مسلسل لبنان: 2 - التفاهة انتقلت إلى الهجوم

ماذا باليد إذاً؟

امتلاك موقف وقناعة أولاً. إدانة ما تجدر إدانته، والامتناع عن القبول بفكرة تَساوي كل شيء، والامتناع عن القبول بالتشكيك بكل شيء، وبتسخيف كل شيء، والإيمان بما يجدر التمسك به.

2020-07-31

نهلة الشهال

أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"


شارك
طرابلس، أديب فتال - فلسطين.

كان لافتاً - وما زال – أن لا أحد من المسؤولين السياسيين كلّف نفسه عناء "قول" ما يجري في لبنان، بمعنى شرحه وتأويله، ولو انطلاقاً من وجهة نظر شخصية محدودة، أو حتى مخاتلة. بقي الصمت المطبق سائداً لأشهر، بينما البنوك تُغلق أبوابها وتحتجز أموال الناس، والليرة اللبنانية تنهار، وكذلك الخدمات العامة الحيوية الواحدة بعد الأخرى – وآخرها توقف الإشارات الضوئية في شوارع بيروت الرئيسية، والاستعاضة عنها، أحياناً، برجال من شرطة المرور يبدو أن كلفتهم أقل من كلفة إصلاحها.

وقد احتل الناس الشوارع والساحات في طول البلد وعرضه بلا استثناء، يحتجون ويولولون ويشتمون الجميع بلا استثناء، وفق شعار "كلّن يعني كلّن"، قبل أن تضاف إليه تحديدات استوجبتها محاولات بعض هؤلاء استثناء أنفسهم من الجمع: "كلّن يعني كلّن، وفلان الفلاني واحد منهم". وكل واحد من كلّن هؤلاء صامت كالأموات، حتى افترضنا أنه الذهول أو هي الصدمة.. وكان في ذلك الافتراض حسن نية في غير محلها. فقد كان الصمت إمعاناً مقصوداً بالتيئيس.

غضب البعض من جماعة "كلّن" لشموله بالشتائم، وسعى لتأديب المتجاسرين، ضرباً مبرحاً حين يلزم، أو مداخلات متلفزة صارت تتميز أكثر فأكثر بمنسوبٍ عالٍ من الثرثرة، إلى أن وصلت مؤخراً، مع اقتراح الجهاد الزراعي والصناعي، وأنه الحل المطلوب، إلى إتاحة المجال للسخرية الصريحة منها. سذاجة أم فراغ، أم تيئيس بوسائل أخرى باعتبار الصفة الخرقاء للمقترح/ الحل؟

وفي الأثناء ظهرت شعارات أخرى، سورياليةٌ فعلاً في بلد مثل لبنان: "ليرتنا عملتنا" مثلاً (كاعلانات في البنوك!)، وتنويعات عليها من طينتها، وكأن من "دولر" الاقتصاد، حتى أباح إمكانية شراء قنينة ماء من دكان أي حارة أو قرية بدولار، فاعلٌ مجهول حاول التسلل ليس إلا. وإنْ حدث ما يمكن اعتباره "نطقاً" ما، فقد اقتصر على تهم مبهمة ومختصرة عن "مسؤولية هندسات حاكم مصرف لبنان"، وكأنه فعل كل ما فعل لوحده، وعن تهريب أموال كبار المودعين من البنوك، وعن وقائع الفساد المهول الذي رافق لزمن مديد الإنفاق العام، والذي يردُّ عليه أصحابه أحياناً قليلة، بهدوء مائع يشي بعدم اكتراثهم، بأن كل ما قاموا به كان "قانونياً". صحيح!

مقالات ذات صلة

بالمقابل، هناك كمٌ مذهلٌ من الحرتقات التي قد لا يصح عليها نعتها بالسياسية، بل هي حقاً مبهمة الهوية. ولأن الوضع متفلّت بقوة وبشكل عام، وهناك سلطات تبدو وكأنها تؤدي تمثيلية أكثر مما هي تحكم، فمنسوب الحرتقات أكثر ارتفاعاً من المعتاد ونوعيتها أشد ابتذالاً من المعتاد. وهذا يجري بقدر متفاوت من التوفق في تسلية الناس، يختلف باختلاف موهبة السياسي الشتّام. وعلاوة على التسلية، فهو يعزّز الاحتقار العميق الذي يكنّه الناس لكل من يقال لهم "مسؤولو" البلد. لا أحد محترم، لا أحد مهاب، لا أحد يؤمَل منه خيراً..

هناك أصوات عالمة. بعضها يؤكد أن هناك بديل متوفر للطبقة السياسية الحاكمة، ويشرح بعض التدابير/المبادئ العامة التي يجدر اتخاذها، وبعضها الآخر يقدم تحليلات يُفهم منها في نهاية المطاف أن الوضع معقّد وسيحتاج لسنوات قبل أن يجد له مخرجاً. وفي كل الأحوال، تبدو هذه المداخلات حذرة إجمالاً، أو فلنقل أنها متحفظة، ولا تقطع مع المنظومة القائمة. كما تبدو – وهو الأهم - معلقة في الهواء، عائمة فوق الواقع، لا يعرف أحد كيف السبيل إليها... ما يوصف عادة بأنه "أيديولوجيا" (بمعنى الهراء، والافتقاد للبرنامج)، وتُلحظ لا تاريخانيته (بمعنى "تحرره" من شروط الفعل في الواقع).

باختصار نجح الجميع في إشاعة العبث. أهل السلطة أولاً، ومعارضوهم ثانياً. ذلك هو تعريف التفاهة! أن تفقد كل الأشياء معانيها. أن يجري الاعتياد على كل ما يقع. ولعل تلك كانت وظيفة الصمت المديد ذاك، وترك الناس يتخبطون في حيص بيص، وسط مهاترات بشعة وفاقدة للمعنى، ثم إغراقهم في وضع بائس، والأدهى أنه بلا أفق: حتى خلال الحرب الأهلية التي استمرت 15 عاماً، وكانت مليئة بالكوارث من قتل وخطف ودمار وتهجير.. فقد كان الجميع يعرفون أنه، على عادة الاختلالات في لبنان، هناك تسوية تنتظر حتماً هذا الجنون. أما اليوم، فالأمر من طبيعة مختلفة جوهرياً من جهة، وهذا هو الأهم. كما أن الشروط السائدة في العالم وفي المحيط تجعل التسويات صعبة المنال.

لقد انتقلتْ التفاهة إلى مرحلة "الهجوم"، إلى الفعالية، ولم تعد تكتفي بالتخريب البطيء.

والتفاهة تلك "استراتيجيا" بيد المتنفذين وليست مجرد عرَض من أعراض سلوكياتهم ومفهومهم للمجتمع والحياة: لماذا تُصر السلطة التي يديرها السيسي في مصر (مثلاً. ويمكن إعطاء أمثلة أخرى - قد تختلف حيثياتها ولكن ليس مؤداها - من الجزائر أو العراق..) على اعتقال شبان وشابات بلا أدنى سند قانوني معقول. بعضهم مضت عليه في السجون سنوات يُجدَّد له كل 45 يوماً (المرحلة الثانية بعد التجديد كل 15 يوماً)، وبعضهم يُحكم من قضاة صاروا ألعوبة بيد السلطة التنفيذية. شباب ليس بيدهم أن يمثّلوا خطراً على السلطة أو على أمن الدولة وجبروتها، ولا تأثير فعلي لهم على مجتمع عملاق كالمجتمع المصري. يكفي أن يقول أحدهم جملة على فيسبوك، يكفي أن يطالب أحدهم بأمر ما.. أن يخرج من "ظل حيطة" الاكتفاء بالعمل (لو وُجد)، أو بالأكل والنوم وتدخين الشيشة، حتى يُصبح في دائرة الخطر. قد يكون في تلك التدابير ما يتضمن بعض الحقد على من ارتكبوا انتفاضة 2011، أو على مَن بقي متمسكاً بقيمها... حقدٌ وانتقامٌ وسعي للإمحاء، مما يندرج في علم النفس وليس السياسة. ولكن، وعلاوة على ذلك، ففيه "عقلانية" ما: هذا ليس قمعاً، بل هو ممارسة للتيئيس. فقد تجاوزت انتفاضة 2011 (على كلّ عللها وقصورها) الخوف من القمع الذي كان قائماً، والافقار الذي يشلّ ويبعثر، لتستعيد الأمل بمواجهة التيئيس الذي كان أداة أساسية لتحقيق الاستكانة العامة. فجأة، رسمت الانتفاضة أفقاً، وعممت خطاباً واشاعت قيماً، وبنت روابط بين الناس. صار ابناؤها يتعرفون على بعضهم البعض بدون عناء، صاروا "جماعة"، ليس بمعنى التنظيم والبرنامج، بل بمعنى التشابه، والقواسم المشتركة. ويبدو أن هذا مرعب للسلطات، حتى لو كانوا قلة، حتى لو كانوا هامشيين...

ماذا باليد إذاً؟

امتلاك موقف وقناعة أولاً. إدانة ما تجدر إدانته، والامتناع عن القبول بفكرة تَساوي كل شيء، والامتناع عن القبول بالتشكيك بكل شيء، وبتسخيف كل شيء، والإيمان بما يجدر التمسك به.

مقالات ذات صلة

والحرص ثانياً على الروابط الاجتماعية التي تتيح التفكير معاً، والعمل معاً، كنقيض للتفكك المريع الذي نعيش وسطه، والفوضى القاتلة وسيادة شريعة الغاب، بالمعنى الحرفي. وطرابلس-لبنان لهذه الجهة، ومن جديد، مثالٌ رائد مع الأسف: وقد تناقلت الأخبار حوادث تجري على يد عصابات من المراهقين المعدمين، الممولين بالضرورة من جهات "خفية"، وهم يسرحون في المدينة، وينتقلون أحياناً إلى التقاتل بالأسلحة في الشوارع ممتطين دراجات نارية متهالكة (عوض الأحصنة كما في أفلام الكاوبوي)...

والتعلق ثالثا بقيمة الأشياء التي تبدو "بسيطة"، ورعايتها: الصداقة وكل الإبداعات وتلمّسات الطريق، بكل تردداتها وبكل تنوعاتها، والاحتفاء بما هو إيجابي في سياق ذلك... ما يحافظ على إنسانية البشر.

وبعد ذلك، وعلى أساس ذلك.. قد!

مقالات من لبنان

للكاتب نفسه

ماذا الآن؟

وقعتْ إسرائيل في خانة المستعمِر، واهتزت بقوة "شرعيتها" المصنوعة بتوأدة. حدث ذلك بفعل مقدار منفلت تماماً من همجيتها في الميدان وصل إلى التسبب في الصدمة للناس، وكذلك بفعل التصريحات والخطب...