السّير في تلك الشوارع

"هل تعبتَ، يا امرأ القيس، من السّير في تلك الشوارع التي شقَّها الغيب؟ ما أبرعها في فنّ الاقتفاء، ما أنبه جُدرانها في التنصّت. كلما حاولت أن تعانقَ امرأة، يسألك حارسٌ: هل استأذنت السماء؟" كونشيرتو القدس / أدونيس العربية لغة سحيقة. مثلها مثل البئر العميقة التي تعنيها كلمة هَوية خلافاً لهُوية، بضم الهاء، وأصلها هُوَ – الضمير الذي
2015-03-05

حنين نعامنة

محامية وكاتبة فلسطينية


شارك
| en

"هل تعبتَ، يا امرأ القيس، من السّير في تلك الشوارع التي شقَّها الغيب؟
ما أبرعها في فنّ الاقتفاء، ما أنبه جُدرانها في التنصّت.
كلما حاولت أن تعانقَ امرأة، يسألك حارسٌ: هل استأذنت السماء؟"
كونشيرتو القدس / أدونيس

العربية لغة سحيقة. مثلها مثل البئر العميقة التي تعنيها كلمة هَوية خلافاً لهُوية، بضم الهاء، وأصلها هُوَ – الضمير الذي يوجدنا رغم الغياب. يقولون ماتت بعد أن هجر البشر النسّاؤون ضمائرها، فصارت جوفاء تصفّر الريح في ثناياها. لكن مدننا الخرباء تظل تحك اللغة بأظفارها كمن يفرك عملة صدئة، ثم تلمعها وتضعها بجيبنا تعويذة تجلب الحظ وتطرد الشرور.
هي القدس هذا الصباح متوثِّبة تركض بأهلها إلى أعمالهم، فأستقِلُّ الحافلة التابعة لشركة "الموحدة" الفلسطينية للمواصلات من المحطة المحاذية للشقّة التي أسكن، في الخط الواصل بين بيت لحم وباب العمود، المدخل الرئيس للبلدة القديمة في القدس. عند المحطة المحاذية لباب الخليل – الباب الذي يدغدغنا تاريخه إذ نتذكر كلما جانبناه كيف هدموا بعض الأجزاء الواصلة بينه وبين السور ليتسع لعربة القيصر الألماني فيلهلم الثاني حين زار القدس العام 1898، فلا يدخلها راجلاً!– تراصَّ جمع جنديات إسرائيليات وقد استوقفن حافلة تابعة للشركة نفسها لفحص الهُويات والتأكد من ألاّ "متسللين" بين ركاب الحافلة: أي فلسطينيون أتوا إلى القدس من دون تصريح دخول إسرائيلي. "ليش كلهن نسوان؟" أفكر أول ما أفكر بهذا. أتعقب ملامحي التي ارتبكت لمجرد أن تساءلتُ عن ذلك، بيْد أن السؤال قد قدِم ولا حيلة لي في صدّه.

***
الحواجز تطير وتحط على باب الخليل لتستوقف الحافلة التي نستقلها أسوة بسابقتها. حاجز طيّار، لعبة اللغة مرة أخرى. الطيران يوحي بالحرية ويركّب لها جناحيْن، فكيف تصير الحواجز طيّارة أيضاً؟ تطير وتحلق وتحط لتوقفك وأنت في الطريق إلى القدس؟ يعودني الدعاء الأجمل الذي سمعته في حياتي من مقدسي ستيني قرأتُ له ورقة بالعبرية، اللغة التي لا يتقن، وهي تهدّ بيته بفعل ثلاثي عربيّ هو "هَرَسَ" لتصير "هراس" بالعبرية. كانت الورقة إخطار بهدم بيته، ومع ذلك قال لي: "الله يوفقك يا عمي ويفرد جناحاتك". يهرس لغتهم باستعارة تعضّ القلب ولا تدميه.
أجلس على الكرسي الأول في الحافلة، خلف كرسيّ السائق بمحاذاة الممر. تصعد جنديتان، إحداهما داكنة البشرة من أصول أثيوبية واسمها "يسرائلة" – مؤنث "يسرائيل" (أي إسرائيل). كيف أنثنا الثورة ونسينا إناث الاستعمار؟ وقد "خلقنا لكم من أنفسكم أزواجا"؟ تدّب الصوت يسرائلة "هَوياةةةةة"، فيناولها كلٌ منا هويته من دون تذمر رغم تأخّرنا على أعمالنا، فلا أحد يركب حافلة السابعة والنصف ليذهب يشمّ الهوا ويتشمس مثلاً على أسوار القدس!

***
وقفت الجندية الثانية البيضاء المشقرّة الشعر واسمها "ليلى"، بزيها العسكري الرمادي في مقدمة الحافلة أمامي تراقب ما يحدث. الأسود يعمل والأبيض يشرف عليه؟ التاريخ يعيد نفسه؟ ربما.. لكني أفطن فأتناول عملة الحظ من جيبي وأفركها بسرعة. "بتعرفي معنى اسمك يا ليلى؟ هل كنت ستبدلينه لو عرفت أنه ظلماء سوداء داكنة؟ هل كنت تكلفت عناء تفحص هُوياتنا يا ليلى بدل يسرائلة؟ الأسماء لعنة أيضاً يا امرأة".
تقف ليلى بالضبط بيني وبين واجهة الحافلة الزجاجية العملاقة التي تفصلني عن سور البلدة القديمة، تَنْفذ رائحة عطرها الفاخر إلى أنفي فأكاد أختنق، أنا التي تمقت العطور النسائية حدّ التقيؤ. أتأملها من عاليها لواطيها، تستوقفني أظافرها المقلمة بعناية.. يبدو أنها كانت بالأمس بالصالون. لا تبالي ليلى بنظراتي فهي تقوم بعملها، أما أنا فمتأخرة على عملي أسوة بكل النساء والرجال الوافدين من جنوبي القدس إلى مركزها. ضمائر غائبة عن التاريخ.

***

في انتظار يسرائلة أكاد أقول لها "بتعرفي مشروع ليلى يا ليلى؟.." يبثّون أغانيهم على راديوهاتكم وكأن الأغاني مقطوعة من شجرة. يُطلقون موسيقاهم في مقاهي وبارات القدس الغربية التي تخرجين للسهر فيها ليالي الخميس للتخفف من وطأة "عملك" الأسبوعي. وربما سيأتي من بينكم مجنون يدندن لك موسيقى "مشروع ليلى" سمعها صدفة فاغتبط، وهو يفكر بك وبزيك العسكري وشقارك المطعّم بالأوكسجين والمواد الحافظة.
ليلى تجيد من العربية عدداً لا بأس به من الشتائم، وبعض المفردات والأفعال التي تعينها على تأدية "عملها" على أفضل وجه. أفعال أغلبها بصيغة الأمر. لكن ليلى لا تفرق بين المؤنث والمذكر حين تأمر، ولا هي تلقي بالاً للألف الفارقة التي تنتصب في وجهها كل صباح، حين تحصينا فرداً فرداً في حافلة لن يُهدم ليتسع لها لا باب ولا بوابة، ولكن لها لغة رحبة تجوب طرقاتها. ألذلك كله كانت المرأتان نكرتين حينما ترجلتا من الحافلة؟ وكأنما لا الأنوثة أبقت لهما حصة منها ولا كذا فعلت اللغة. ألذلك فلتت مني ابتسامة وأنا أمد يدي إلى جيبي أتحسسها.. منتصرة؟ 

 

للكاتب نفسه

القدس©: ماركة عالمية استعمارية

في العام 2013 استضافت مدينة القدس سباق السيارات العالمي الشهير "فورمولا وان". باتت حلبة سباق كبيرة استقطبت الآلاف لمشاهدة الحدث المثير. فجأة أصبحت المدينة المقدسة بعمرانها وأهلها الأصليين ديكوراً لـ...

"إخطيّة" اللغة العربيّة في فلسطين

نشرت جريدة "الدفاع" الفلسطينية في عددها الصادر يوم 12 كانون الثاني/ يناير 1945 خبراً جانبياً صغيراً حمل عنوان "رفض برقية باللغة العربية"، ورد فيه أن شيخاً يدعى عيسى أبو الجبين...

في حضرة النكبة

غداً عيد ميلادي الثلاثين. ستتصل أمي كما في كل عام لتعايد علي، وحتماً ستكرر اعتذارها لأنها لم تلدني في تاريخ آخر أقل كآبة من يوم النّكبة. مع الوقت تعلّمتُ أن...