موريتانيا: اشتباك القضاة مع السلطة السياسية

"الحرب على الفساد" وغيرها من الشعارات السياسية الرنانة التي يركز عليها مرشحون من المعارضة والموالاة، ما تلبث أن تأخذ مكانها من النسيان بمجرد نجاح المرشح. وينخر الفساد المجتمع في بلد يرفع على الدوام الشعار، وهو لا يطبق القانون إلا على الضعفاء. وقد ظلت موريتانيا توصف بأنها بلد الحق والعدل، حتى وهي تحت حكم المستعمر الفرنسي الذي نصَّب، بالرغم من جبروته، قضاة مشهودا لهم بالعدل
2015-07-16

المختار ولد محمد

صحافي من موريتانيا


شارك
ليلى العطّار العراق

"الحرب على الفساد" وغيرها من الشعارات السياسية الرنانة التي يركز عليها مرشحون من المعارضة والموالاة، ما تلبث أن تأخذ مكانها من النسيان بمجرد نجاح المرشح. وينخر الفساد المجتمع في بلد يرفع على الدوام الشعار، وهو لا يطبق القانون إلا على الضعفاء.
وقد ظلت موريتانيا توصف بأنها بلد الحق والعدل، حتى وهي تحت حكم المستعمر الفرنسي الذي نصَّب، بالرغم من جبروته، قضاة مشهودا لهم بالعدل والورع. ومع استقلال البلاد عن فرنسا عام 1960، احترم الرئيس الموريتاني الاسبق المختار ولد داداه وهو كان محامياً من الرعيل الاول، القضاء ولم يجرؤ أياً كان، مهما كان نفوذه على التطاول على القضاء. لكن موريتانيا عاشت بعد ذاك فوضى عارمة اصبح خلالها القضاة مجرد عمال بسيطين تحت إمرة الضباط.
وقبل عامين، عزل الرئيس الموريتاني الحالي وهو لواء سابق في الجيش استولى على السلطة بانقلاب عسكري، عزل رئيس المحكمة العليا القاضي السيد ولد الغيلاني، مع ان القانون ينص على أنّ من حق رئيس المحكمة العليا منذ استلامه لمهامه الاستمرار في منصبه خمس سنوات، ولا يجوز إعفاؤه منها دون مانع كالموت. الا ان الرئيس فرض اقالته بالقوة، واستعان بأمن قصر العدالة ليحول دون دخول رئيس المحكمة الى مكتبه.
وخلال العقود الأربعة الماضية، داس الضباط القضاء والقضاة، ووظفوا العدالة حسب رغباتهم، ما دفع مصرفا فرنسيا كبيرا مثلا الى الخروج من موريتانيا بسبب انعدام القضاء، الذي يمكنه بت مسألة خسارته ملايين الدولارات "من غير وجه حق" حسب زعمه. والأمثلة أكثر من أن تحصى.

أزمة وزير العدل ونادي القضاة

فجر لقاء تلفزيوني أزمة جديدة بين وزير العدل ونادي القضاة الذي يتهم الوزير بتسييس القضاء. ثم قدم قضاة من النادي استقالاتهم احتجاجاً على ظهور أمينه العام في برنامج بثه التلفزيون الحكومي واستضاف وزير العدل. واكد بعض المستقيلين ومن بينهم عضو المجلس الوطني لنادي القضاة، ان مشاركة الأمين العام باسم نادي القضاة في برنامج سياسي من دون التشاور مع القضاة كان مجرد ديكور، ومنحة مجانية لشرعية الوزير ووزارته.
وأشار القضاة المستقيلون إلى أن هناك قضاة آخرين يفكرون في الاستقالة من النادي، ولكنهم يخضعون لضغوطات تمنعهم من ذلك، ويؤكدون ان التدخل "السافر" من السلطة التنفيذية وتعطيل الاحكام القضائية التي لا تخدم النافذين، هي من بين أمور أخرى باتت تعمق الشرخ بين وزير العدل والمحامين والقضاة وحتى كتاب الضبط الذين يعانون بدورهم من التهميش وسط التدخل السياسي في ما تبقى مما يطلق عليه "قطاع العدالة".

الرئيس يؤكد والمحامون ينفون

وكان الرئيس الموريتاني قد قال خلال افتتاحه للسنة القضائية في البلاد، ان الدولة لن تألو جهدا في سبيل المحافظة على استقلال القضاء وبناء دولة القانون، وأن تعزيز الحريات العامة والخاصة مرهون باحترام القانون وإقامة العدل بين الناس.
لكن الرئيس الذي قال انه "عمل جاهدا خلال السنوات الست الماضية من حكمه على عصرنة الجهاز القضائي وتخصيص الموارد اللازمة لحسن أدائه وتحيين النصوص لتكون قادرة على مواكبة مستجداته وإرساء قواعد دولة القانون من خلال السهر على تحقيق الاستقلال التام للقضاء وخضوع الجميع للقانون"، فوجئ بأحد المحامين وهو ينزع معطف المحاماة ويضعه على طاولة الرئيس احتجاجا على تردي العدالة. وأرفق المحامي بمعطفه بياناً موقعاً باسمه عبر فيه عن استيائه من وضعية العدالة في البلاد وتبعيتها الواضحة للسلطة التنفيذية. وقال إن تصرفه "جاء احتجاجاً على وضعية العدالة وتضامناً مع جميع المتضررين من غيابها". وأوضح أنه "في يوم مخصص لتقييم العدالة، لم يجد تعبيراً أفضل من نزع سترته".

التعذيب متواصل رغم الوعود

وفيما رفضت الحكومة الإقرار بوجود أي عمليات تعذيب في السجون، عبر وزير العدل عن عدم ارتياح الحكومة لأوضاع السجون في البلاد، ولكنه شدد على أنها أحسن بكثير مما كانت عليه في السنوات الماضية، مشيراً إلى أن هنالك خططا حكومية لتحسين أوضاع السجناء من خلال تشييد سجون جديدة.
ووسط هذا الجدل دعا نقيب المحامين لوضع آليات لمكافحة التعذيب، وطالب بإعداد "قانون خاص يجرم أشكال التعذيب، ونشره وإدخاله في منظومة العلم الجنائي". ويتحدث محامون عن تعذيب منظم للمساجين، ويؤكد تقرير لنقيب المحامين السابق أن التعسف أصبح "ممارسة وتوجهاً" في البلاد. ويشير التقرير الى وجود "اعتقالات تعسفية عن طريق سلطة تنفيذية تتحكم عن طريق نيابة لا تكترث باحترام القانون وقضاء ضعيف وخاضع على نحو مخجل"، وفق تعبير التقرير. وأمام هذ الوضع أكد رئيس الغرفة المدنية بولاية نواكشوط الغربية أن المشرِّع الموريتاني يتعامل تشريعيا مع جريمة التعذيب بمحاباة كبيرة: فهو وان رفع مستوى تجريمها بجعلها عقوبة ضد الإنسانية لا تقبل التقادم، إلا انه أضعف مستوى العقاب الذي لا يتجاوز في الحالة العادية عشر سنوات. وهو يدعو القاضي لإيجاد ضمانات أساسية لمكافحة التعذيب أثناء التوقيف، والحراسة النظرية، والتسليم، وقضاء المحكومية العقابية، وذلك بوضع آليات قانونية وقضائية تسمح بالمراقبة، وفرض الرقابة اللصيقة على تلك المراحل كافة، ومن أهمها ضمانة التواصل مع المحامي وحضوره بدون قيد عند الاحتجاز وفي فترة الحراسة.

ومن المفارقات الدالة هي أن تدهور القضاء الموريتاني أتاح تدخل حتى الأجانب، فهذه سفارة واشنطن دعت إلى مراجعة أحكام سبق أن أصدرتها محكمة الجنح، وذهبت الى القول إنها "تحث مرة أخرى محكمة الاستئناف على مراجعة كل الأحكام دون تأخير، وإلى التعامل مع هذه القضايا الهامة بطريقة عادلة ونزيهة وشفافة"!

للكاتب نفسه