أهل السياسة الذين يحرقون طرابلس لإشعال سيجارهم!

طرابلس اليوم مدينة أخرى، بل انها تكاد تكون نتفاً من مدن كثيرة، فيها القومية العربية، وفيها الاخوانية، فيها الماركسية واشلاء اليساريين، فيها أهل المال والعقار وفيها الآلاف المؤلفة من المفقرين والبؤساء.
2021-02-03

شارك
برج ساعة التل، طرابلس/لبنان.

نشأتُ، وجيلي، عل حب طرابلس بلد الخير، والاعجاب ببيروت مع التهيب، وشعورك بأنها تتسع عمراناً، طولاً وعرضاً وارتفاعاً، بما يشعرك بأنها تتخطى مساحة حلمك.

كانت بيروت أكثر اكتظاظاً بالسكان وأعظم ازدحاماً بالسيارات والاوتوبيسات فضلاً عن الترامواي، رحم الله ايامه ودوره في التخفيف من الازدحام وتكدس الناس والبضائع والباعة في الشوارع والساحات التي تضيق بأهل العاصمة أو الوافدين اليها من أربع جهات لبنان كما من محيطه العربي وبعض البلاد البعيدة.

أما طرابلس فكانت مدينة وادعة، انيقة، متسعة، فيها مساحات للنظر، والبحر جارٌ مؤنس تسمع صدى حركة أمواجه وقد حملها الهواء من الميناء الفسيح الذي يستحضر كل العواصم البحرية الكبرى، ومعها تلك الموانئ التي تشابه اعشاش الحب بالدفء الذي تنشره من حولها.

ولأن محيطها كان فقيراً بقدراته المادية، وأن كان غنياً بأرضه وابنائها وموقعها الذي يربطها ببلاد ما خلف بلاد الشام، ويعْبر بها إلى أوروبا، فقد اعتبرت "أم الفقير"، وكان يمكن لمس الود الذي يكنه للفيحاء الموظفون عموماً، مدنيين وعسكريين، الغرباء عنها والذين اوفدوا اليها ليخدموا فيها.

كانت طرابلس الشام "عاصمة" لها شعبيتها في لبنان كما في سوريا، حتى وان كان كثيرون قد نسوا أو تناسوا عمداً انها طرابلس- الشام - في حين ما زال آخرون يعتبرون "بأنها لم تصبح لبنانية" الا بعد أحداث وفواجع موجعة سيصعب على العروبيين نسيانها فيما بعد.

يختلط في التراث العمراني لطرابلس الروماني، مع العربي – الاسلامي، مع المملوكي، مع ملاحظة أن الطليان قد أضافوا اليها مطلع القرن العشرين لمسات جمالية في الشوارع والعمارة وانشاء المسارح ودور السينما فضلاً عن المتاجر الكبرى والمقاهي.

يمكن القول أن طرابلس "ثلاثية": المدينة – القلب هي التي تحتفظ بالآثار المملوكية والتركية، والتي أضيفت اليها لمسات ايطالية في ما بعد، فيما طمست آثار الحقبات السابقة على الفتح العربي، قبل أن يضيف اليها التجديد (في فترة ما بين الحربين العالميتين) لمسات من الحداثة.

لكن طرابلس المدينة الحديثة والانيقة التي التهمت بساتين البرتقال والليمون والزيتون، سوف تطل على اللبنانيين مع الستينات متباهية بأنها أحدث من بيروت، وأوسع من صيدا، وأحدث من اخواتها الكبار حلب ودمشق وحمص وحماه.. ولأنها مدينة ساحلية، وعاصمة الشمال الذي لم تكن موارده تتيح له أن يدّعي الثراء، فقد أطلق عليها الجميع "أم الفقير" .. وكان الموظفون عموماً، لا سيما رجال الدرك والجيش، يغبطون أنفسهم على تعيينهم فيها، حيث يمكنهم أن يعيشوا مرتاحين وان كانت رواتبهم "عادية".

ثم أن طرابلس المتخلصة أو المتحررة من عقدة العاصمة، كانت تحنو على الفقراء ومتوسطي الدخل، في حين أن أغنياءها واصحاب الثروة فيها اخذوا يهربون برساميلهم منها إلى محيطها الساحلي، وصولاً إلى بيروت، لا سيما بعد التغييرات المتلاحقة في سوريا التي عكرت صفو العلاقات بين السوريين أنفسهم، كما بينهم وبين اللبنانيين.

مع العهد الشهابي، أواخر الخمسينيات ثم في الستينيات، بدأت طرابلس تنال حقها وتلعب دورها في السلطة، مستفيدة من توجه الرئيس فؤاد شهاب الذي جاء بديلاً من كميل شمعون (1958) إلى انصاف "الداخل"، أي الشمال والجنوب والبقاع، من دون أن ينقص اهتمامه بجبل لبنان وبيروت.

وهكذا أمكن لسياسي شاب مثل رشيد كرامي أن يلعب دوراً مهماً في هذا العهد، ليس فقط نتيجة تقدير دور والده الزعيم الوطني الراحل عبد الحميد كرامي بشهادة اعتقال موثقة في راشيا مع رجالات دولة الاستقلال، بل للتأكيد أن للعهد الشهابي سياسته أو نهجه المختلف عن عهود سابقيه (كميل شمعون وبشاره الخوري واميل اده) الذين كانت "زعاماتهم" محصورة في الدائرة الذهبية: أي بيروت وجبل لبنان... بينما المناطق الأخرى "ملحقات".

ولقد شغلت عميلة اعادة بناء الدولة رشيد كرامي عن اعطاء طرابلس حقها من الاهتمام والرعاية حتى لا يتهم بأنه "شمالي" و"طرابلسي"، فانصرف إلى تقديم نفسه كرجل دولة، وكرجل تغيير، وكزعيم لبناني لا طرابلسي أو شمالي فحسب..

ولقد كانت طرابلس، دائماً، وبقرار واع من اهلها وقياداتها، عاصمة الشمال كله، ومعبر الخير من والى سوريا.

كان الطرابلسي يمضي الصيف في بشري أو في أهدن، ويمنح عكار بعض اهتمامه باعتبارها أرض الخير، ويهتم بالبترون وما دونها على الساحل في محاولة للتأكيد أن طرابلس هي العاصمة الثانية في لبنان بقدر ما هي "طرابلس الشام" والمعبر إلى حمص وحلب، ومن ثم تركيا فأوروبا، ما يؤكد انها العاصمة الثانية للبنان وأم الفقير وارض الخير.

لأن المال لا وطن له، فان اثرياء طرابلس ووجهاءها قد أنفقوا بعض البعض من مالهم فيها، والمبالغ الأكبر في مشاريع صناعية أو تجارية أو شركات ذات طبيعة استثمارية مسجلة في بيروت أو في انحاء أخرى من العالم.

في عهد فرنجية، صارت زغرتا ومعها اهدن عواصم في الشمال. وشقت لزغرتا طريق لها لا تمر في طرابلس، وتَعكّر الجو الذي كان ودياً بين طرابلس وزغرتا، ولعبت الحمى الطائفية دوراً في هذا التبدل. وطبيعي أن تتأثر بشري بهذا المناخ، خصوصاً بعد صعود "القوات اللبنانية" بقيادة سمير جعجع وقبيلته، إلى صدارة المشهد السياسي في الشمال.

في "العهد الشهابي" الذي شغل فيه الراحل رشيد كرامي منصب رئيس الحكومة سنوات طويلة، تمددت طرابلس شرقاً وشمالاً وكذلك على الشاطئ متجاوزة الميناء إلى البحصاص والقلمون، تاركة الهضاب لجامعة الأرثوذكس في البلمند التي ستضيف كثيراً إلى فروع الجامعة اللبنانية في المدينة، وتعزز مكانة المدارس الفرنسية (الفرير) والايطالية فيها.

على أن الحرب الاهلية التي قتلت السياسة في لبنان قد انهكت طرابلس ورمتها بأنواع من الحمى الطائفية والمذهبية والعنصرية.. خصوصاً عندما أجبر اجتياح العدو الاسرائيلي بيروت بعد الجنوب ومعظم جبل لبنان بما في ذلك القصر الجمهوري في بعبدا (صيف 1982)، المقاومة الفلسطينية على ترك حصنها الحصين في لبنان إلى تونس.. لكن ياسر عرفات قد تمكن من العودة بحراً إلى طرابلس ليقاتل بائساً ويائساً ثم ليغادر مرة أخرى، تاركاً خلفه بقايا منظمات وبقايا أحزاب وبقايا مقاومات متخاصمة وبقايا سلاح يغري بنشوء عصابات مسلحة تحوّل "المقاومة" إلى "حرب أهلية" شعاراتها خليط من هتافات المرحلة السابقة مع اضافات اسلاموية وأممية وجهوية وطائفيه الخ.

اننا نعيش خارج السياسة، ليس في لبنان وحده، بل في مجمل انحاء الوطن العربي.. ومن الطبيعي أن يحاول الطوائفيون، ومن خلفهم، "ملء الفراغ" بالبدائل غير الصحية مثل الطائفية والمذهبية والاغتراب عن الوطن وأهله.

أن طرابلس تعيش مأساتها منفصلة عن سائر انحاء لبنان بعدما اسقطت بيارق العروبة والوحدة الوطنية والتقدم، وصار الأمر في أيدي الأعظم طائفية والأغنى بأموالهم والذين فقدوا ايمانهم بالوطن والعروبة والتقدم وشروق الشمس مجدداً.

انها نذر " تبشر" بعصر جديد من الظلام.

فمع ضرب الوطنية، وتسفيه الدعوة القومية، وتحريم الاشتراكية، لا بد ان تستشري الاقليمية والكيانية والطائفية، ويفرض على المواطن أن يقسم نفسه (ذاته) بين ايمانه بالبديهيات وحقائق حياته فيقفل على نفسه الباب ويعيش وحيداً مع هواجسه.

ولقد استنزفت الحروب المتعددة التي دارت أو أديرت في هذا الوطن الصغير قواه الوطنية والتقدمية، وفتحت الباب أمام قوى متنافرة تتصارع بشعارات طائفية، مموهة غالباً وصريحة إلى حد الفجاجة أحياناً، في مدينة الفيحاء، بل لبنان كله، ومكنت مجموعات من العصابات المسلحة والممولة من أن تشوش على صورة الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية.. وكانت الشعارات الاسلامية جاهزة، ومعها أصحاب الأغراض والأطماع من الطوائفيين ورجال المال والاعلام الذين يتعاملون مع السياسة على أنها مصدر ثروات ونفوذ، حاضرين لحرف العمل السياسي وتخريب العمل الحزبي بتحريك عوامل الفتنة لضرب القوى الحية جميعاً.

طرابلس اليوم مدينة أخرى، بل انها تكاد تكون نتفاً من مدن كثيرة، فيها القومية العربية، وفيها الاخوانية، فيها الماركسية واشلاء اليساريين، فيها أهل المال والعقار وفيها الآلاف المؤلفة من المفقرين والبؤساء.

لقد ضربت وحدة البلاد، وكان طبيعياً أن تكون طرابلس بين الضحايا الأساسيين.

لقد تبعثر الشمال بعاصمته ومدنه وقراه، نتيجة الحروب الجهوية والاهلية والطائفية، التي دبرت ثم فجرت في مختلف جهاته، فابتعدت زغرتا ومعها اهدن عن طرابلس، ونأى الجعاجعة ببشري عن عاصمة الشمال طرابلس.

"خطفت" الزعامات المارونية في زغرتا - اهدن وبشري "رعاياها" عن العمل الوطني – القومي التقدمي وعاصمته طرابلس.. ثم اقتحم الاسلام السياسي الميدان، فاذا الشمال ينزف وطنيته ومشاعره القومية ووحدته الوطنية.

لكن الوطنية أبقى واصلب عوداً من أن تكسرها الفورات الانفعالية والكيديات والأغراض الخاصة.

ولسوف تبقى طرابلس قلعة وطنية، عربية الهوية "اشتراكية" المزاج لكي ينال عموم أهلها ما ييسر لهم الحياة الكريمة.

مقالات من لبنان

للكاتب نفسه

دول آبار النفط والغاز تتهاوى

طلال سلمان 2020-11-18

اليوم، بتنا نفهم حرص المستعمر- بريطانيا بالأساس - على إقامة دول تتضمن رمالها أو سواحلها احتمالات بوجود النفط والغاز. فاذا ما ظهر هذا او ذاك من أسباب الثروة كانت لغير...