لمن بسطات القدس؟

لم يُنصِف ابن بطوطة القدس حينما صبّ جُلّ توصيفه للمدينة بقبة الصخرة والمسجد الأقصى في كتابه «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار»، خلافاً لذكره معالم مدن فلسطينية أخرى مثل أسواق نابلس والرملة. علماً بأن أسواق القدس وباعتها لم تخفت نداءاتهم فيها منذ قبل أيام الرحّالة المغربي. القدس ليست القبة المذهبة فحسب، بل ناس المدينة وتجارها وصنايعيها الحاضرون فيها بقوة
2014-06-04

حنين نعامنة

محامية وكاتبة فلسطينية


شارك
| en
القدس باب العمود - محمد بدارنة

لم يُنصِف ابن بطوطة القدس حينما صبّ جُلّ توصيفه للمدينة بقبة الصخرة والمسجد الأقصى في كتابه «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار»، خلافاً لذكره معالم مدن فلسطينية أخرى مثل أسواق نابلس والرملة. علماً بأن أسواق القدس وباعتها لم تخفت نداءاتهم فيها منذ قبل أيام الرحّالة المغربي. القدس ليست القبة المذهبة فحسب، بل ناس المدينة وتجارها وصنايعيها الحاضرون فيها بقوة تعادل قوة ذلك المكان المقدس. وعلى هؤلاء تظهر آثار احتلال إسرائيل للمدينة عام 1967 وما فعلته سنوات الاحتلال مذاك. نرى البسطات خشبة لا تشغل أكثر من متر واحد، فيما تشغل في الحين ذاته تاريخاً تقاسمته العائلات المقدسية على مدى أجيال: خشبات ألِفها المقدسيون ووجدوا فيه متنفساً لسدّ رمق العيش، باعة كانوا أو شراةً اعتادوا بضائعها في غدواتهم وروحاتهم. لكن في دوامة الهامش بمقابل المركز الاستعماري، يدأب الأخير على إلغاء هذه البسطات بحجة عدم توافقها مع حاجته لتنظيم المدينة وتحسين وجهها الحاضري، مستثمراً إياها في الوقت نفسه كمكسب سياحي اقتصادي، ولفرض هيمنة استشراقية تحيل البسطات إلى ديكور معدوم الأصل والأهل، إلغاء للطابع الفلسطيني للبلدة القديمة.

على وقع الضرائب

البسطة من المفردات الضاربة جذورها في لغتنا اليومية، هي وليدة مجتمعاتنا واقتصاداتها، ويكفي أن نتتبع وجودها الكثيف في محيطنا لنمسك بجذورها، لغة وتاريخاً. تشتق البسطة اسمها من بسط أي مدَّ على مسطح، وبالتأكيد ايضاً من بساطة ما يبيع أصحابها من السلع الرائجة للاستهلاك في الحياة اليومية والتي لا تحتاج لرأس مال ومعدّات تحضير معقدة. فنجدها في القدس تبيع المشروبات الشعبية كعصير اللوز والتمر هندي والكمون، والمأكولات الرائجة مثل المشاوي والفلافل وعرانيس الذرة والحلوى وكعك القدس بالسمسم المشهور. وهناك أيضاً الفلاحات القادمة من ريف الضفة الغربية، حيث يبسّطن بخضراواتهن البلدية نتاج ما تبقى من الزراعة التقليدية الفلسطينية، بعدما قضت إسرائيل على غالبية الأراضي الزراعية في تلك المناطق، وهيمنت خضراوات الدفيئات الإسرائيلية على ما يُباع ويُشرى في الأسواق المقدسية. وما يميّز سلع البسطات عامة في المجتمع الفلسطيني في القدس، هو أسعارها المنخفضة بدرجات عن تلك المعروضة في السوق الإسرائيلي، نظراً لتمايز الدخل المعيشي بين الفلسطيني والإسرائيلي من سكان المدينة المحتلة.

 ارتبطت البسطة تاريخياً بمعادلة الفقر، شراةً وباعة: هي ملجأ الطبقات المهمشة وعماد الفقراء الذين لا قدرة لديهم على تحمل أعباء استئجار أو فتح دكان داخل مبنى. وفي القدس التي بات أهلها يصارعون من أجل استملاك أو شراء بيت للسكن، يصبح الحديث عن استئجار دكان ترفاً. إذ يُضاف إلى أسعار الايجار العالية ضرائب باهظة مثل ضريبة المسقوفات، والتي تُجبى على أساس مساحة الشقق والمحلات التجارية وتُفرض بقيم متمايزة. استعملت السلطات الإسرائيلية هذه الضريبة وسيلة ضغط على المقدسيين، فوصلت الضرائب المفروضة على المحال التجارية الفلسطينية في البلدة القديمة إلى ملايين «الشواقل» (العملة الاسرائيلية هي الشيقل)، ما أدى إلى إغلاق 25 في المئة من مجمل هذه المحال في البلدة القديمة لغاية العام 2012.. لاقى العديد في البسطات مصدر رزق يعيلهم وعائلاتهم في محاولة للإفلات من قبضة الضرائب من جهة وغلاء الايجار من جهة أخرى، إلا أنهم ارتطموا بقانون يحيلهم جناة في أزقة بلدهم.

وجه المدينة أم قناعها؟

تلملم فلاحة بثوب مطرز بمساعدة بعض الشبان المتحلقين حولها حبات التين الغزّالي التي رماها مراقبو «بلدية القدس» الإسرائيلية على الأرض، في إجراء تفقدي روتيني «بحكم وظيفتهم». أصحاب بسطات أخرى كانوا أوفر حظاً فحملوا بضائعهم وهربوا بها في لعبة الكرّ والفرّ التي يلعبونها مع المراقبين. نرى هؤلاء على الدوام يجوبون أزقة البلدة القديمة بأزيائهم السوداء ونظاراتهم الشمسية لتغريم أصحاب البسطات بحجة خرقهم القانون الإسرائيلي الساري على المدينة، والذي يشترط إقامة البسطات باستصدار ترخيص من الجهة المسؤولة في «بلدية القدس». أحياناً يقوم هؤلاء بتحرير الغرامات أو قلب البسطات قبل أن ييمموا شطر المسجد الأقصى لتأدية الصلاة. فبعضهم «منّا»، تخبرني إحدى الفلاحات. ثم تردف كأنما تتلمّس بعض ما «منّا» في هؤلاء: «يعمل خير فينا إذا رمى البضاعة على الأرض بدل مصادرتها، فإذا رماها التقطنا ما اصطلح منها وبعناه أما إذا صادرها فراح تعب أسبوع كامل».

 قد يتشابه قانون تنظيم الأعمال الساري على أصحاب البسطات في القدس بقوانين مطبقة في بلدان أخرى لحقت أو تحاول اللحوق بركب الحداثة، ومن بينها مصر ما بعد الثورة التي فرضت قانوناً تنظيمياً للباعة المتجولين في محيط ميدان التحرير، وتغريم أو حبس المخالفين له. لكن ما يبدو بظاهره كقانون يسعى لتنظيم الحيز العام المقدسي، تستعمله «بلدية القدس» وسيلة لتبديل ملامح البلدة القديمة والمدينة عامة، تحت شعار «تحسين وجه المدينة» وابقائها «نظيفة وحداثية». فعلياً تحمل هذه الشعارات بُعداً إقصائياً إذ أنها تعني أن هناك أفراداً أو مجموعات شائبة لا بد من إخراجها من النظام الاجتماعي والسياسي المبتغى، ما يسميه عالم الاجتماع زيغموند باومن بـ«الهوس بالتنظيم». في القدس ينعكس هوس الاستعمار جلياً بانشغاله الدائم بالاستيلاء على الحيز العام المقدسي وتجريده من ملامحه الفلسطينية، خصوصاً في البلدة القديمة لكل ما تحويه من تاريخ وعراقة تلبس حتى اللحظة بنيان البلدة وموروثاتها الاجتماعية.

 تتمّ عملية الإقصاء وفق منطق بسيط: يشترط القانون إقامة البسطات بتصريح من «بلدية القدس» في حين ترفض الأخيرة منح مثل هذه التصريحات! يُضطر الباعة للعمل من دون تصريح متكلفين بذلك غرامات باهظة. في ذلك امتداد لمنطق «الهوس بالتنظيم» إياه الذي يجعل من القانون أداة إقصاء تجرّم المستثنى منه وتلقي عليه لائمة خرقه للقانون وبالتالي ضرورة عقابه. هكذا غرّمت «بلدية القدس» على مدى العقود الفائتة أصحاب البسطات بمبالغ تفوق قدرتهم على تخيلها، قد تصل مجتمعة للفرد إلى 50 وحتى 80 ألف شاقل (ما يعادل 23 ألف دولار). يُخبرنا أحد الباعة المرابط منذ أربعين سنة يبيع حلواه في الزقاق ذاته، عن ارتفاع مستمر لقيمة «الضبط» على مدى السنين ليتحول الواحد من 30 شاقل (ما يقارب 7 دولارات) الى 475 شاقلاً (ما يعادل 135 دولاراً)، يدفعها الباعة مكرهين على دفعات. أما الذين لا يتمكنون من تسديد الغرامات، مثل الحاج زكي صبّاح بائع كعك القدس بالسمسم الذي وصل مجموع المخالفات المفروضة ضده إلى 284 مخالفة، فقد حكمت عليه المحكمة الإسرائيلية بعشر سنوات سجن! يكفي لتخيّل شظف عيش هؤلاء ذكر أن كعكة القدس تلك تُباع بثلاثة شواقل أي أقل من دولار واحد - وقد يصل ثمنها الى دولار إذا ما اشتريتها مع بيضة مسلوقة!

«يللا بسطة»!

لم يكن ذكري لموئل البسطة في اللغة عارضاً أو عرضاً، بل كان تمهيداً لحاضر بات فيه الاستعمار يزاحم بسطات المقدسيين لا على خشبتها فقط، بل على اسمها أيضاً. أطلقت شركة سياحية إسرائيلية خاصة اسم «يللا بسطة» على حملة تسويق بطاقات بسعر خاص تضمن لمقتنيها تجربة تذوق مميزة لأطعمة البلدة القديمة في القدس. طُبعت الكلمات العربية بأحرف عبرية على ملصقات علقت على عدد من المحال والبسطات في البلدة القديمة للتدليل على أماكنها في حال أراد السياح قصدها. تعتمد الحملة لترويج نفسها على دعوة السائح الإسرائيلي لـ«عيش تجربة السوق كأنه ابن المكان»!

 التناقض القائم للوهلة الأولى بين الاستثمار وتشجيع السياحة في البلدة القديمة، وبين الخنق المستمر لبائعي البسطات وأصحاب المحال التجارية في المكان عينه، هو خير مثال على أن القدس ليست مدينة نصوِّرها بالأسود والأبيض. فالبلدة القديمة هي أهم مواقع المدينة استراتيجية من ناحية تاريخية واقتصادية وسياسية. وعلى الرغم من الواقع الاستعماري الخانق المُراد به دفع الفلسطيني إلى خارج البلدة القديمة والقدس عامة، فإن الحاضر في هذا الحيز هو الفلسطيني وكذا هو طابعه وهُويته. البلدة القديمة بالنسبة للفلسطيني ليست مكاناً يتنزه فيه، بل مصدر رزق ومكان سكنه الذي تتوفر فيه الشروط اللازمة لمعيشته. هو مرابط فيه ولا يُخليه، فنراه يعاود بناء بيت قد هُدم ويبسط من جديد وإن غرّم المرة تلو الأخرى. بالمقابل فإن الإسرائيلي هو سائح فحسب، ولا تشكل البلدة وريداً مركزياً في حياته اليومية. هكذا تولّدت الحاجة إلى بسط هيمنة استشراقية، تتلاعب بهُوية المكان وتعيد تنظيم واقع يعتبر الفلسطيني دخيلاً يتوجب إقصاؤه.

 تتضافر السياحة الخاصة مع تلك الرسمية للاستيلاء على الحيز العام الفلسطيني في المدينة، وتغيير هُويته وجعله ديكوراً يلعب فيه الفلسطيني دور المعْلم الأكزوتيكي لإمتاع السياح ورفع الدخل السياحي الإسرائيلي، في حين يتم إفقاره ومنعه من تطوير حيزه أو العيش فيه بكرامة. فنرى «بلدية القدس» تقيم المهرجانات في البلدة القديمة مثل مهرجان الأنوار والموسيقى والرقص، حيث تحوّل البلدة القديمة وأسوارها إلى مسرح تقيم فيه فعاليات صاخبة، في وقت يمنع فيه الفلسطينيون من إقامة فعاليات جماهيرية هناك، وعادة ما تفض مثل هذه بالقوة والترهيب. بذلك يُهمَش الفلسطيني ويُخفى إذ يفقد إمكانية تأثيره على الحيز العام الذي تشكله البلدة القديمة، فهو غير قادر على البناء أو تطوير مشاريع فيه، ناهيك عن أن القسم الأكبر من الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة لم يعودوا جزءاً من هذا الحيز بعدما كان يحفظ خطاهم بحكم دهور من العِشرة.

 تدعو المبادرات السياحية الإسرائيلي للتوافد إلى البلدة القديمة وجعلها جزءاً من واقعه الحياتي في مدينته «الموحدة»، ليفرض وجوده محل الفلسطيني فيها ويشعر بأنه ابن المكان وسيده، فنراه يربت بافتخار على ظهر طفل مقدسي يبيع عصير الرمان على بسطته لمجرد أن الطفل يتقن بعضاً من العبرية، أو يلتقط الإسرائيلي صورة له بجانب بسطة الكعك المقدسي، فيما تميل عين صاحب البسطة إلى يسار الصورة خوفاً من مراقب سيأتيه يلوح بقانون هو فوق الجميع.. تقريباً.

 

مقالات من القدس

غزة القرن التاسع عشر: بين الحقيقة الفلسطينية والتضليل الصهيوني

شهادة الكاتب الروسي ألكسي سوفورين الذي زار غزة عام 1889: "تسكن في فلسطين قبيلتان مختلفتان تماماً من حيث أسلوب الحياة: الفلاحون المستقرون والبدو المتجوّلون بين قراها. الفلاحون هنا هم المزارعون....

وليد دقة الذي عاش ومات حرّاً

2024-04-11

عاش وليد دقّة غصباً عن القيد، غصباً عن السجان، غصباً عن الزنزانة، غصباً عن دولة الاحتلال بأكملها، غصباً عن العالم المختلّ بأسره، غصباً عن المرض أيضاً، غصباً عن العمر المنهوب...

للكاتب نفسه

القدس©: ماركة عالمية استعمارية

في العام 2013 استضافت مدينة القدس سباق السيارات العالمي الشهير "فورمولا وان". باتت حلبة سباق كبيرة استقطبت الآلاف لمشاهدة الحدث المثير. فجأة أصبحت المدينة المقدسة بعمرانها وأهلها الأصليين ديكوراً لـ...

"إخطيّة" اللغة العربيّة في فلسطين

نشرت جريدة "الدفاع" الفلسطينية في عددها الصادر يوم 12 كانون الثاني/ يناير 1945 خبراً جانبياً صغيراً حمل عنوان "رفض برقية باللغة العربية"، ورد فيه أن شيخاً يدعى عيسى أبو الجبين...

في حضرة النكبة

غداً عيد ميلادي الثلاثين. ستتصل أمي كما في كل عام لتعايد علي، وحتماً ستكرر اعتذارها لأنها لم تلدني في تاريخ آخر أقل كآبة من يوم النّكبة. مع الوقت تعلّمتُ أن...