تحولات في المشهد السياسي السوداني

اتفاق السلام الأخير المبرم في جوبا، بين الحكومة السودانية ومعظم الحركات المعارضة، المسلحة وغير المسلحة: المزايا والنواقص..
2020-11-08

السر سيد أحمد

كاتب صحافي من السودان مختصّ بقضايا النفط


شارك
يوسف ياسين ابراهيم - السودان

يفترض أن يصل إلى الخرطوم، في منتصف هذا الشهر، وفد من قيادات "الجبهة الثورية" الذي يضم الحركات المعارضة المسلحة في دارفور ومنطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، وحركات أخرى معارضة لم تحمل سلاحاً من وسط وشرق وشمال السودان، وذلك للبدء في تنفيذ اتفاق السلام الذي تم التفاوض عليه لمدة عام، والتوقيع عليه الشهر الماضي في جوبا عاصمة جنوب السودان.

ومع أن الاتفاق لا يعتبر شاملاً كونه لم يضم "الحركة الشعبية" جناح عبد العزيز الحلو، وهو الأقوى عسكرياً، إذ يسيطر على جزء من منطقة جبال النوبة، وحركة عبد الواحد محمد نور الذي يتمتع بنفوذ في معسكرات النازحين من دارفور، إضافة إلى وجود عسكري محدود في منطقة جبل مَرّة، إلا أن الاتفاق ينبئ بتحولات عميقة في بنية السلطة في السودان لصالح قوى الريف، خاصة دارفور وذلك على حساب منطقة الوسط النيلي التي ظلت مهيمنة على المشهد السياسي والاقتصادي منذ نيل البلاد استقلالها قبل أكثر من ستة عقود. بل اعتبر البعض أن ما يحدث عبارة عن إعادة إنتاج لسيطرة مناطق غرب السودان على الأوضاع، مثلما حدث إبّان الثورة المهدية، وفي عهد الخليفة عبد الله التعايشي تحديداً (1885- 1899) الذي قام بتهجير العديد من قبائل غرب السودان إلى عاصمته أم درمان، لتعزيز قبضته السياسية على الحكم في وجه معارضيه.

وكان القائد الراحل الدكتور جون قرنق يرى أن الدولة السودانية تعاني من خلل بنيوي، يتمثل في تهميش المناطق الريفية لصالح المركز، الأمر الذي أدى إلى اشتعال الحروب، والنزاعات الأهلية حتى قبل حصول السودان على استقلاله، وأنه لا بد من إعادة قسمة السلطة والثروة، وفتح الطريق أمام السلام السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ومن معطف الحركة الشعبية التي كان يقودها قرنق، خرجت الحركات المسلحة الأخرى، بهدف استعدال الميزان الوطني لصالح قوى الهامش.

وبموجب اتفاق السلام الأخير المبرم في جوبا، فإنه سيتم إضافة ثلاثة أعضاء من الجبهة الثورية إلى مجلس السيادة الذي يمثل رأس الدولة، إلى جانب تخصيص خمسة مقاعد وزارية، و75 مقعداً من إجمالي 300 عضو للمجلس التشريعي الذي سيتم تكوينه بالتعيين، وكل هذا على مستوى أجهزة الحكم العامة في البلاد.

مزايا لبعض المناطق

على المستوى الولائي ومناطق النزاع، قضى الاتفاق أن تحصل دارفور مثلاً على 40 في المئة من الموارد المالية النابعة من الإقليم، ليتم استخدامها في دارفور نفسها لمدة عشر سنوات، وكذلك تخصيص نسبة 20 في المئة من الوظائف الوطنية الرئيسية لأبناء دارفور، إلى جانب إعفاء أبناء الإقليم من الرسوم الدراسية لمدة عشر سنوات، وأن تقوم الحكومة المركزية بدفع مبلغ 100 مليون دولار لصالح دارفور بعد شهر من توقيع الاتفاق، إضافة إلى مبلغ 750 مليون دولار سنوياً، وعلى مدى عشر سنوات، وأن تحصل الحركات الموقّعة على الاتفاق باسم دارفور على 40 في المئة من المناصب السياسية والتنفيذية في الإقليم.

ينبئ الاتفاق بتحولات عميقة في بنية السلطة في السودان لصالح قوى الريف، خاصة دارفور، وذلك على حساب منطقة الوسط النيلي التي ظلت مهيمنة على المشهد السياسي والاقتصادي منذ نيل البلاد استقلالها قبل أكثر من ستة عقود.

وبالنسبة لمنطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، فقد تم الاتفاق على أن تتمتعا بالحكم الذاتي الذي يعطيهما سلطات كبيرة تشريعية وتنفيذية لإدارة شؤونهما، إضافة إلى 40 في المئة من العائدات لإنفاقها في المنطقتين، و30 في المئة من السلطة السياسية والتنفيذية، وحوالي 8 في المئة من الوظائف الوطنية لأبناء النوبة والنيل الأزرق لمدة عشر سنوات.

لكن بالنسبة للمسارات الأخرى في شمال ووسط شمال السودان، فقد تعرضت إلى انتقادات حادة من قبل أبناء هذه المناطق، خاصة شرق السودان. حيث أدت الاحتجاجات إلى سقوط بعض القتلى، بل وإلى إغلاق ميناء بورتسودان لفترة قصيرة، وإيقاف الحركة على طريق بورتسودان-الخرطوم البري الذي يعتبر شرياناً رئيسياً للاقتصاد السوداني.

تلخصت الاحتجاجات في أن هذه الأقاليم عانت من التهميش هي كذلك، مع أن الحكام كانوا من شمال ووسط السودان، إلا أنهم لم ينفذوا أجندة لصالح الوسط، وغالبية حكم السودان، وعلى مدى 52 عاماً كان عبر ثلاثة أنظمة عسكرية.

مقالات ذات صلة

ولهذا انصبَّ النقد على اتفاق السلام، في أن الأقاليم الأخرى لم تحصل على مثل المزايا التي حصلت عليها دارفور، ومنطقتا النيل الازرق وجنوب كردفان، وإنما اقتصرت على وعود عامة، وبدون نسب أو أرقام محددة فيما يتعلق بقسمة الثروة. وكان أن انطلقت بعض الدعوات، خاصة في شمال السودان، أنه ما لم يتم إعفاء أبناء الإقليم من رسوم الدراسة، فإنهم سيمتنعون عن دفع تلك الرسوم، هذا بالإضافة إلى تساؤلات عن هوية وتفويض من قاموا بالتوقيع على هذه الاتفاقيات، وإلى أي مدًى يمثلون مناطقهم.

كان القائد الراحل الدكتور جون قرنق يرى أن الدولة السودانية تعاني من خلل بنيوي يتمثل في تهميش المناطق الريفية لصالح المركز، الأمر الذي أدى إلى اشتعال الحروب، والنزاعات الأهلية حتى قبل حصول السودان على استقلاله، وأنه لا بد من إعادة قسمة السلطة والثروة، وفتح الطريق أمام السلام السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

الإشكال الرئيسي ينبع من أن دارفور ومنطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان شهدت نزاعاً مسلحاً اعترفت به الدولة، وتم التعامل معه إقليمياً وعالمياً عبر الوساطات من خلال الاتحاد الإفريقي وبعض الدول الغربية، بينما لم تشهد المناطق الأخرى عملاً مسلحاً على الرغم من وجود معارضة مدنية. ولم يكن نظام البشير المطاح به يهتم بها، بل ورفض التعامل مع الجبهة الثورية ككيان معترف به، وكان يتفاوض مع الحركات المسلحة كلٌ على حده.

بعد التغيير الذي شهده السودان، تبنت الحكومة أسلوباً مختلفاً، وأصبحت تطلق عبارة "الكفاح المسلح" على المتمردين السابقين، كما وافقت على التفاوض مع الجبهة الثورية كجسم واحد، بل وواصلت التفاوض معها حتى عندما انقسمت إلى جبهتين.

من يفاوض من؟

من الناحية الشكلية البحتة، فإن الذي قاد عمليات التفاوض باسم الحكومة أو المركز، كان الفريق محمد حمدان حميدتي، نائب رئيس مجلس السيادة، وعضوي المجلس محمد حسن التعايشي والفريق شمس الدين كباشي. الاثنان الأولان من دارفور، والثالث من منطقة جبال النوبة، وهي مناطق النزاع، وهو ما جعل البعض يشير إلى أن ممثلي مناطق الريف والهامش كانوا يفاوضون ناس الريف والهامش، وذلك بدلاً عن شخصيات تمثل الوسط النيلي.

لكن هناك وجهة نظر أخرى، تشير إلى أن وجود هذه الشخصيات وتحديداً حميدتي، كان مطلوباً وجودُه لضمان التوصل إلى اتفاق، خاصة في دارفور. فمن المعروف أن حميدتي لعب دوراً رئيسياً أبّان عهد الإنقاذ في التصدي للحركات المتمردة، وخاض ضدها معارك متّبعاً أسلوب حرب العصابات نفسه، ومحققاً انتصارات للدرجة التي قلص فيها الوجود العسكري لتلك الحركات، حتى لم تعد تشكل بعدها خطورة أمنية تذكر. ولو أنه قام بذلك لصالح أجندة المركز الذي كان يمثله "نظام الإنقاذ" وقتها، وفي إطار الصراع بين القبائل ذات الأصول العربية التي ينتمي إليها حميدتي، وتلك التي من أصول إفريقية مثل الزغاوة التي تقود حركتي العدل والمساواة وجيش تحرير السودان.

انصبَّ النقد على اتفاق السلام في أن الأقاليم الأخرى لم تحصل على مثل المزايا التي حصلت عليها دارفور ومنطقتا النيل الأزرق وجنوب كردفان، وإنما اقتصرت على وعود عامة، وبدون نسب أو أرقام محددة فيما يتعلق بقسمة الثروة.

من المهم أيضاً الإشارة إلى أن هذا هو أول اتفاق سلام يتم بين حركات متمردة وحكومة مدنية في السودان. فالاتفاق الأول الذي أنهى حرب الستة عشر عاماً، أبرم في العام 1972 على عهد الرئيس الأسبق العسكري جعفر النميري، والاتفاق الثاني في العام 2005، الذي أنهى حرب عقدين من الزمن مع نظام عسكري آخر بقيادة عمر البشير.

****

ويبقى السؤال حول مدى إمكانية صمود هذا الاتفاق المبرم مع حكومة مدنية جاءت إثر ثورة شعبية سلمية، وتستند إلى حاضنة سياسية هي "قوى الحرية والتغيير" ("قحت") التي لا تتمتع بوحدة في الإرادة والقيادة، لأنها جَماع أحزاب ومنظمات عديدة يربط بينها العداء للنظام السابق أكثر من اتفاقها على برنامج بديل، كما اتضح من خلال فترة الخمسة عشر شهراً منذ توليها السلطة، مع ملاحظة أن اتفاق السلام يحتوي على نصوص من الصعوبة بمكان تنفيذها مثل الالتزامات المالية التي تشكل عبئاً إضافياً على الوضع الاقتصادي المتردي، إلى جانب ما أثارته من احتجاجات لدى الأقاليم الأخرى وكيفية التعامل معها.

وأخيراً فمن الواضح أن دخول الحركات المسلحة ببعدها الحربي سيكون إضافة للمكون العسكري في مؤسسات السلطة الانتقالية، وخصماً من رصيد المكون ببعده السياسي المتمثل في "قحت".. ويبقى الانتظار لمعرفة إذا كان هذا التأثير سيتمدد إلى الانتقاص من مدنية الدولة، وأهم من ذلك إلى أي مدًى سيضعف أو يقلل من التوجه إلى البناء الديمقراطي، وهما من أهم أهداف الحراك الشعبي الذي أطاح بالنظام السابق.

مقالات من السودان

للكاتب نفسه

أوبك وعودة مختلفة لأجواء السبعينات

في الخامس من الشهر الجاري، تشرين الأول/ أكتوبر، اجتمعت "أوبك بلس" وقررت تقليص الإنتاج بمقدار مليوني برميل يومياً، وهي الخطوة التي استفزت واشنطن ودفعت ببايدن إلى التهديد بأنه ستكون لها...