الغموض يلف التنقيب عن النفط في القرن الأفريقي

في سريّة تامة، ومن دون تغطية إعلامية تُذكَر، عُقِدَ في 27 نيسان/ابريل الماضي "المنتدى الدولي حول النفط والغاز والمناجم بالصومال" (International Forum on Somalia Oil, Gas & Mining)، وذلك في العاصمة البريطانية، ملقيا بظلال كثيفة حول مستقبل التعامل الرسمي مع الثروة الوطنية بهذه الطريقة السرية والبعيدة عن الشفافية، ولا سيما في ظل ضعف الموقع التفاوضي للحكومة الفيدرالية، غير القادرة
2015-06-11

محمود عبدي

كاتب من الصومال


شارك
نقوش على الصخر في كهف لاس غيل قرب مدينة هرجيسا الصّوماليّة

في سريّة تامة، ومن دون تغطية إعلامية تُذكَر، عُقِدَ في 27 نيسان/ابريل الماضي "المنتدى الدولي حول النفط والغاز والمناجم بالصومال" (International Forum on Somalia Oil, Gas & Mining)، وذلك في العاصمة البريطانية، ملقيا بظلال كثيفة حول مستقبل التعامل الرسمي مع الثروة الوطنية بهذه الطريقة السرية والبعيدة عن الشفافية، ولا سيما في ظل ضعف الموقع التفاوضي للحكومة الفيدرالية، غير القادرة على فرض نفوذها على كامل التراب الوطني أمام الولايات المتكاثرة والكيانات السياسية القائمة، ناهيك عن جدّيتها في هزيمة "حركة الشباب المجاهدين" المسلحة، والتي أعلنت ولاءها لتنظيم القاعدة.

الفساد الحكومي

الأوساط الحكومية الصومالية غارقة في الفساد، والتقارير الأممية توثق لحالات نهب وسوء استغلال للسلطة وعبث بالأموال العامة وتصرّف غير القانوني بالمساعدات والهبات، وتهديد حياة المسؤولين الراغبين في تطهير محيط عملهم من منابع الفساد، ومن أجواء ذلك استقالة السيدة محافظة البنك المركزي السابقة.
وتزداد الأمور تعقيداً بوجود كيانات متعددة ذات حدود افتراضية غير واضحة، ومنها الكيان السياسي الأقدم في البلاد بعد انهيار الدولة المركزية، أي "جمهورية أرض الصومال" التي أعلنت انفصالها من طرف واحد من دون اعتراف دولي، مؤكدة وراثة "هرجيسا" لكامل أراضي المحمية البريطانية السابقة، التي باتحادها مع المستعمرة الإيطالية حققت وحدة جزءين من الأجزاء الخمسة للأراضي الصومالية، وفضت شراكتها مع "مقديشو" نتيجة أعمال تهجير بالغة ترقى الى التطهير العرقي لبعض أهم مكوناتها. وعلى الرغم من السلام والاستقرار النسبيين الذي عاشته وتعيشه "أرض الصومال/ صوماليلاند"، فإن إصرارها على أن تُعاَمل كدولة معترف بها من قبل المجتمع الدولي أدخلها في حالة من العزلة الفعلية، وأغلق الأفق على إمكانيات الاستثمار الدولي، خاصة مع غياب كامل للنشاط المصرفي بالشكل المتعارف عليه، والذي كان من الممكن أن يتيح القيام بصفقات تتناسب مع حجم البلد وإمكانياته، ناهيك عن التعقيدات المؤدية غالبا إلى الفشل، التي تنتصب أمام الشركات والهيئات الدولية نتيجة للاحتياج الدائم للحصول على موافقة "مقديشو" و "هرجيسا" معاً وكلاً على حدة، تحت طائلة تعطيل أحد الطرفين للاتفاق إمّا باللجوء للمجتمع الدولي من قِبَل "مقديشو" أو بالمنع من العمل على الأرض من قِبَل "هرجيسا".
يترافق ذلك مع ازدياد الكيانات السياسية التابعة "اسمياً" للحكومة المركزية أو الفيدرالية، والناشئة عن توازنات القوى التي خلقها انحلال الفصائل القبلية، وانتقالها لمرحلة متطورة ممثلة بالولايات التي بدأ عصرها بإعلان ولاية "أرض البونت" سنة 1998، التي تعيش حالة من الحكم الذاتي أتاحت لها تحقيق قدر كبير من الاستقرار والسلم الأهلي، مع قدرة على المساهمة في صنع القرار في العاصمة "مقديشو"، بما أهّلها لتكون بجدارة أول منطقة في بلاد الصومال يتم فيها استئناف أعمال الاستكشاف البترولي بحفر بئري "شبيل 1" و "شبيل 2" سنة 2012. وعلى الرغم من كون الولاية مصدر إلهام لكثير من الأقاليم الراغبة في الالتحاق بركب استضافة شركات التنقيب والاستكشاف، إلا أن السمة العامة التي تعيشها البلاد بكل مناطقها دون استثناء، والمهدِدة للأعمال المباشرة على الأرض، تتمثل في بروز توترات مفاجئة مرشحة دائما للاشتعال والاتساع، نتيجة لمزاجية القيادات العشائرية والعائلية في مناطق الاستكشاف والتنقيب، وذلك بغية إحراج الكيانات السياسية القائمة وابتزاز الإدارات والشركات في آن واحد.

بلاد الصومال نطاق عمل حصري

كان البريطانيون أول من جمع البيانات ونشر البحوث حول الثروات الباطنية في القرن الأفريقي خلال فترة الاستعمار، ولحق بهم الإيطاليون، ما أدى إلى توفر معلومات أولية ومهمة حول طبيعة الاستثمار الذي يمكن القيام به في بلاد الصومال. وبانتهاء الحرب العالمية الثانية وهزيمة دول المحور، ووقوع البلاد تحت الوصاية البريطانية ثم الدولية، تمكن البريطانيون من توسيع دائرة أعمالهم لتشمل معظم القرن الأفريقي (شبه الجزيرة الصومالية). واستمر الحضور البريطاني القوي حتى قيام انقلاب سنة 1969، وانتقال الصومال إلى المعسكر الشرقي، الذي سرعان ما اصطدم به نظام الجنرال محمد سياد بري بعد دخوله في حرب 1977-1978م بدعوى تحرير إقليم الصومال الغربي من إثيوبيا. وبخسارة الصومال للدعم السوفياتي، غدت البلاد مفتوحة للاستثمارات الأميركية، ما مكّن الشركات الأميركية الكبرى من الحصول على نصيب الأسد في قطاعات التنقيب التي غطت البلاد بطولها وعرضها في برّها وبحرها. وبقيت الشركات البريطانية تالية في حجم التراخيص والامتيازات، مع محاولات ناجحة إيطالية وفرنسية وصينية للحصول على أنصبة. إلا أنه مع اتساع حالة التبرم من النظام الديكتاتوري وتوالي التمردات والثورات في أنحاء البلد، علقت أعمال التنقيب بسبب "القوة القاهرة" في الفترة ما بين 1989-1991. إلا أن موقف شركة "كونوكو" الأميركية ودورها الاستثنائي في التمهيد للإنزال الأميركي سنة 1993، أثار علاقة الشركات الدولية بالاحداث السياسية في شبه الجزيرة الصومالية.
توالت المؤشرات الواضحة على كون أعمال التنقيب عن الثروة النفطية حكراً على لاعبين دوليين رئيسين اثنين، خاصة بعدما حدث مع الوفد النفطي الآسيوي (ماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة) الذي قام بزيارة إلى "أرض الصومال/صوماليلاند" سنة 1997، تعرضت "للاختصار"، واعتبر ذلك قطعاً للطريق أمام الصين التي جاء الوفد الآسيوي تمهيداً لها. كما أن العلاقات الصومالية الروسية أثمرت الكثير من المشاريع والإنجازات، إلا أن مساعي رجال أعمال محليين في جلب استثمارات روسية للعمل ضمن مجالات التنقيب عن المعادن والأحجار الكريمة واستغلال الأنهار الجوفية، وتوليد الطاقة الكهربائية وغيرها، باءت جميعها بالفشل مؤدية إلى خسائر مالية بالملايين للطرفين، بسبب غياب التعاون الحكومي والعراقيل المتعمدة الموضوعة في طريق الحصول على التراخيص اللازمة لمباشرة العمل، نتيجة لقلق المسؤولين الحكوميين من تبعات الدخول الروسي للبلاد، بصورة مخالفة لرضا أطراف دولية "معيّنة" يُخشى من غضبها إذا تجاوزت السلطات المحلية الخطوط الحمراء المرسومة بوضوح في هذا المجال.

ضياع البيانات وإخفاؤها والمعلومات المضللة

على الرغم من أن سقوط النظام وانهيار الدولة المركزية في الصومال كان من أكبر الأحداث المأساوية لجهة تبعاتها على الشعب الصومالي، فإن نكبة أخرى هائلة ظلّت خارج مركز الاهتمام الإعلامي، وهي المتمثلة في نهب وحرق مستودعات وزارة المياه والثروة المعدنية في "مقديشو"، ما عنى ضياع كل ما كان بين أيدي الصوماليين من بيانات ودراسات واختبارات ونتائج أعمال التنقيب والاستكشاف التي تمت منذ البداية، كونها محفوظة في أرشيف الوزارة القائم ضمن تلك المستودعات منذ الخمسينيات.
ومع بدء مرحلة جديدة في منح امتيازات للتنقيب والاستكشاف في البلاد في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدا جلياً أن الشركات العاملة والجهات المانحة للتراخيص تتعمد اتباع أسلوب بعيد عن الشفافية، بدءاً بطبيعة العقود الموقعة، مروراً بمراحل العمل المتحققة على الأرض، وصولاً إلى إخراج نتائج أعمال المسح والاستكشاف.. ما شحن الأجواء على المستوى المحلي بالكثير من التكهنات المتشائمة، خاصة أن الجهات المسؤولة في الأقاليم تتعمّد استثمار اللقاءات مع قادة شركات التنقيب والاستكشاف لغايات سياسية قصير النظر، بغية الحصول على المزيد من التأييد والنفوذ، من خلال بث توقعات مبالغٍ فيها عبر وسائل الإعلام المحسوبة عليها، بما يرفع سقف الترقب لدى المواطنين، ليلي ذلك حالة من الإحباط التام والتبرّم المولّد لتوترات جديدة في مناطق أعمال شركات النفط، إضافة للمدن الكبرى.
وقد يكون ذلك هو مصدر القناعة الشعبية بأن إحدى بئري النفط المحفورين في واديي "نوغال" و "طرور" دخلت مرحلة الإنتاج منذ الوهلة الأولى، على عكس ما أعلنه تحالف الشركات (أفريكا أويل كورب، وهورن أويل، وريد إمبرور). وتلك القناعة كانت متوقعة نظراً لاكتشاف مقدار كبير من التضليل الذي حرصت الشركات المنفّذة على نشره، ناهيك عمّا جرى في "أرض الصومال/صوماليلاند" من قيام الشركات المقاولة بالباطن بالمبالغة في تدمير الغطاء النباتي لحد الضعف على امتدادات بلغت ما بين 130 و136 كيلومتراً في مناطق العمل شبه الصحراوية، بداعي الرغبة في سرعة إنجاز العمل، للقيام بتشغيل معدات زائدة عن الحاجة بصورة لا يمكنها تحقيق الهدف المرجو تقنياً حسب خبراء، والتعامل السيئ الذي أثار نقمة السكان نتيجة لاعتداء أحد العاملين الأجانب على أحد الوطنيين من أبناء القبائل المقيمة في منطقة العمل تلك، وتجاهل مدير الموقع للمسألة حتى كاد الوضع يخرج عن السيطرة ويتجه الى التوتر المسلح والنهب، ما أدى لانسحاب العاملين الأجانب خلال ثلاثة أيام، وتسريح المهندسين والفنيين والعمال الوطنيين والبدء بنقل المعدات، والإعلان عن أن الإجراء الاستثنائي راجع لأسباب "سياسية - أمنية"..

البحث عن حلول

إن التقديرات التي خرج بها الخبراء من وجود احتياطي نفطي يُقدّر بـ11 مليار برميل حسب مركز Heritage للدراسات السياسية، ومبادرة شركات الاستكشاف النفطي إلى دخول ساحة العمل في شبه الجزيرة الصومالية رغم الظروف، يجعل من الضروري إيجاد حلول للمشكلات المفتعلة التي تشوب العمل في المجال النفطي بالبلاد، ليمكن التفرّغ لحل المشكلات المزمنة التي أفرزتها طبيعة الأوضاع التي مرت بها المنطقة. وقد تكون أولى الخطوات الواجب اتباعها لضمان سلاسة العمل على الأرض، بناء قنوات محلية مستقلة لنقل المعلومات والبيانات بين الشركات والجهات الرسمية ووسائل الإعلام والمواطنين، بصورة تضمن حسن تعامل جميع الأطراف مع المشاريع الجارية، وذلك لتجاوز حالة الابتزاز التي قد يمارسها بعض الوجهاء التقليديين، وكذلك لضمان توزيع عادل لفرص العمل بين الفئات المتوطنة المتعددة، وتسهيل حصول العاملين على التدريب المطلوب لأداء المهام الموكلة إليهم. وكذلك إنشاء مراكز دراسات مستقلة ومحلية، قادرة على جمع البيانات وتحليلها ليتسنى تأمين النصح المطلوب لكل الأطراف المنخرطة والمتأثرة بأعمال الاستكشاف والتنقيب.

للكاتب نفسه