فصل في الجحيم

هو لاجئ من إحدى دول القرن الأفريقي، عانى تجربة اللجوء إلى اليمن، ثم من اليمن إلى الصومال. تحدثنا سوية في مواضيع شتّى، منها بحثه عن وسيلة ليجد مصدر دخل، ويقترح مشاريع وطرقا لتوفير أمور وجد أنّها تنقص المجتمع هنا. استمعت إليه باهتمام وتقدير بالغ، وحين وجدني مهتماً لأمره بصورة جعلته يطمئن، شكال لي أنّ اللاجئين من اليمن أياً كانت أصولهم يعانون الإهمال الشديد. تختلف جنسيات هؤلاء ما بين اليمني
2015-11-12

محمود عبدي

كاتب من الصومال


شارك
عمار النحاس - سوريا

هو لاجئ من إحدى دول القرن الأفريقي، عانى تجربة اللجوء إلى اليمن، ثم من اليمن إلى الصومال. تحدثنا سوية في مواضيع شتّى، منها بحثه عن وسيلة ليجد مصدر دخل، ويقترح مشاريع وطرقا لتوفير أمور وجد أنّها تنقص المجتمع هنا. استمعت إليه باهتمام وتقدير بالغ، وحين وجدني مهتماً لأمره بصورة جعلته يطمئن، شكال لي أنّ اللاجئين من اليمن أياً كانت أصولهم يعانون الإهمال الشديد. تختلف جنسيات هؤلاء ما بين اليمني والصومالي والنيجيري والفلسطيني والسوري وغيره.. أناس عبروا البحر للنجاة بحياتهم بحثًا عن الأمان، مع التركيز على اليمنيين الذين غادروا بلادهم للمرة الاولى كتجربة لجوء، تاركين وراءهم بيوتهم وأملاكهم ومصادر رزقهم، أو ما بقي منها، إلى المجهول الذين ظنّوا أنّه سيكون أرأف بهم من وقع القنابل وأزيز الرصاص الطائش.
هناك عائلات يمنية لجأت الى الصومال، تعاني الإهمال الشديد بسبب اللامبالاة والتسويف في تقديم الدعم، نتيجة لعوامل منها الفساد الإداري لدى الجهات المعنية برعايتهم وخدمتهم، والاختلاسات (التي أشار اللاجئون إليها) من قبل منظمات نقابية وأخرى غير حكومية تدّعي أنها تقدم العون لهم، رغم أن كل ما يحصلون عليه هو المقابلات التي ترهقهم بالأسئلة، والاتصالات التي تدعوهم لمراجعة الجهات تلك، متنقلين من طرف المدينة إلى الطرف الآخر، من دون أن يعودوا بشيء سوى التبريرات تلو التبريرات للتقصير الحاصل في منحهم ما يحتاجون إليه. أساسيات الحياة والحفاظ على كرامتهم هو كل ما يحتاجونه، بضع مئات من الدولارات يسدد نفقات الحياة المرتفعة هنا: أجرة منزل وفواتير الماء والكهرباء، رسوم دراسة مدرسية للأطفال، ما يكفي لدفع أجرة الباص الذي ينقل الأطفال إلى المدارس، منحة جامعية.. أشياء ينتفي وجود من يوفرها لدرجة تندّر أب يعيش هو وزوجته وأبناؤه الستة في بيت نظيف، خالٍ تماماَ من أي أثاث سوى جهاز تلفاز يندم على إحضاره معه من اليمن. يقول: ننتقل للبيت، نقوم بتنظيفه، وخلال يومين نضطر لإخلائه لأننا لا نملك بدل الإيجار الشهري.
نزور مقر الجالية اليمنية في "هرجيسا". الاستقبال جيّد والحديث الجانبي مع أحد القائمين عليها يتشعّب. يقول كلاماً غريباً عن عدم الرغبة في أن يبلغ الأمر حدّ بناء مخيّم للاجئين اليمنيين. أتّفق معه على أن تجميع اللاجئين في مخيّم سيحطّ من كرامتهم في المجتمع الذي يقيمون فيه، لكنني أتساءل: من الذي له الحق في أن يرغب أو لا يرغب؟ هل هذه الجمعية الأهلية المسجلة كمنظمة غير حكومية، أم الناس أنفسهم؟ يأتي التبرير أن اليمنيين الذين حضروا إلى البلد، ليسوا جميعاً يمنيين. ومن الذي يحدد ذلك؟ أليسوا حاملين لوثائق يمنية صادرة من جهات حكومية في بلدهم؟ الجواب: هناك نسبة كبيرة لها أقرباء هنا في البلد. وأستفسر: هل حضروا إلى هنا عابرين البحر للسياحة؟ ألم يدفعهم الخوف وتدهور الأحوال لترك كل شيء مألوف لديهم ليحصلوا على الأمان هنا؟ يغادر هذا المسؤول بعدما ضجر، وننتقل للشخص المقصود من قدومنا إلى مقر الجالية. الرجل مشغول في توزيع مبالغ مالية. ندخل في حديث عام، لكن نجد النبرة نفسها: "ليس كل اليمنيين يمنيين"! وينتقل التبرير للوم الحكومة هنا على أنها تسجل الجميع على أنّهم يمنيون "من دون تمييز". أستفسر: هل هناك أشخاص تم تسجيلهم على أنّهم يمنيون وهم ليسوا كذلك؟ الرد: هناك من تم تسجيلهم على أنّهم يمنيون لأن ذلك مذكور في شهادة مدرسية ابتدائية! ما مصدر الشهادة، وعلى أي أساس تتم كتابة الجنسية عليها؟ ينزلق الحديث سريعاً وبعيداً، نحو المبالغ الهزيلة المستلمة من تجّار محليين، وتوزيعها بنجاح على من أمكن توزيعها عليهم من أصل ما يقرب من 2000 لاجئ مسجلين لدى الجالية، نسبة لا بأس بها منهم غادرت البلد بعدما فقدت الأمل في المساعدة!
ننقل الصورة إلى الكثيرين عبر وسائل التواصل الاجتماعي. تصلني وعود كبيرة بتأمين المساعدة، لم يصل شيء بالفعل سوى 200 دولار استلمتها للاجئ من البلد الجار الذي أدخلني في بحر معاناة اللاجئين من دون أن أجد قشّة أتمسّك بها. أسلمه المبلغ وأتصل بالرجل الكريم الذي تبرع بالمبلغ. أتركهما يتحدثان بعدما عدّ اللاجئ المبلغ ووضعه مع الوصل في جيبه. هناك سيدة فقدت زوجها في الحرب، كنت آمل أن أجد من يتكفل بأجرة بيتها المظلم، تُطرَد هي وابنتاها. يخنقني الشعور بالعجز.
تتواصل معي صديقة لترجمة عقد منحة رهنية للاجئين. العقد مجتزأ ويحوي بنودا غريبة ومهينة، وهو لمنظمة أفريقية لا أحد يمكنه أن يذكر ما الذي تفعله في الصومال على وجه الدّقة. أراجع البنود وأحاول نقل ملاحظاتي على الفقرات التي تظهر سوء نية واضحا تجاه اللاجئين، لكنني لا أجد أي آذان صاغية. أدرك أن الأمر يتجاوز شخصي، وسيتعدى إلى اللاجئين الذين سيقرأون ترجمتي للعقد الذي لا يحدد شيئاً معيناً سيقومون باستلامه على التعيين، فهناك مبلغ سيتم تحديده لكل حالة على حدة، لكن هناك أمورا غامضة بصورة مفتعلة حول الالتزامات التي يجب أن يوفى بها، وهناك كلام عن حق موظفي المنظمة في "اقتحام" و "خلع" و "كسر أقفال" أماكن وجود ما تقدمه المنظمة في منحتها إن لم يلتزم اللاجئ معها. شعرت بأنه يجب أن أتصرّف. وخلال زيارتين لمقر المنظمة أجد المقر مغلقاً في المرة الأولى ومن كان من المفترض أنهم بانتظاري قد غادروا، وفي التالية يتم حصر الأمر باستلامي أتعاب الترجمة. يختبئ الإداري الذي حادثته هاتفياً ومعه الصديقة التي أسمع اسمها ولا أحاول أن أراها، وأفضل المغادرة حتى لا أخلق موقفاً محرِجاً، وأكتشف أن صديقتي بخستني في قيمة العمل!
أضطر لنقل الأمر للمقر الرئيسي للمنظمة في "نيروبي"، عاصمة كينيا. بعد يوم، يتصل بي مدير فرع المنظمة في "هرجيسا"، يطلب لقائي فأذهب إليه. الشعور نفسه الذي خامرني في الجالية حيال طريقة لقاء هذا الشاب الكيني المدلَّل: تَصرّف بفظاظة شديدة ومحاولة للاستفزاز أو للارهاب، وتكلم بنبرة جعلته يتقمص شخصية محقق في أحد أفرع المخابرات. يلوّح بأنّه سيأتي و "محاميه" لزيارتي في مكتبي. أنبّهه إلى أنني جئت لتدارك مشكلة، والأمر لا زال داخل أروقة المنظمة. تهدأ نبرته ويتحدّث عن أن مهمته كمدير هي معرفة المشاكل لحلها، فأخبره بأن أسلوبه هو مشكلة بحد ذاته. يطلب مني أن أفصح له عن النقاط التي يجب عليه الانتباه إليها في العقد، فأنبّهه بأنه من تلك اللحظة يُعتبر كلامي استشارة وهي لقاء نظير مالي، يوافق وأملي عليه النقاط ويسجلها، ثم يعود ليُضيّع الوقت بالحديث على أنّه مصدوم من عدم تعاون "صديقتي" التي خسرتها بسبب تعاملها غير المراعي لما تمليه الثقة التي أوليتها إياها. أطلب منه أن يكفّ عن الحديث عمّا سيفعله بها وبالموظفين، لأنّه شأن داخلي لا أحتاج لسماع تفاصيله. نتّفق على الأتعاب وأغادر شاعراً بأنني دخلت جحيماً حقيقياً خرجت من أحد فصوله، وهي الفصول الممتدة التي يعيشها اللاجئ اليمني يومياً لعشرات الأسابيع هنا.

للكاتب نفسه