الاغتصاب في الصومال أداة حرب

مع حلول الصراع القبلي محل الصراع مع السلطة، أخذت ظاهرة العقاب الجماعي، والتهجير، والانتهاك، منحى جديداً، تضمَّن من بين مفرداته الراسخة ممارسة الاغتصاب، والتطهير العرقي بين فئات متناحرة ساعية لاستئصال مناوئيها، أو إخضاع غيرها من الفئات الأضعف لنطاق نفوذها.
2013-09-25

محمود عبدي

كاتب من الصومال


شارك
| en

قد لا تأخذ قضيّة ما حجمها من التركيز والأهمية في مجتمع كالمجتمع الصومالي، ما لم يخرج الشعراء بقصائد. ولا شكّ أن قضيّة شائكة كالاغتصاب في مجتمع قبلي، لم يكن يوماً سهلاً الحديث عنها بشكل مفتوح وعلني وقوي، حتى مع بروز كثيرٍ من جمعيات حقوق المرأة التي بدأت مبكراً بالتحرك... إلى أن آن خروج الشعراء بقصائدهم. فحين يقول الشاعر الصومالي أحمد محمود عبد الله: «أقسى من الموت هو الاغتصاب، لذا حرّمه الماجد»، تختفي عندها مبررات الحديث عن تلك الجرائم بتردد أو بأفواه نصف مكممة.

المرأة ضحية الصراعات الأهلية

شهد المجتمع الصومالي حالاً فظيعة من التدمير الذاتي، مع بدء التمرداتK رداً على النظام الدكتاتوري منذ نهاية السبعينيات الفائتة، وتصاعدت وتيرة الانتهاكات بشكل طاغٍ في شرق البلاد وشمالها، خلال عقد مليء بالتوتر في كل مناطق البلاد. لكن مع سقوط النظام الذي اعتمد بعض قادته العسكريين الاغتصاب وسيلة لكسر نفوس سكان المناطق المتمرِدة، وحلول الصراع القبلي محل الصراع مع السلطة، فإن ظاهرة العقاب الجماعي، والتهجير، والانتهاك، أخذت منحى جديداً، تضمَّن من بين مفرداته الراسخة ممارسة الاغتصاب، والتطهير العرقي بين فئات متناحرة ساعية لاستئصال مناوئيها، أو إخضاع غيرها من الفئات الأضعف لنطاق نفوذها.

وعلى الرغم من حال السلم والاستقرار التي نعمت بها مناطق صومالية، كـ"جمهورية أرض الصومال" المعلنة منذ 1991 من طرف واحد، وبدرجة أو بأخرى إقليم "ونتلاند" إلى الشرق منها، فإن مناطق شاسعة من الجنوب الصومالي بقيت تحت رحمة التوازنات القبلية، حتى بروز "اتحاد المحاكم الإسلامية" الذي بدأ باشاعة الأمن في تلك المناطق، لفترة لم تتجاوز ستة أشهر، لتفسد الصراعات السياسية من جديد الأمور، مؤجلة أي حلم بالاستقرار والأمن في ظل المواجهة بين اتحاد المحاكم والحكومة المنبثقة عن مؤتمر السلام في كينيا برئاسة عبد الله يوسف أحمد.

ومع تعنّت الحكومة المدعومة من الخارج، واستفزاز قادة المحاكم لدول الجوار، دخل الجيش الإثيوبي ليحسم الأمر. ولكن تدخله تسبب في فوضى جديدة، فسقطت الحكومة وخرجت "حركة الشباب المجاهدين" المتطرّفة لتبسط نفوذها على معظم مناطق الجنوب. وفي 2007، برز اسم الفتاة الصومالية فردوسة علي حاشي، ذات الخمسة عشر ربيعاً، والتي كانت واحدة من آلاف النساء اللاتي تعرّضن لحوادث مرّوعة من قبل القوات الأجنبية، بعد عقود من الإجرام البيني للصوماليين، ولتكون شاهدة على عصر جديد من امتهان المرأة وارتكاب الفظائع في حقها.

ضحية النزوح مرّة أخرى

مخيم "داداب" (الكتابة الصحيحة للاسم هي "طَطاب"، وتعني بالعربية الحصى أو صغار الحجارة) قطعة خاصة من الجحيم، وهو من الضخامة بحيث يمكن رؤيته من الفضاء الخارجي، فهو أكبر تجمع للاجئين على وجه الأرض (يقوم على امتداد خمسين كيلومتراً مربعاً حول بلدة "داداب" القديمة). ولا يعادل البؤس الذي يحمله ذلك الجزء التعس من كوكبنا، سوى تضافر رفض الساسة القبليين التوقف عن ممارسة العنصرية والإقصاء بين الصوماليين، وتطرف المتطرفين المختطِفين للدين، وممارسات السلطات الكينية التي تعتبر الصومالي كائناً دخيلاً على أرضه المحتلة، بل ومصدراً لخطر أمني محدق بكيان الدولة الكينية، وهجمات عصابات من قوميات أخرى ضد المخيم ومحيطه، يقومون بأعمال خطف واغتصاب مؤدية إلى موت الضحايا، ليس بعيداً عن مرأى ومسمع القوات الأمنية.

المخيف في ما يجري في ذلك المخيم هو ارتفاع نسبة الانتهاكات الموجهة ضد القصّر، وبروز ظاهرة تزويج الضحية من الجاني في محاولة يائسة لحمايتها من النبذ الاجتماعي، في بيئة قبلية يستوطنها الجهل والتعصّب. ومع تزايد مخاطر الوقوع ضحية لتلك الجرائم والتعديات، ترتفع كذلك نسبة زواج الفتيات القاصرات، بحثًاً عن الحماية التي تفشل الأسرة غالباً في تقديمها لبناتها، في ظل ضعف الوالد لمرضه أو عجزه أو غيابه بسبب الوفاة أو المغادرة بحثاً عن مصدر رزق لأسرته.

... وأداة للتنفيس عن البطالة والإحباط

لم تسلم المرأة من الانتهاكات المرتكَبة في حقها، حتى في المناطق الأكثر استقراراً. ففي ظل ضعف السلطات، ومع الظروف الاقتصادية السيئة الناتجة عن البطالة الشديدة والمتفاقمة، واستمرار حال عدم الاستقرار، والنزوح الفردي والجماعي نحو المدن التي تنمو سكانياً بسرعة تفوق قدرات المؤسسات - الرسمية وغير الرسمية - على تقديم الخدمات الأولية، ومع تزايد ظاهرة أطفال الشوارع على مدى أكثر من عقد ونصف، وتكوين تلك الفئة تحديداً لعصابات من المراهقين نتيجة لانعدام إمكانيات الاستيعاب والتأهيل، مع ذلك كله فقد غدا من غير الآمن على النساء الخروج بمفردهن من المنازل دون مرافقة، خاصة في أوقات هدوء الحركة في المدن، سواءً في الصباح الباكر أو في فترة الظهيرة أو في المساء.

 وصل ما تم تسجيله من حالات الاعتداء الجنسي (المتراوح بين التحرش وبين الاغتصاب الجماعي) معدلاً غير مسبوقٍ. ففي بعض المدن، أُبلغ عن معدل حالة اغتصاب واحدة يومياً، بعضها يصل في وحشيته حد فقدان الضحية لحياتها. ومما يزيد من خطورة الأمر، أن معظم ضحايا تلك الجرائم هنّ نساء ريفيات شابات، أتين بحثًاً عن عمل في خدمة المنازل في المدن، ويقوم مرتكبو تلك الانتهاكات برصدهن نتيجة لعدم معرفتهن بالأوضاع في المدينة، واستدراجهن أو مغافلتهن بعيداً عن أي حماية.

غياب المحاسبة

مع تصاعد الشكاوى والتنديدات بما قامت بارتكابه القوات الأجنبية في البلاد، مضافاً إلى ما هو جارٍ من استغلال هشاشة الوضع الأمني من قبل رجال الجيش والأمن المنتسبين إلى أجهزة الحكومة الفيدرالية، شاعت حالٌ من اليأس ومن الغضب الشديد، التي ضربت كثيراً من الآمال في تحسّن الوضع الأمني في البلاد على يد الحكومة التي تحظى بدعم دولي واسع. ومع تكرار حالات التحرّش والإساءة والاغتصاب التي يقوم بها أفراد وعناصر من أجهزة الأمن والجيش في أكثر من مكان ضمن مناطق نفوذ الحكومة، تعالت الأصوات المطالِبة بالقصاص من الجناة الذين بلغوا من الحصانة حد أن يتم إلقاء القبض على الضحية، كما في حال المرأة التي تعرّضت للاغتصاب من قبل قوات الأمن، ثم حبسها وزوجها. وهذان قرّرا فضح الأمر وعدم السكوت، وكذلك الصحافي الشاب عبد العزيز نور محمد ("كُرنتو") الذي بذل كل جهده لإيصال الجريمة إلى وسائل الإعلام، بعدما وضع على عاتقه مساعدة الضحية وأسرتها على عدم السماح بمرور الجريمة من غير فضح وعقاب... هذا على الأقل، بانتظار إقرار آليات للمحاسبة. 

مقالات من الصومال

للكاتب نفسه