الصومال: دور محتمل للمهمشين!

موقف حدث في حي ككل الأحياء، ضمن مدينة ككل المدن الصومالية الواقعة في أي من أقاليم البلاد الخمسة، القديمة أو المستحدثة: يحكى أنه في يوم من الأيام، طرق باب أحد البيوت رجلٌ متدّينٌ، ففتحت له صاحبة البيت الباب حاسرة الرأس، فارتبك الرجل وعاتبها أنه ما هكذا تخرج المرأة المسلمة لتردّ على غريب بالباب، فردّت عليه قائلة: ألستُ في "عرفكم" أقل مقاما من أن تكون لي عورة في الدين؟! لا شكّ في أنَّ الرجل
2013-06-05

محمود عبدي

كاتب من الصومال


شارك

موقف حدث في حي ككل الأحياء، ضمن مدينة ككل المدن الصومالية الواقعة في أي من أقاليم البلاد الخمسة، القديمة أو المستحدثة: يحكى أنه في يوم من الأيام، طرق باب أحد البيوت رجلٌ متدّينٌ، ففتحت له صاحبة البيت الباب حاسرة الرأس، فارتبك الرجل وعاتبها أنه ما هكذا تخرج المرأة المسلمة لتردّ على غريب بالباب، فردّت عليه قائلة: ألستُ في "عرفكم" أقل مقاما من أن تكون لي عورة في الدين؟! لا شكّ في أنَّ الرجل صُدِم لحظتها بعد أن انكشف له مقدار النفاق الذي يحمله مجتمع كامل، يدّعي أنه متمسّك بدين يدعو إلى المساواة. وهكذا طارت الحكاية آلاف الأميال من فم ذلك المتديّن، لتستقر على كل لسان. فإلى ماذا تنتمي تلك المرأة التي رمت في وجه الرجل بملامتها تلك؟؟

العرف القبلي قبل كل شيء

الموضوع شديد الحساسية في مجتمع ما زال العرف القبلي مقدّما على كل شرعة أو قانون، ما يجعل نسبة كبيرة من الكتّاب والمثقفين الصوماليين تتجنب الحديث عنه بصورة جدية، تعبّر عن التزامٍ بدعم قضية بهذا الحجم في رسوخها الممتد لعدة قرون. تلك القضية التي إن وُجد لها حل عادل، فإنها قد تؤدي إلى تغييرات مهمة، على مستويات تتجاوز الاجتماعي إلى الاقتصادي والسياسي، خاصة وأن الممارسة السياسية قائمة في كل مناطق البلد على المحاصصة القبلية. وهذه من الهشاشة بحيث تفترض إبقاء مئات الآلاف من الناس خارج نطاق السياسي، سوى بالقدر الذي يحقق حشد الأصوات، أو ضمان الهدوء اللازم لمواجهة الخصوم "ذوي المكانة والشأن"!

فئة "غبويي" المضطهدة

فمن هم أولئك البشر المعرّضون لامتهان وظلم دائمان، وما سرّ كل ما يمرون به من إساءات واستضعاف، بينما قلّما وجه وجهاء ومثقفي ومتديني الفئات الأخرى الدعوة لإنصافهم. أنهم فئة الـ"غبويى/Gabooye"، وهم يعتبرون في مجملهم سادس أكبر تجمع قبلي صومالي، ويتألفون من أربع قبائل، منها قبيلة "مديبان/Madhibaan" وهم الأكثر عدداً وانتشاراً. ومع عدم وجود أرقام دقيقة لإحصائهم، فإن وجودهم البشري الملموس في معظم المناطق والمدن الصومالية يشير إلى أنهم بضع مئات من الآلاف. وهناك قبيلة "تُمال/Tumaal" والمقدر عديد أبنائها بثلاثين ألفا تقريبا، والمعنى الحرفي لاسمهم هو "الدقَّاق"، لامتهانهم الحرف المعدنية، كصناعة الأسلحة التقليدية والأواني. وأما قبيلة "موسى دريو/Muuse Dhariyo" ذات الأصل العربي، والتي تعرّضت للاستضعاف والامتهان، وقبيلة "يبر/ Yibir" التي تقول المرويات بأصولهم اليهودية القديمة، فعلى الرغم من اتحادهم القسري في طبقة، وما أدى إليه ذلك من تصاهرهم الداخلي، فإنه لا يوحّدهم سوى القهر الذي يتعرّضون له. وهم أصحاب الحرف الأقدم في البلاد، والمسخّرون للقيام بالأعمال التي يأنف منها البدوي الصومالي، كدباغة الجلود وصناعة الأحذية والحلاقة والعرافة والتنجيم. وهم على ذلك يعود تاريخ معظمهم على أرضها إلى ما قبل مرويات وأساطير نشأة معظم القبائل الأخرى في بلاد الصومال. وأما سبب مهانتهم الفعلية فمردود الى حكايات هزيلة تجعل من يسمعها للمرّة الأولى يسأل نفسه: "إن كان رجلٌ ما أو أفراد أسرته قد ارتكبوا خطيئة أو خطاً في زمن سابقٍ لنا بقرون طويلة، فأيٌّ عقل أو ضمير يقبل بإهانة أو عزل وتهميش أحفاد أحفاد أحفادهم بعد كل تلك الدهور؟!".

رب ضارة نافعة؟

ليس خافياً على المتتبعين للشأن الاجتماعي الصومالي، أن جريمة الإهانة اليومية المرتكبة في حق أولئك الناس من الفداحة بحيث تسببت في إيثارهم العزلة ضمن أحيائهم. وقد نشأ عن ذلك عزوفهم عن ممارسة الأنشطة الاقتصادية التقليدية والمربحة، كما أدّى إلى ارتفاع وتيرة تسرّب أطفالهم من العملية التعليمية، ليكون الشلل شبه التام هو ما يعانيه ذلك القطاع غير البسيط من المجتمع الصومالي، بصورة تجعل المستقبل الإجمالي للشعب الصومالي يرزح تحت عامل آخر مصطنع، يؤخر أي أمل له بنهوض متوازن وسليم.
وعلى الرغم من كل ذلك، فإنه من غير المنطقي كذلك أن تقوم فئات أخرى من المجتمع بالتصدي لشأن استعادتهم لمكانتهم الطبيعية كمواطنين كاملي الحقوق وبشر لهم من التقدير والمقام ما ليسوا بحاجة لخوض معارك يومية لانتزاعه من مجتمع عنيف يكبّله الجهل والتقاليد. لذا فإن مقاربة تلك المعضلة الاجتماعية تحتاج إلى فتح المجال لهم للتعبير عن مطالبهم، دون وصاية أو تسييس أو استغلال. و هو ما يدعو إليه الناشط "عدنان حرسي" في وثيقته ذات النقاط الخمس، والتي يحاول من خلال وضعها بين أيدي الجميع، أن يُفتح حوارٌ حول تلك الحلقة المفرغة التي يدور فيها كل جهد يُبذل باتجاه تصحيح الأوضاع، شأن تبدد كل صوتٍ يرتفع هنا أو هناك من قِبَل أبناء تلك الطبقة، يتناول معاناتها، والتي تحمل شأن بقية فئات الشعب بذور الخلاف المزمن الناتج عن اختلاف الانتماء الأبوي، والتفاوت في التقاليد والظروف السياسية للأقاليم الصومالية التي لا يخلو أياً منها منهم. ومن خلال ما يصفه الناشط "حرسي"، فإن الضرر قد وقع فعلًا. لكن المطلوب التعامل معه بشكل يوقف مفاعيل الممارسة اليومية للتفرقة والتحقير، واعتبار كل يوم جديد فرصة في تصحيح الوضع، من حيث إيقاف حالة استثناء تلك الفئة من المجتمع من الحصول على حقها في أن تُعامَل وفقًا للقيم الدينية والأخلاقية التي يتغنى بها المجتمع، محملاً مسؤولية كبيرة لعلماء الدين والأفراد من أصحاب الالتزام الديني، في الدعوة إلى ذلك وضرب المثل لبقية المجتمع في السبيل الصحيح للتطبيق.
إلّا أن "حرسي" لا يستثني أحدًا من المسؤولية، مطالبا أبناء الفئات المهمّشة بالعمل بجدية لتجاوز كل العوائق النفسية التي تراكمت خلال القرون الماضية، ليكونوا ناشطين "كلٌ" في البقعة التي ينتمي إليها، لتحقيق هدفين رئيسيين: أولهما سحب البساط من تحت كل من يستفيد من عزوفهم عن المساهمة في العمل الاجتماعي والعام، بصورة تملأ الفجوة الهائلة بين فاعليتهم وحجمهم السكاني، وثاني تلك الأهداف أن يتم قلب واقع التهميش في كل مكان، إلى عامل يساهم في حلحلة المشاكل والتوترات بين المناطق والأقاليم الصومالية المختلفة، كونهم منتشرين، ومنذ فترة طويلة، في كل بقعة من شبه الجزيرة الصومالية دون استثناء. وهكذا فقد يحولون وجودهم خارج التوازنات الصراعية الى ميزة لتجاوز الصراعات، وتهدئتها.

مقالات من الصومال

للكاتب نفسه