إلى "روتين يومي"... استعراض عام لتنظيمات المستوطنين العنيفة!

2024-04-18

يستعرض هذا التقرير إرهاب المستوطنين، ومنظماتهم العنيفة، وبنيتهم التنظيمية، ويخلص إلى أن هذا الإرهاب تطور من مجرد أعمال ترتكبها مجموعات "عمل سري" في الثمانينيات، إلى "ثقافة شعبية" يعتنقها معظم شبان...

غزة القرن التاسع عشر: بين الحقيقة الفلسطينية والتضليل الصهيوني

شهادة الكاتب الروسي ألكسي سوفورين الذي زار غزة عام 1889: "تسكن في فلسطين قبيلتان مختلفتان تماماً من حيث أسلوب الحياة: الفلاحون المستقرون والبدو المتجوّلون بين قراها. الفلاحون هنا هم المزارعون....

للكاتب نفسه