لبنان: عيبٌ مطلق

"المسئولون" قرروا بكل أناقة أنهم سيغلقون البلد اغلاقاً تاماً. لثلاثة اسابيع. لا تَجوّل بتاتاً. 24/24. وطُلب من الناس التسوق "ديليفري". وطُلب ممن يريد الخروج لسبب اضطراري أن يرسل طلباً بالهاتف الذكي، فينال نعم أو لا. يا سلام. من الواضح أن من هندس الأمر إما جاهل وغبي، أو مستهتر، أو... مشبوه، يريد إشعال النار في ما أصبح هشيماً.
2021-01-28

نهلة الشهال

أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"


شارك
احتجاجات في مدينة طرابلس اللبنانية.

لا شيء يهز الطبقة السياسية "الحاكمة"، على اختلاف اتجاهاتها، وهذه الاتجاهات فعلاً لا تهم. يغيبون وكأنهم لا وجود لهم، يصمتون، ممررين كبرى المسائل بالتجاهل، وحين يحضرون فلكي يقولوا كلاماً خارج الصدد، منزاحاً عن الواقع والمعنى، وهو لذا يصبح معيباً تماماً: هذا يحذر من "سرقة" المطالب المشروعة للناس، وذاك يصرّح بان الحكومات لا تتشكل في الشارع، أو أن هناك "رسائل" توجه عبره.. الخ، موحين بأن تلك هي الاهداف الحقيقية لما يبدو غضباً مهولاً للناس. الجماعة، جميعهم بلا استثناء، فاقدو الوعي وفاقدو الاحساس. ولم يعد هناك شتيمة لم توجه لهم، ولكنهم لا يأبهون.

يقطّع القلوب رؤية هؤلاء الرجال من أهل طرابلس، بلهجتهم المميزة، وبما لديهم من بدلات عتيقة ارتدوها للمناسبة، رجال توحي هيئاتهم بأنهم طاعنون في السن، ولكنهم على الأرجح خمسينيين، تجار صغار، أصحاب دكاكين، ممن كانوا حتى أمس قريب طبقة وسطى وإن متواضعة، مستورين كما يتمنى الناس لبعضهم البعض في الدعاءات بمختلف المناسبات، وصاروا.. جياعاً. مذلون مهانون. شرحوا أمام كاميرات وسائل الاعلام وجعهم، اشتكوا بصبر، ولم يكن أغلبهم يتخيل يوماً أنه سيسير في تظاهرة، وقد فعلها ربما في شبابه من أجل فلسطين مثلاً، وليس طلباً للخبز، كما اليوم.

جوعتم الناس! يا ويلكم من الله لو كنتم مؤمنين. ولستم! ولا يهم ارتيادكم للمساجد والكنائس، فهذا نفاق.

وفي الأثناء، وفي مكان قريب من مسيرة هؤلاء، كان فتية تبدو على وجوههم وملابسهم آثار بؤس بيوتهم، يرشوقون الحجارة، ويقلبون الحاويات في الشوارع ويحرقونها. هاجموا "السرايا" التي تضم فيما تضم مقر المحافظة، وهي، كما قال أحدهم، مكان الدولة الوحيد الذي يعرفونه. سقط في ثلاثة ايام من الغضب بلياليها اكثر من 200 جريح من بينهم، وفقد حياته أحدهم. رُدّ عليهم بخراطيم المياه والغاز المسيل للدموع، وسُمِعت طلقات رصاص حي بحسب بعض المراسلين الاعلاميين.. قيل: رُدّوا الى أحياء طرابلس القديمة، تلك االزواريب الضيقة المتشعبة، الأليفة، المدينة التي لطالما انتفضت ضد كل جور وظلم. حبسوهم هناك؟ يا للغباء! وقد ذعر منهم كذلك الناس الذين ما زالوا يأكلون، وقالوا هم أيضاً أن هذه التحركات "مشبوهة"، أو أن هناك من يؤججها. ربما. ولكن أسباب الغضب الى حد الانفجار قائمة، ولكان من المعيب ألاّ ينفجر الناس، شيباً وشباباً، وأن يموتوا من الجوع – من دون مبالغة – وهم ساكتون. وهذا هو الأساس الذي لا يمحوه البحث عن "المدسوس" و"المدفوع" و"المأجور".

"المسئولون" (عما هم مسئولون يا ترى؟)، قرروا بكل أناقة أنهم سيغلقون البلد اغلاقاً تاماً، بداية لمدة11 يوما – ابتلعها الناس – ثم ل15 يوماً اضافياً. لا تَجوّل بتاتاً. ممنوع، وطُلب من الناس التسوق "ديليفري". وطُلب ممن يريد الخروج لسبب اضطراري أن يرسل طلباً بالهاتف الذكي، فينال نعم أو لا. يا سلام. من الواضح أن من هندس الأمر إما جاهل وغبي أو مستهتر أو... مشبوه، يريد إشعال النار في ما أصبح هشيماً. وماذا يفعل ثلثا السكان ممن لا يعرفون "الديليفري" تلك، ولا الهواتف الذكية؟ ومن أين يسددون ثمن حاجياتهم طالما هم لا يكسبون رزقهم. وبالمناسبة، فماذا يأكلون؟ حتى أن المرء استذكر الشحاذين الذين خلت منهم الشوارع الخالية من الناس! لا هم يمكنهم الخروج ولا مَنْ قد يعطيهم ألفاً كصدقة. البدعة لم تُطبق قبل ذلك في أي مكان من العالم، في أي مدينة اجتاحها كورونا. 24/24 منع؟ مجانين! بلى، طبقت في ووهان عند اكتشاف وجود هذا الوباء، لكن الجيش الصيني تولى توزيع ما يحتاجه الناس في يومياتهم: لكل بناية نصيبها وبكل انتظامٍ مرعبٍ لا يقوى عليه إلا نظام كنظام الصين، ولن نطيل، لأن التفاصيل هنا بشعة، كما كانت بشعة عدة قصص من بلاد "القفزةالعظيمة الى الأمام" و"الثورة الثقافية". وبكل الاحوال، فالمقارنة أساساً لا تصح.

ببساطة، قررت الدولة اللبنانية التخلص من هَمّ الناس بحبسهم، ليس في معتقلات وانما في بيوتهم. وهذا طبعا لا يستقيم، فبدأ من اليوم التالي التفلت. لكن المشكلة ليست في مَن تمرد فمشى في الشارع، وانما لدى أصحاب الدكاكين والعربات على أنواعها، وعمال الورشات، ومن ينتظرون رزقاً متقطعا من أعمال غير نظامية، وهم الاغلبية.. والشحاذون. حتى في المعتقلات يتم توفير الطعام للمحبوسين. وأما في لبنان، فمفهوم مسئولية السلطات عن تبعات قراراتها لا وجود له. ولم تُقر أي مساعدات لمن عُطِّلوا بحجة حمايتهم من كورونا، حيث أصلاً لا وجود (أيضاً!) لمنظومة الصحة العامة في البلد.

هل من حاجة للتذكير بأن قيمة الليرة اللبنانية تنهار كل يوم فيما أجور المحظوظين (الموظفبن) – حتى هؤلاء – ثابتة. وهل نذكِّر بأن البنوك تحبس – هي الأخرى – أموال المودعين، والصغار منهم هم الأغلبية الساحقة، وهؤلاء محرومون من كل السحوبات، بينما هرّب كبار المودعين أموالهم الى الخارج، وهو ما صار ثابتاً مثبتاً.

مقالات ذات صلة

عجيب أمر هؤلاء "المسئولين". تتوالى الفظائع والفضائح فلا يُعلِّقون. لا يهزهم انهيار النظام المصرفي، ولا انفجار مرفأ بيروت المروع، ولا التسريبات عن هوية أصحاب أطنان النيترات التي انفجرت، ولا طلب سويسرا التحقيق مع حاكم البنك المركزي بتهمة تهريب الأموال، ولا أحجام المبالغ المهربة من قبله ومن قبل سواه.. يتجاهلونها كلها، وكأنها لا وجود لها. ولكنهم يتهاترون فيما بينهم على أشياء لا تهم أحداً، لم تعد تهم: الوزارة، المناصب، التعيينات.. تباً لكم.

كيف سينتهي هذا الوضع؟ الله أعلم!

مقالات من لبنان

للكاتب نفسه

ماذا الآن؟

وقعتْ إسرائيل في خانة المستعمِر، واهتزت بقوة "شرعيتها" المصنوعة بتوأدة. حدث ذلك بفعل مقدار منفلت تماماً من همجيتها في الميدان وصل إلى التسبب في الصدمة للناس، وكذلك بفعل التصريحات والخطب...