كورونا السودان... هل يضر الشاة سلخها بعد ذبحها؟

تسيّد طويلاً بندا الدفاع والأمن ميزانية البلاد التي تخوض حروباً داخلية على أكثر من جبهة، وتجاوزا في بعضها 50 في المئة منها. بينما ظلت الصحة تتذيل الميزانية ولا تتخطى 1 إلى 3 في المئة منها، ما فاقم ندرة الخدمات الصحية في المستشفيات الحكومية، وتوسُّع الاستثمار الخاص في القطاع الصحي، فتحوّلت الخدمة الطبية إلى رفاهية لا تبلغها الغالبية من السكان.
2021-04-25

شمائل النور

كاتبة صحافية من السودان


شارك
| en
حيدر جبار - العراق

تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.

وفاة ثلاثة من مرضى فيروس كورونا في أحد مراكز العزل أمر طبيعي. لكن أن يكون السبب عطلاً في التيار الكهربائي، فهذا مؤشر لانهيار شامل لقطاع صحي. هذا ما حدث في العاصمة السودانية الخرطوم قبيل منتصف نيسان/ أبريل الجاري، إذ أعلن وزير الصحة هذا الحادث بعد تفشي الخبر في مواقع التواصل الاجتماعي بين مصدّق ومكذّب.

يعاني السودان منذ أشهر من نقص حاد في الإمداد الكهربائي، وقد طبقت شركة الكهرباء برمجة قطوعات هي الأقسى في تاريخ السودان منذ عقود، وصلت لعشر ساعات خلال النهار. وعلى الرغم من أن العديد من المؤسسات الصحية لجأت إلى توفير مولدات كهربائية خاصة، إلا أن أزمة الوقود التي يعاني منها السودان هي الأخرى تحول في بعض الأحيان دون استمرار التيار الكهربائي، وقد تحللت جثثٌ في بعض مشارح الخرطوم جراء انقطاع الكهرباء مع ارتفاع درجات الحرارة الذي تجاوز 40 درجة مئوية.

الموجة الأولى: إرباك

ظهرت أول حالة لفيروس كورونا في السودان في آذار/مارس 2020، وامتدت الموجة الأولى حتى آب/أغسطس من العام نفسه. خلال هذه المدة، واجه النظام الصحي في السودان شبح الانهيار الشامل جراء التردي الذي لحق بالقطاع لسنوات طويلة، وجائحة جديدة لم تتدرب الكوادر الطبية على التعامل معها، ولم تكن المؤسسات الصحية جاهزة للاستجابة لها. وإن كانت هناك معضلات حقيقية على مستوى العالم في التعامل مع كوفيد-19 إلا أن الوضع في السودان له خصوصية، إذ أن المنظومة الصحية في البلاد شهدت تردياً متراكماً وصل مرحلة انعدام الأوكسجين وخيوط تقطيب جروح العمليات في المستشفيات. بل بلغ الحال أن تضع سيدة مولودها على قارعة الطريق. هذا ما وثقته صحافة الخرطوم قبل نحو سبعة أعوام.

فطيلة السنوات الماضية، تسيّد بندا الدفاع والأمن ميزانية البلاد التي تخوض حروباً داخلية على أكثر من جبهتين، وتجاوز البندان في بعض الميزانيات 50 في المئة منها. بينما ظلت الصحة تتذيل الميزانية ولا تتجاوز 1 إلى 3 في المئة. وهو الأمر الذي فاقم ندرة أو انعدام الخدمات الصحية في المستشفيات الحكومية، وتوسع على إثر ذلك الاستثمار الخاص في القطاع الصحي، وتحوّلت الخدمة الطبية إلى رفاهية لا يبلغها الغالبية من السكان.

مع أول ظهور لكوفيد 19، مَثَل شبح الموت أمام كل السودانيين. فبعدها بأيام معدودة قرر وزير الصحة السوداني وقتها، أكرم التوم، إغلاق جميع المستشفيات خشية تفشي الفيروس، خاصة وأن الكوادر الطبية لم تتدرب بعد على التعامل معه، ولم تتوفر المعينات، علاوةً على أن المستشفيات غير مستعدة للاستجابة لهذا الوباء الجديد. بالمقابل أحدثت هذه القرارات أضراراً جسيمة لأصحاب الأمراض الأخرى، فتحولت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي إلى محرك بحث عن المستشفيات التي لا تزال تفتح أبوابها، والجميع يسأل، ويستفسر عن مستشفًى يسمح باستقبال المرضى. وبلغ الحال أن بعض المرضى صعدت أرواحهم خلال رحلة البحث عن مستشفًى قبل أن تعود المستشفيات وتزاول عملها المعتاد، وفرضت بعض المستشفيات إجراء فحص كورونا قبل قبول أي مريض، مقابل مبلغ مالي لا يستطيع كل المرضى توفيره. لكن وزارة الصحة لا تملك إحصائيات عن الذين تضرروا من إغلاق المستشفيات من أصحاب الأمراض الأخرى وفقاً لمسؤولة بالوزارة.

مع أول ظهور لكوفيد 19 في آذار/مارس 2020، أغلق وزير الصحة السوداني جميع المستشفيات خشية تفشي الفيروس، باعتبار أن الكوادر الطبية لم تتدرب بعد على التعامل معه، علاوةً على أن المستشفيات غير مستعدة للاستجابة للوباء الجديد. أحدث هذا القرار أضراراً جسيمة لأصحاب الأمراض الأخرى، فتحولت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي إلى محرك بحث عن المستشفيات التي لا تزال تفتح أبوابها.

تقول د. ليلى حمد النيل، وهي مسؤولة في إدارة الطوارئ بوزارة الصحة السودانية، إن الوزارة وضعت خطة شملت كل الجهات ذات الصلة، وشكلت 9 لجان لإدارة الأزمة، ووضعت على رأس كل لجنة مدير إدارة وفقاً لتخصصه. وهذه اللجان مسؤولة عن معالجة الحالات، التوعية والتثقيف، التمويل والتنسيق مع الجهات الأخرى لإدارة الأزمة.

بدأ السودان بـ 44 مركزاً للعزل خلال الموجة الأولى، ليصل عدد مراكز العزل اليوم إلى 80 مركزاً بالخرطوم والولايات. وتقول الطبيبة: "التغطية في الولايات معقولة، لكن الضغط عالٍ في الخرطوم"، ذلك باعتبار أن ثقل الجائحة يقع في الخرطوم، علاوة على تمركز الخدمات الصحية – على علاتها - في العاصمة. وهو اختلال مزمن نتج عنه نزوح واسع من الولايات إلى الخرطوم بحثاً عن تلك الخدمات الأساسية، وعلى رأسها الصحة والتعليم.

وأشار تقرير لخبراء في الحكم المحلي عام 2011 إلى أن 13 ولايةً تعتمد في ميزانيتها على الخرطوم، وبلغت نسبة صرف الخرطوم على الولايات 78 في المئة من الدخل القومي، تذهب 68 في المئة منها مرتبات وأجور، بينما تذهب 4 في المئة لبنود التنمية، وهو الأمر الذي ترك أثراً واضحاً في شح أو انعدام الخدمات. وهناك ولايات سودانية تنعدم فيها الخدمة الطبية المتخصصة مثل ولايتي شرق ووسط دارفور، بينما تخلو ولايات عديدة من اختصاصيي الأمراض النفسية والعصبية مثل الشمالية، نهر النيل، سنار، النيل الأزرق، شمال كردفان وجنوب كردفان...

الدعم الخارجي يحاول إنقاذ ما يُمكن إنقاذه

تجاوز عدد حالات الإصابة في السودان أكثر من 31 ألف شخص، وتجاوز عدد الوفيات ألفي حالة. وطالت الجائحة جميع ولايات السودان البالغ عددها 18 ولاية، بينما تضررت بشكل أكبر ولايات الخرطوم، الجزيرة والقضارف. وبالإمعان في الوضع الصحي قبل الجائحة، فإن ما يقرب من 81 في المئة من السكان لا يستطيعون الوصول إلى مركز صحي عامل إلا على بعد أكثر من ساعتين من منازلهم، وفقاً لتقارير منظمة الصحة العالمية. وفاقم الوضع قرار إغلاق المستشفيات مع بداية الموجة الأولى، وتشير تقارير منظمة الصحة العالمية إلى توفر 184 سريراً فقط في وحدات العناية المركزة، 160 منها تحتوي على أجهزة تنفس اصطناعي، وتوفر أربعة أطباء فقط في وحدة العناية المركزة، ثلاثة منهم في الخرطوم، وواحد في ولاية الجزيرة التي تقع وسط السودان.. وهؤلاء هم مستعدون للتعامل مع المرضى المصابين بالفيروس.

تلقى نحو 1600 من العاملين الصحيين وفرق الاستجابة السريعة تدريبات. ويبلغ عدد الأطباء العموميين في السودان 3508 أطباء، 1180 منهم في الخرطوم. فيما يبلغ عدد الاختصاصيين 1941 طبيباً، 860 منهم في الخرطوم، ويبلغ عدد المستشفيات في السودان 534 مشفى وفقاً للتقرير الإحصائي السنوي لعام 2019 - آخر تقرير - الذي يصدر من المرصد الصحي. وقدر التقرير عدد الأسِرة بـ 32745 سريراً في جميع أنحاء السودان، ويبلغ عدد سكان السودان 40.197.974 مليون نسمة وفقاً للجهاز المركزي للإحصاء استناداً إلى آخر تعداد سكاني جرى عام 2008.

تقول مسؤولة قسم الاستجابة بوزارة الصحة السودانية إن هناك مراكز عزل تم تأسيسها من الصفر لمجابهة الجائحة، وهناك بعض المراكز تم تأهيلها وإعدادها على أن تتحول لمراكز عزل. وتجدر الإشارة أيضاً إلى توقف مراكز عزل لحاجتها لإعادة التأهيل في خدمات المياه والكهرباء. وتشير المسؤولة بوزارة الصحة إلى أن الدعم المالي في بداية الجائحة كان حكومياً في غالبيته، وبنسبة تجاوزت الـ 70 في المئة، قبل أن تتدخل المنظمات الدولية مع تزايد حالات الإصابة، وتوفّر دعماً كبيراً. وأقر السودان ميزانية 2020 بعجز كلي بلغ نحو 1.62 مليار دولار. وخصصت الدولة للرعاية الصحية 9 في المئة من الميزانية، أو نحو 100 مليار جنيه (وقتها كان الدولار يساوي 50 جنيهاً).

يتوفر 184 سريراً فقط في وحدات العناية المركزة، 160 منها تحتوي على أجهزة تنفس اصطناعي، ويتوفر أربعة أطباء فقط في وحدة العناية المركزة، ثلاثة منهم في الخرطوم، وواحد في ولاية الجزيرة وسط السودان.. وهؤلاء هم المستعدون للتعامل مع المرضى المصابين بالفيروس. 

بدأ السودان بـ 44 مركزاً للعزل خلال الموجة الأولى، ليصل عددها اليوم إلى 80 مركزاً بالخرطوم والولايات. وتتمركز الخدمات الصحية – على علاتها - في العاصمة، وهو اختلال مزمن نتج عنه نزوح واسع من الولايات إلى الخرطوم بحثاً عن تلك الخدمات الأساسية، وعلى رأسها الصحة والتعليم.

ووفقا لتقرير أداء داخل وزارة الصحة، فإن الوزارة خاطبت وزارة المالية للتصديق بمبلغ 400 مليار جنيه لتأهيل المستشفيات، لكن لم يصل المبلغ المطلوب لحساب الوزارة. واضطرت وزارة الصحة لتعطيل عدد من المشاريع بسبب الجائحة، وحوّلت بعض الميزانيات الخاصة ببرامج محددة لتمويل إدارة أزمة كورونا.

ولا تميل الحكومة في السودان إلى إتاحة معلومات وأرقام التمويل والدعم المالي، وأوجه صرفها بتفصيل، لكن في وقت سابق قالت الوزارة إنها تعاني نقصاً يصل 70 في المئة من ميزانيتها. ودعمت بعض الدول السودان لتجاوز أزمة كورونا، من بينها تركيا والإمارات ومصر، وأعلنت منظمة الصحة العالمية أواخر العام 2020 دعم السودان بمليون دولار. كما دعم الاتحاد الأوروبي السودان بـ 80 مليون يورو لمجابهة كورونا، وفقاً لما أعلنه الاتحاد ووزارة الصحة. وفي تقرير أداء أشارت وزارة الصحة إلى أن مشروع دعم الاتحاد الأوروبي وُظف لصيانة وتأهيل 12 قسم طوارئ بالولايات المختلفة، وتدريب الكوادر العاملة. وتشير د. ليلى حمد النيل إلى أن بعض المنظمات تكفلت بإدارة مراكز العزل بشكل كامل، حتى صرف رواتب العاملين. ويعتبر التحدي الأبرز لوزارة الصحة السودانية هو التعامل مع الحالات، بما فيه توفير المراكز بسعة تستوعبها كلها، وكذلك توفر الأوكسجين ونقله إلى الولايات، إذ عانى السودان مع بداية الجائحة أزمةً حادة في توفر الأوكسجين، فكانت مصانع الأوكسجين متوقفةً عن العمل، إما بسبب التردي الذي شمل كل القطاع الصحي، أو بسبب توقف قطاعات إنتاجية عديدة في السودان مع تدهور الاقتصاد وتدني قيمة العملة الوطنية. وتعمل الآن في السودان 8 مصانع أوكسجين، فيما لجأت بعض الولايات لإنشاء مصانع في محاولة لتفادي مشاكل النقل والترحيل والإجراءات الإدارية العقيمة التي حالت في أوقات سابقة دون وصول المعينات في الوقت المطلوب. وهي المشاكل ذاتها التي أدت لانقطاع معينات العمل في بعض مناطق السودان، المتمثلة في الملابس الواقية وغيرها.

وبالنسبة لوزارة الصحة، فإن الموجة الأولى أحدثت إرباكاً كاملاً. وصاحب ذلك إخفاقات وتقديرات خاطئة، لكن خلال هذه الموجة بدأ السودان استجابةً معقولة على الرغم من ضيق الإمكانيات وتردي البنى التحتية أو انعدامها بالكامل في بعض المناطق. واتبعت الوزارة خطة للاستجابة يتم تحديثها كل ستة أشهر، تشمل الحاجة للتدريب وتوفر المعينات وضبط عمل اللجان والتنسيق بينها، وتحديد أنواع الفحص المطلوب، علاوةً على إدارة الوضع الروتيني للمؤسسات الصحية. وتشير تقارير وزارة الصحة إلى أكثر من عشرة أمراض هي من أسباب التردد على المستشفيات، تأتي الملاريا على رأسها، ثم الالتهاب الرئوي والإسهالات وأمراض الجهاز التنفسي وأمراض ضغط الدم.

تصاعد حالات الإصابة وشكوك حول الأرقام المعلنة

تخطّت حالات الوفاة بفيروس كورونا في السودان حاجز الألفين. لكن تقريراً صادراً عن جامعة "امبيريال كوليدج لندن" أشار إلى أن عدد الإصابات والوفيات الحقيقي بفيروس كورونا في السودان أكبر بكثير من العدد المعلن. وقال التقرير إن عدد الوفيات الحالية المعلن في السودان لا يمثل سوى 2 في المئة من العدد الفعلي، وأشار إلى أنه منخفضٌ عن الرقم الحقيقي بنحو 16090 حالة وفاة. وقدّر التقرير البريطاني حالات الإصابة بحدود 38 في المئة من سكان العاصمة الذي يبلغ نحو 8 مليون نسمة، وفقاً للجهاز المركزي للإحصاء استناداً على آخر تعداد سكاني في البلاد. لكن تقديرات أخرى أشارت إلى تجاوز عدد سكان العاصمة العشرة ملايين نسمة. وحذرت منظمات عالمية من انهيار النظام الصحي في السودان في ظل جائحة كورونا.

لا ينظر السودانيون إلى وباء كورونا من زاوية أنه فاقم الوضع الصحي. فالمعتاد لديهم قطاع صحي منهار. لكنهم ينظرون إلى هذا الوباء الجديد من زاوية تعطّل الحياة والإنتاج - على قلته - إذ فرضت السلطات مباشرة خلال الموجة الأولى حالة الطوارئ الصحية، وأُغلقت العاصمة الخرطوم لنحو ستة أشهر، مع تعطيل حركة المطارات والمعابر البرية وفرض حظر تجوال..

ويعاني السودان نقصاً حاداً في الإمداد الدوائي، بدأ منذ انفصال جنوب السودان 2011، في أعقاب خروج النفط من الميزانية. وتوقفت أكثر من 10 شركات عالمية بسبب شح النقد الأجنبي، وتصاعدت الأزمة تباعاً حتى انهيار العملة المحلية وارتفاع نسبة التضخم، الذي قفز إلى 330.78 في المئة في شباط/ فبراير 2021. وبلغ تراكم مديونية مؤسسة الإمدادات الطبية، وهي الجهة الحكومية المعنية باستيراد الدواء 70 مليون يورو، عجزت وزارة المالية عن سدادها، ما أدى إلى فقدان الأدوية. وقاد صيادلةٌ حركة احتجاجية متصلة عبر الإضرابات بين الحين والآخر في محاولة للضغط على الحكومة لتوفير الدواء.

الضمان الصحي... بطاقات تأمينية بلا جدوى

لا يغطى التأمين الصحي – خدمة حكومية - حاجة المواطنين للخدمة الطبية والدوائية، مع تراجع الخدمة في المرافق الحكومية، وانعدامها بالكامل في بعض المرافق، خاصة في الولايات، وتوسع الاستثمار الخاص على حساب الخدمة العامة. ويغطي التأمين الصحي الحكومي في ولاية الخرطوم أكثر من مليون أسرة بنسبة تغطية بلغت 84 في المئة وفقاً لتقرير الأداء السنوي لشركة التأمين الصحي لولاية الخرطوم لعام 2019. ويبلغ عدد المستشفيات داخل الشبكة التأمينية نحو 400 مستشفًى، فيما يبلغ عدد مرافق الخدمة الدوائية 308. أما خدمة التأمين الصحي لبقية ولايات السودان فبلغت ما نسبته أكثر من 80 في المئة للمشتركين، وبلغ عدد المستشفيات داخل الشبكة أكثر من ثلاثة آلاف، فيما بلغ عدد الصيدليات نحو 2700 صيدلية. وقد تبدو للوهلة الأولى أن الخدمة التأمينية التي تقدمها الدولة معقولةٌ مقارنة بعدد السكان، لكن الواقع يختلف عن الأرقام، إذ أن كل مواطن حاصل على بطاقة للتأمين الصحي ليس بالضرورة أنه سيحصل على خدمة طبية ودوائية كما المطلوب، مجانية أو بسعر رمزي. بل إن البطاقة تصبح بلا معنًى في ظل نظام صحي منهك، وغير قادر على الصرف على نفسه، فيصبح المواطن حاملاً لبطاقة بلا خدمة. وحتى التأمين الطبي الخاص، وهو خدمة تقدمها الشركات الخاصة للعاملين، أصبح هو الآخر غير مجدٍ في بعض الأحيان، لأن توفر الخدمة الطبية المميزة أصبح حصرياً في مستشفيات القطاع الخاص، وتواجه المؤمن عليهم مشاكل خروج كبريات المستشفيات من الشبكة التأمينية بسبب تراكم الديون، أو تأخر السداد مع ارتفاع تكاليف الخدمة الطبية والدوائية.

ولم تلتفت المستشفيات الخاصة إلى مشكلة انتشار جائحة كورونا ولم تتعاطَ معها، وبقيت كل مراكز العزل تتبع لوزارة الصحة.

وورثت الفترة الانتقالية في السودان، في أعقاب سقوط نظام الرئيس عمر البشير في نيسان/ أبريل 2019، نظاماً صحياً متهاوياً، علاوةً على فساد استشرى في جميع أجهزة الدولة. ولأن نصيب الصحة كان في ذيل اهتمامات الدولة طيلة سنوات البشير، فإن ما آل إليه القطاع الصحي ربما يحتاج إلى دعم نوعي حتى يتسنى له النهوض مجدداً، وتقديم خدمة طبية معقولة، ابتداءً من تدريب الكوادر، وليس انتهاءً بصرف وصفة دواء دون عناء البحث عنه. في ظل هذا الوضع، تصاعدت هجرة الكوادر الطبية بشكل لافت بعد انفصال جنوب السودان وتهاوي الاقتصاد. وفي عام 2013 أعلنت وزارة الصحة عن هجرة 55 في المئة من الكوادر الطبية، وأعلنت حاجتها لتوظيف أكثر من 60 ألف كادر طبي. ويعاني الأطباء في السودان من ضعف الأجور وبيئة العمل غير المواتية، كما ومن وقوع العديد من حوادث الاعتداء من مرافقين للمرضى ضد الكوادر الطبية بالمستشفيات احتجاجاً على سوء الخدمة أو انعدامها.

مثل غيرهم من مواطني دول منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، يتعامل السودانيون بلا مبالاة مع كورونا بل وبالسخرية، باعتبارها عملاً سياسياً "مدبراً"، اتخذته الحكومة الانتقالية المحاصرة بالأزمات سبباً لإغلاق البلاد، وبالتالي تقليل الضغط على السلع والخدمات الشحيحة أو المنعدمة في بعض الأحيان.

وتصاعد خلال السنوات الأخيرة طلب العلاج بالخارج بسبب تدني مستويات الخدمة الصحية، ابتداءً من التشخيص وانتهاءً بتوفر العلاج. وبلغت تكلفة العلاج بالخارج لعام 2019 أكثر من 57.826 مليون دولار، فيما كانت في العام 2018 بحدود 22.613 مليون دولار وفقاً لتقرير "القومسيون الطبي" لعام 2019، وتشمل هذه التكلفة فقط الذين تم تحويلهم إلى الخارج عبر القومسيون، وهو جهاز حكومي يتكفل بجزء من تكاليف العلاج، علاوة على أن إجراءات المرضى المالية تتم عبر السعر الرسمي للدولار، والذي يفرق كثيراً عن السوق السوداء، طبعاً قبل إعلان تحرير الجنيه السوداني مؤخراً.

***

يعد السودان من الدول التي قلّ فيها انتشار فيروس كورونا، ويُعتقد على نطاق واسع أن الدول الأفريقية التي تتميز بالجو الدافئ أو الحار هي التي سجلت أقل الأعداد في الإصابة بكوفيد 19، على عكس أوروبا مثلاً. وعلى الرغم من أن السودان من بين هذه الدول، إلا أن عدد الوفيات مقارنة مع عدد الإصابات يعتبر مرعباً. ولا يميل السودانيون إلى الذهاب للمستشفيات عند الشعور بأعراض كوفيد رغم إلحاح وزارة الصحة عبر برامج التوعية والتثقيف، مفضلين التداوي من الصيدلية مباشرةً بالمضادات الحيوية أو اللجوء إلى الأعشاب، خاصةً أن لا علاج لكوفيد 19. لذا يُعتقد أن عدد الإصابات التي لم تصل، أو لم يتم التبليغ عنها عبر نوافذ وزارة الصحة أكبر من الرقم المعلن. ومثل غيرهم من مواطني دول منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، يتعامل السودانيون بلا مبالاة مع كورونا بل وبالسخرية، باعتبارها عملاً سياسياً "مدبراً"، اتخذته الحكومة الانتقالية المحاصرة بالأزمات سبباً لإغلاق البلاد، وبالتالي تقليل الضغط على السلع والخدمات الشحيحة والمنعدمة في بعض الأحيان. ومن ناحية أخرى، هناك اعتقاد واسع أن السودانيين كما بقية الأفارقة يتمتعون بمناعة شديدة ضد الأمراض تتكئ على قوة جينية، وفي بالهم دائماً مرض الملاريا اللعين الذي بدأ في الانحسار بعدما حصد آلاف الأرواح لسنوات طويلة.

لا ينظر السودانيون إلى وباء كورونا من زاوية أنه فاقم الوضع الصحي. فالمعتاد لديهم قطاعٌ صحي منهار. لكنهم ينظرون إلى هذا الوباء الجديد من زاوية تعطّل الحياة والإنتاج - على قلته. فقد فرضت السلطات مباشرة خلال الموجة الأولى حالة الطوارئ الصحية، وأُغلقت العاصمة الخرطوم لنحو ستة أشهر مع تعطيل حركة المطارات والمعابر البرية وفرض حظر تجوال، مع ساعات سماح للمواطنين للتسوق، وأغلقت المحال الكبيرة أبوابها. ولا توجد أرقام رسمية لحجم الخسائر وأثر كورونا على الاقتصاد، لكنَّ اقتصاديين قدّروها بمليون دولار يومياً، وقدرت غرفة الصادر تأثر صادر الماشية للمملكة العربية السعودية بنحو 60 في المئة من إجمالي الصادر، فيما أعلن اتحاد غرفة الصناعات الصغيرة والحرفية، والذي يضم نحو 32 مهنةً وحرفة، أن مليوني عامل من أعضائه تضررت أوضاعهم المعيشية بسبب الحظر الذي فرضته السلطات الصحية.

تصاعدت هجرة الكوادر الطبية بشكل لافت بعد انفصال جنوب السودان وتهاوي الاقتصاد، وفي عام 2013 أعلنت وزارة الصحة عن هجرة 55 في المئة من الكوادر الطبية.

والرابح الأكبر من هذا الوباء: التجار! إذ ارتفعت أسعار السلع أضعافاً مضاعفة مع بداية الإغلاق وفرض حظر التجوال، الأمر الذي فاقم أوضاع المواطنين الاقتصادية، ووجد بعض المنتسبين للمؤسسات الأمنية والعسكرية فرصةً لتزوير وبيع تراخيص المرور التي حصرتها السلطات في بداية الموجة بالكوادر الطبية، والقوات الأمنية. وأصبح الحصول على ترخيص مرور خلال ساعات الحظر لا يحتاج لبطاقة كادر طبي أو عسكري، يحتاج فقط لمبلغ مالي. وضاعف الحظر من معاناة السودانيين الذي تعتمد نسبة مقدرة منهم على الأعمال اليومية، وتوقفت المدارس والجامعات دون أن تستطيع الحكومة تطبيق التعليم عن بعد تماشياً مع ظروف الحظر. فقد ضاع عام كامل بالنسبة للتلاميذ وطلاب الجامعات. 

محتوى هذا المقال هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.

مقالات من السودان

للكاتب نفسه