رمضان في سوريا: "وفرة المعنى" في ما تبقى من حياة!

في حلب ومدن أخرى، كان مشهد توزيع الوجبات الغذائية ـ المطبوخة والمعبأة بكامل الاحترام - عند توقيت اﻹفطار الرمضاني في الشوارع، وعلى إشارات المرور، وفي الحدائق.. من الممارسات التي يتنافس عليها المقتدرون وأصحاب المال، دون ذكر ﻷسمائهم في معظم الحالات. وكان مشهداً شائعاً ومنتشراً... وهو لم يعد موجوداً.
2021-05-23

كمال شاهين

كاتب وصحافي من سوريا


شارك
في اسواق حلب القديمة قبل الحرب

في حلب، المدينة الصناعية والتجارية العريقة في سوريا، ما إن يطلق "الطوب" (المدفع) أوّل قذيفة رمزية إيذاناً بأنّ اليوم التالي سيكون أوّل يوم في شهر رمضان، شهر الصوم عند المسلمين، حتى يُخرج تجار خان "العلبية" الشهير بتجارة الخيوط - تصديراً واستيراداً وصناعةً - سجلاً مخصصاً لشهر رمضان تحديداً، يضعون فيه أرقام مبالغ الصدقات التي سيقدّمونها للعائلات "المستورة". ليس في السجل أسماء لهذه العائلات، إلا ما كان منها على مستحّق ما يسمّى "صدقة جارية طوال العام".

وفي حلب أيضاً ومدن أخرى، كان مشهد توزيع الوجبات الغذائية ـ المطبوخة والمعبأة بكامل الاحترام - عند توقيت اﻹفطار الرمضاني في الشوارع، وعلى إشارات المرور، وفي الحدائق، من الممارسات التي يتنافس عليها المقتدرون وأصحاب المال، ودون ذكر ﻷسمائهم في معظم الحالات. وكان مشهداً شائعاً ومنتشراً.

هذه الممارسة الشائعة في سنوات ما قبل الحرب الحالية في عديد المدن السورية، والعربية واﻹسلامية عموماً، يعود عمرها إلى قرون خلت. نشأت بالتوازي مع منظومة الزكاة المفروضة على كل مسلم قادر على مساعدة الفقراء والمحتاجين. وكان الهدف منها، وما زال، تعزيز الارتباط الاجتماعي بين فئات هذه المجتمعات، سواء كانت مسلمة الديانة أو غير ذلك. وكما هو الحال في العديد من البلدان ذات الغالبية المسلمة، تصبح ممارسة الصدقات والزكاة أكثر انتشاراً في المجتمع في شهر رمضان، إلى جانب خطابات الثواب المعنوي المصاحبة (الثواب) والبركة، والكرم (خير).

تختلف الصدقة عن الزكاة في أنها ليست مفروضة، بل يصحّ إخراجها من كل ما يمكن الانتفاع به وفي أي وقت يشاء فيه صاحبها، ومصارفها غير محدودة ولا مخصوصة، ويمكن إعطاؤها لغير المسلمين (وغير المؤمنين) خلافاً للزكاة. وتختلف الزكاة عن الصدقة في قيمة الأجر الذي "يكتب عند الله مضاعفاً عشرات ومئات المرّات"، وفي أنها محبّذة ومرغوبة وفق النصوص الدينية والفقهية التي تدعو لممارستها طوال العام.

لكن ملاحظةً طفيفة لمنظومة الصدقات والهبات في المجتمع السوري توضح أنّها تغيرت في العقد الأخير، وأنها بفعل الحرب وعوامل مترافقة معها، خضعت لتحوّل في آليات عملها، وفي طرق وصولها إلى الناس. وقد حدث هذا في سياق الحرب وقلّة الأعمال وتوقّف عدد كبير من دورات الاقتصاد ضمن المدن، أساس منظومة الصدقات، وهو العامل الرئيسي الذي أخرج عدداً كبيراً من "مشايخ كار" (الصناعات الصغيرة) من سوق العمل، مع ما ترك ذلك من أثر اقتصادي واجتماعي على المجتمع.

الصدقات: البعد المفترض وذاك الفعلي

ينظر العديد من الباحثين إلى مفهوم الصدقات الإسلامي على أنه يرتكز على منطق "المكافأة" التي ينالها المتصدّق من عمله، عبر زيادة الإقبال على أعماله التجارية من قبل مجتمع يرى فيه نموذجاً للتاجر الصالح والذكي أيضاً. وسمة "التاجر الصالح" تحديداً، موجودة في أدبيات التراث اﻹسلامي بوصفها قيمةً مرغوبة في التعاملات الاقتصادية والمجتمعية، وهذا يتفق مع تذهب إليه الحوكمة الليبرالية الحديثة (مبادئ السوق الليبرالية الرأسمالية) التي تعزز العقلانية القائمة في السوق لتعظيم الربح أو المكافأة باعتبارها نموذجاً للعمل الاجتماعي.

تختلف الصدقة عن الزكاة في أنها ليست مفروضة، بل يصحّ إخراجها من كل ما يمكن الانتفاع به وفي أي وقت يشاء فيه صاحبها، ومصارفها غير محدودة ولا مخصوصة، ويمكن إعطاؤها لغير المسلمين (وغير المؤمنين) خلافاً للزكاة.

لكن هذا التشابك بين اﻹسلام والليبرالية، وفق التحليلات المتداولة، ينطبق بشكل ضئيل على المشهد الحلبي أو السوري عموماً، وكذلك على المشهد اﻷوسع في العالم اﻹسلامي. فغالباً ما يكون فعل الصدقة منبثقاً من رؤية أقلّ إيماناً وقناعةً بإمكانية "تعظيم المكافأة" مادّياً ، وذلك من منطق معروف ومنتشر هو أنّ الرزق قسمةٌ من الله. و"الرزق على الله"، بقدر ما يبدو مفهوماً قدرياً يتناقض مع النظريات الحديثة في الاقتصاد والسياسة لجهة التحفيز على العمل والتطوير وغيرها، ويمثّل "استكانة" لمنطق التواكل والقعود عن السعي، إلا أنه يعلو عن هذه التحفيزات في المجتمع، ﻷسباب ترتبط بمعنى الوجود في حدّ ذاته، ومنطق السعي في الدنيا لعمارها دون الغرق في تكديس اﻷموال والممتلكات. وهذا المنطق ليس دينياً صرفاً، على الرغم من أنّ الدين يلعب دوراً في تكريسه بوصفه قيمة مثالية عليا.

مرسلو الصدقات هم من طبقات متدرجة، من التاجر الصغير، تاجر المفرّق، وصولاً إلى التاجر الكبير (شيخ الكار)، والمتلقون عموم الناس ممن هم بحاجة له، ومعيار الحاجة يختلف بين إنسان وآخر، فقد يكون فقيراً معدماً، وقد يكون غنياً افتقر، وقد يكون شخصاً اضطرته الحاجة الراهنة لهذه الصدقة، أي أنّ هناك مروحة واسعة من المحتاجين لها. وهذا يعني أنّ التفسير الطبقي هنا بقدر ما هو موجود، إلا أنه لا يرتقي إلى مستوى مفهوم الطبقات الاجتماعي لدى الماركسيين الذي تحكمه أدوات اﻹنتاج بين مالك وغير مالك لها.

مقالات ذات صلة

في المتداول الشعبي، أو التصور الشائع، إن التجّار بمختلف درجاتهم، يعمدون إلى دفع هذه الصدقات من خلال الشبكات اﻷخلاقية في المجتمع. والمقصود باﻷخلاقية، هي الشبكات الاجتماعية التي تتولى توزيعها الجماعي وفق معايير محددة لها، دون انتظار ربحية هي اﻷخرى من عملها. يقترب هذا من مفهوم التطوع المجتمعي "الغربي" الذي اشتق وجوده من مفاهيم المجتمع المدني، دون نسيان وجود هذه الشبكات الأخلاقية في غير مناطق من العالم شرقاً وغرباً.

لكنّ ما يميز الشبكات اﻷخلاقية في بلادنا عموماً، اهتمامها بالطريقة التي يتم بها توزيع المكافآت المادية الصرفة، وفي النتائج التي تتحقق عبر هذه الشبكات وضمان تحقيق نوع من كفاف الحاجة المادية واﻷخلاقية في الوقت نفسه. وهنا، تتحدد الجدارة الأخلاقية، والبركة، كقيم يجري تعظيمها، وكصفات، تحدد طبيعة الروابط بين الأشخاص بعضهم ببعض عند تبادلها وتعميمها وتوزيعها، أي تحدد طبيعة الاجتماعي بعيداً عن لغة السوق الاقتصادية.

تساعد هذه الصدقات في تخيّل روابط اجتماعية ذات مغزى حياتي وأخلاقي ومجتمعي، حيث يعتبر التجار أن هؤلاء الذين يأخذون منهم مالاً هم في أحد أشكال العلاقات "شركاء في المال"، مثلما هناك شركاء في التجارة. وهذه الشراكة المفترضة منبثقة من مفاهيم سامية، قد يراها آخرون نوعاً من التحايل النفسي أو الاقتصادي أو الاستغلالي، كما أنّ العلاقة يفترض الاّ تمتد إلى جوانب مصلحية أخرى مثل الانتخابات، وكذلك لا تلزم أي طرف بتقديم خدمة مقابل هذه الصدقة.

من أبرز الحالات التي كانت تظهر فيها قوة "الشبكات اﻷخلاقية"، ما يطلق عليه إفطارات رمضان، التي يقوم بها أشخاص مجهولون أو معروفون في باحات أحد المساجد وأحياناً في الساحات العامة أو الشوارع التي يتم تطهيرها وتنظيفها قبلاً.

لطالما وفّرت هذه الشبكات بعض العبء على الدولة، وسط تجاهل اﻷخيرة لمسوؤلياتها الاجتماعية والاقتصادية، التي كانت قد تخلّت عنها بالتدريج بحكم انتهائها عند الباب الليبرالي قبل بدء سنوات اﻷزمة.

بالوقت نفسه، تحقق هذه العلاقة تعظيم منظور الخلاص الإسلامي الذي يرتكز على البر والعطاء في صورته المثالية، وبدرجة أقل، تعظّم منظور الرخاء بين الناس، وثالثاً، منظور استمرار "النعمة" بعون مجتمعي عبر الدعاء المرافق لهذه الصدقات. "فالرزق"، وهو معنى مواز ومخاتل للقدرة المالية والاقتصادية، "هبة من الخالق يعطيها من يشاء ويمنعها من يشاء" سواء يعطيها كـ "امتحان" لصاحبها أو يمنعها عن آخرين أيضاً كـ امتحان وربما كعقوبة. وفي الحالات كلها، لا يرى مانح الصدقة، ولا متلقيها، أياً من هذه الخطوط الموازية، مكتفين كلاهما في ممارسة اﻹرسال والتلقي وتاركين المعنى والتدبير على الخالق.

من أبرز الحالات التي كانت تظهر فيها قوة الشبكات اﻷخلاقية هذه، ما يطلق عليه إفطارات رمضان، التي يقوم بها أشخاص مجهولون أو معروفون في باحات أحد المساجد وأحياناً في الساحات العامة أو الشوارع التي يتم تطهيرها وتنظيفها قبلاً. وهي حتى وقت قريب كانت عنواناً لكثير من التجمعات في شهر رمضان في المدن السورية، حيث يتم تأمين إفطار لأعداد من اﻷشخاص الصائمين من أهالي المنطقة ومن العابرين وممن يصدف وجودهم في تلك اﻷنحاء. يسبق ذلك اﻹفطار دعوات مرسلة للأماكن المجاورة تخبر اﻵخرين بالحدث دون ذكر اسم صاحب الإفطار في غالب الوقت، وكثيراً ما تزدحم أماكن اﻹفطارات هذه بأعداد كثيرة من الناس، وإذ تقوم فكرة التجمع البشري هذا على مجانية الطعام، وعلى قيام الشخص الداعي للإفطار بتحمل تكاليف ليست هيّنة، إلا أنّها، وقبل أن تستغلها شبكات اﻹسلام السياسي، كانت ممارسة خالصةً من المقتدرين من أصحاب المصالح، كما من آخرين أقل اقتصاداً وثراءً.

تغيرات الشبكة اﻷخلاقية ومنظومة الصدقات السورية

تسببت الحرب السورية في تغييرات متلاحقة وتراكمية في بنية المجتمع السوري ككل، نالت من بنية العائلات نفسها، ومن علاقاتها الداخلية والخارجية، وتسببت في تفكيك بعض منها جغرافياً وزمنياً وفكرياً بالضرورة. وفي بعض الحالات كانت هناك قطيعة سببها اختلاف الموقف السياسي بين مؤيد للنظام السياسي السوري القائم وآخر معارض له، وفي أخرى كان هناك ذهاب بعض اﻷفراد إلى الانتماء إلى مجموعات مسلحة خلافاً لرغبة العائلة نفسها.

هذا التغيير لم يكن الوحيد الذي طال المجتمع، بل امتدّ إلى مجتمعات المدن المحلية ككل، تلك التي نشأت وعاشت تاريخياً ضمن حيز تجاري أو صناعي أو مناطقي حافظَ على العلاقات التداولية بين أطرافها ضمن جغرافيا محدودة لعقود طويلة. أوضح مثال على ذلك مناطق صناعة الصابون التقليدية في حلب، وهذه تمثّل قطاعاً واسعاً من الملاّك والتجار والعمال والمستفيدين. وإلى جوارها هناك قطاعات أخرى من المجتمع اﻷحدث، تلك التي تعمل مثلاً في تجارة الخيوط القطنية، وتقع في حلب في خان "العلبية"، وتمتلك سمات عائلية متوارثة، وهذا النمط لم يختف من الوجود، رغم تغير العلاقات الاقتصادية التي تسببت بها سياسات السلطة الحاكمة في المجتمع عبر عقود طويلة من الفساد، سواء في حلب أو دمشق أو في غيرهما. فلهذه الشركات قوتها الخاصة وشبكاتها التي بقيت محافظةً على وضعها عبر علاقاتها بالجانب الاقتصادي غير المرتبط كلياً بالسلطة، أو حتى عبر العلاقات مع السلطة التي سمحت لها بالمحافظة على أنماط علاقاتها بالمجتمع.

بقيت الشبكات السورية بعيدة بنسبة كبيرة عن التوظيف لصالح اﻹسلام السياسي. ويعود ذلك ليس إلى ضعف حضور اﻹسلام السياسي في هذه المناطق، بل إلى أنّ القائمين على هذه الشبكات، المضبوطة الحدود ضمن مجال مجتمعي معيّن، لم يتركوا مجالاً لهذا الاستخدام بحكم الخوف من السلطة وأجهزة أمنها، أو من نظرة المجتمع نفسه لهذا التدخل غير المرحّب فيه.

قبل أن تندلع الحرب، كانت هذه اﻷماكن التي تغص بالحركة والنشاط، مرتعاً مفضلاً لمن يسمونهم في كل مكان "الشحادين"، وهؤلاء يتنوعون بين صاحب حاجة حقيقي، وآخر مدّعي، وبعضهم اﻵخر لديهم عائلاتهم التي يصرفون عليها. وبالطبع، زادت هذه الشريحة بعد الحرب كثيراً، إذ أنّ آلافاً مؤلّفةً من الناس فقدت أعمالها في المدينة، كما في الريف الذي تدفق بعض سكانه إلى المدن على أمل العثور على عمل أو شيء يسند رمقه.

أبرز المتغيرات التي طرأت على هذه المجتمعات النشيطة اقتصادياً، تهجيرُ جزء كبير من ملّاك المحلات التجارية والمستأجرين والصنّاع والعمّال إلى غير محل لا يملكون فيه أي شيء قد يساعدهم على الحياة. وهذا أدّى إلى توقف الشبكات المانحة للصدقات وقتاً طويلاً، وترك تأثيره على من تبقى في هذه المجتمعات المدمّرة أو المهجّرة، وأدى إلى زيادة الطلب من مصادر أخرى، مثل الجمعيات الخيرية والجمعيات الاجتماعية الجديدة ذات الطابع الخدمي المتعدد، التي نالت دعماً مالياً أو عينياً من الدولة أو من المؤسسات العالمية واﻷمم المتحدة وغيرها من الهيئات المانحة، وقد حاولت أن تقدّم بعضاً مما أمكنها لهؤلاء.

ومع ملاحظة اتساع الشرائح المحتاجة الى حدود كبيرة، لم تعد تميّز الطبقات الاجتماعية. ويمكن ملاحظة ذلك في غير مناطق الصراعات نفسها، حيث أنه من الصحيح أن بعضاً منهم، من الذين تهجّروا قبل اشتداد المعارك قد أخرج معه ما خفّ وزنه وغلا ثمنه، ولكن الموجات التالية لم تتمكن من النجاة بغير ثيابها، وبعض من هذه الموجات تحوّل في مناطق أخرى إلى باحث عن العمل وعن الغذاء وبات هو اﻻخر راغباً في تلقي الصدقات من شبكات أخرى، كانت هذه الشبكات بدورها عرضةً لتغيرات في القيّمين عليها هجرة وارتحالاً وضياعاً.

مصير الشبكات اﻷخلاقية والصدقات بعد الحرب

بعد أن هدأت المعارك في عدة مناطق سورية، واستعادت المدن بعضاً من حياتها الطبيعية، تعرّضت المناطق واﻷحياء التي كانت تقدّم الصدقات وتدير شبكات اجتماعية أخلاقية بمجملها، للتفكيك. فالقائمين عليها ممن خبروا هذا النمط من الصدقات والشبكات اﻷخلاقية والمجتمعية، غادروا الأماكن التقليدية لهذه النشاطات، سواء بحكم تدمير معاملهم ومصانعهم وورشهم الصغيرة، أو لأنها خرجت عن العمل بسبب توقف الدورات الاقتصادية المرتبطة بها، وتوقف وصول المادة الأولية من مناطق أخرى. مثلاً، توقفت تقريباً تجارة الخيوط في مدينة حلب لثلاث سنوات متواصلة بسبب الاشتباكات العسكرية بين شرقي حلب وغربها، وتحوّل حركة العبور بين الشطرين إلى مغامرة غير محسوبة النتائج، كما توقف توريد زيت الزيتون من إدلب ﻷكثر من خمسة أعوام.

 ومع ما يعنيه ذلك من توقف للدورات الاقتصادية، فإنه كان يعني من جانب آخر تفكك المنظومات الاقتصادية المشغّلة لها، ونتج عنها تفكك الشبكات الأخلاقية والمجتمعية بسبب فقدان الأشخاص لقدراتهم المالية والاقتصادية والاجتماعية، عدا عن فقدان مواز ﻹرث كامل من الترتيبات التي كانت تقصد المتلقين، فلم يعد هناك تواصل ممكن ولا طرق متاحة للتواصل الجغرافي أو الاجتماعي.

بقية الشبكات التي تمكنت من استعادة جغرافياتها ونشاطاتها بعد وقت من الهدوء، لم تعد إلى نشاطاتها القديمة إلا نادراً، واتجهت نحو تسليم صدقاتها إلى الجمعيات الخيرية والداعمة. وفي نطاق ضيّق، استعادت بعض الشبكات في المدن التي لم يطالها التدمير، بعضاً من نشاطها عبر شبكات أحدثتها هي، شملت تغيراً كبيراً في طبيعة المتلقين، وهو ما كان في أبرز أشكاله متجهاً صوب المهجّرين الجدد، الذين حلّوا في بعض هذه المناطق التاريخية، وحتى تلك التي وقعت خارج جغرافيات تلك اﻷحياء. نذكر هنا، أنّ هناك العديد من المدارس والمواقع ذات النشاطات الرياضية أو الاجتماعية تحوّلت مساكناً ﻷناس وعوائل، وإليها اتجهت البقية الباقية من منظومة الصدقات في تحوّل طبيعي وإيجابي لإغاثة المزيد من الناس وفق القدرات المتاحة.

إعادة إحياء الشبكات الاجتماعية من قبل المجتمع

لطالما وفّرت هذه الشبكات بعض العبء على الدولة وسط تجاهل اﻷخيرة لمسوؤلياتها الاجتماعية والاقتصادية، التي كانت قد تخلّت عنها بالتدريج بحكم انتهاءها عند الباب الليبرالي قبل بدء سنوات اﻷزمة بقليل. ولم يقتصر العبء على التكاليف السابقة، إذ أنّ أحد أهم أسباب حضور هذه الشبكات يكمن في أنها بوّابة للمجتمع نفسه في علاقته بمكوّناته بعيداً عن استلاب السلطة له. وإذ كان يمكن توظيف هذه الشبكات لصالح اﻹسلام السياسي (كما حصل في مصر)، فإن الشبكات السورية قد بقيت بعيدة بنسبة مقبولة عن هذا التوظيف. ويعود ذلك، ليس إلى ضعف حضور اﻹسلام السياسي في هذه المناطق، بل إلى أنّ القائمين على هذه الشبكات غير المحدودة أو المضبوطة الحدود ضمن مجال مجتمعي معيّن، لم يتركوا مجالاً لهذا الاستخدام بحكم عوامل مرتبطة بالخوف من السلطة وأجهزة أمنها، أو من نظرة المجتمع نفسه لهذا التدخل غير المرحّب فيه.

مقالات ذات صلة

لوحظت عملية إعادة إحياء هذه الشبكات في العديد من المدن ومنها حلب ودمشق، وبدرحات أقل في محافظات أخرى مثل حمص التي كانت مركزاً رئيسياً لها وسط البلاد. ولكن هذه الاستعادة بطيئة، ومحكومة باستعادة المناطق المؤسِّسة والمركزية لنشاطها الاقتصادي، ومن ثم يأتي الاجتماعي، مع الاعتقاد، بأنّها ستكون مختلفة، تتداخل فيها الأشكال التي خلقتها الحرب مع الأشكال القديمة.

في الخلاصة، إنّ التضامن المجتمعي السوري، المديني بالدرجة اﻷولى، ساهم في التخفيف من المأساة السورية ولو بدرجات، مع أنه يمكن القول بشجاعة إنها كبيرة.  

مقالات من سوريا

للكاتب نفسه