عودة الوعي بين الخرطوم وجوبا

مثل تبادل الضربات في لعبة بينغ بونغ، توالت التحركات الإيجابية بين السودان وجنوب السودان خلال الأسابيع القليلة الماضية فاتحة الباب أمام احتمال تأكيد مقولة أن ما خرّبته السياسة لدرجة تحقيق الانفصال في بلد كان مما يمكن أن يحسنه الاقتصاد.
2016-02-18

السر سيد أحمد

كاتب صحافي من السودان مختصّ بقضايا النفط


شارك
جلال يوسف - السودان

مثل تبادل الضربات في لعبة بينغ بونغ، توالت التحركات الإيجابية بين السودان وجنوب السودان خلال الأسابيع القليلة الماضية فاتحة الباب أمام احتمال تأكيد مقولة أن ما خرّبته السياسة لدرجة تحقيق الانفصال في بلد كان مما يمكن أن يحسنه الاقتصاد.

العلاقة بين البلدين ظلت في حالة حرب، معلَنة أحيانا ومستترة أخرى، على خلفية النزاع الطويل الذي اتخذ شكل اقتتال أهلي استمر قرابة الأربعة عقود، لينتهي بالانفصال وقيام دولة جنوب السودان. لكن لم يتم الترتيب لإنجاز الانفصال بطريقة سلسة، وعادت قضايا الحدود وعبور النفط والقبائل الرعوية وغيرها لتصبح بؤر توتر مستمر أدى في أحد الأوقات إلى احتلال قوات جنوب السودان لمنطقة هجليج النفطية في السودان. ورغم توقيع تسع اتفاقيات بين البلدين لتنظيم العلاقة بينهما، إلا أن الوضع لم يتحسن كثيراً خاصة في الجانب الأمني واتجاه كل دولة الى معاونة متمردي الدولة الأخرى.

دور النفط المتجدد

الإطار الذي تمت فيه هذه التطورات الإيجابية الأخيرة يتمثل في تهاوي أسعار النفط التي تأثر بها جنوب السودان أكثر من غيره كونه ينتج نفطا متدني القيمة، الأمر الذي يدفعه الى تقديم حسومات عالية ليتمكن من تسويقه. وفوق هذا، كان عليه، لأنه دولة مغلقة، أن يدفع رسوم عبور نفطه إلى الأسواق العالمية من خلال السودان. وهكذا يعود النفط مجدداً ليلعب دور محرك الأحداث، إذ أسهم بداية في تأجيج الحرب الأهلية بعدما تمكنت الخرطوم من استخراج النفط وتجيير عائداته لمصلحتها، ما حسّن من قدراتها القتالية.. كما دفع النفط باتجاه السلام، اذ توصل المتمردون من جنوب السودان إلى قناعة بأنه من الأفضل لهم الدخول في اتفاق سلام وتقاسم عائدات النفط بدلاً من السعي إلى وقف إنتاجه وتصديره.

ووفق الاتفاقية الموقعة بين البلدين، يفترض أن تدفع جوبا 24.50 دولاراً عن كل برميل لتغطية نفقات الترحيل والمعالجة والتصدير وأيضاً لتغطية الترتيبات المالية الانتقالية، أو ما يمكن اعتباره تعويضاً لخسارة الخرطوم عائدات النفط إثر الانفصال. لكن مع تهاوي سعر البرميل الى أقل من 30 دولارا وأخذ حقوق الشركات التي تستخرج النفط في الاعتبار، فإنه لن يبقى شيء يذكر. ولهذا بدأ المسؤولون في جنوب السودان يتحدثون عن ضرورة مراجعة هذه الرسوم، وإلاّ فمن الأفضل لهم إغلاق الآبار وأن يبقى النفط تحت الأرض حتى تتحسن الأسعار. الاتفاق المبدئي يقوم على ربط رسوم العبور بنسبة من سعر البرميل ويترك للفنيين تحديد التفاصيل.

المعلومات المتواترة تتحدث عن دور رئيسي في تهيئة الأجواء لعبه السياسي المخضرم من جنوب السودان بونا ملوال، الذي عمل من قبل وزيراً للإعلام في سبعينيات القرن الماضي، إبان حكم الرئيس الأسبق جعفر النميري، ولا يزال يحتفظ بعلاقات جيدة ومعرفة عميقة بدهاليز أروقة السلطة في الخرطوم، إضافة إلى تمتعه بثقة رئيس جنوب السودان سلفا كير. وفي أواخر العام الماضي، بعث كير وزير خارجيته الدكتور برنابا ميريال بنجامين إلى الرئيس عمر البشير طالباً رسمياً إعادة النظر في الرسوم التي تدفعها جوبا نظير مرور نفطها عبر الأراضي السودانية. البشير وافق على الطلب ليرد كير على التحية بالطلب إلى قواته التراجع مسافة خمسة أميال إلى الداخل، الأمر الذي شمل الانسحاب من ثمانية مواقع يرى السودان أنها تتبع له. وتتالت الخطوات المتبادلة، فأعلن البشير فتح الحدود بين البلدين وهي مغلقة منذ خمس سنوات، لترد جوبا بموافقتها على تزويد مصفاة الخرطوم بعشرة آلاف برميل يومياً من النفط الخام وكذلك 18 ألف برميل نفط يوميا، إضافية الى المحطة الحرارية الجديدة لتوليد 500 ميغاوات من الطاقة الكهربائية في مدينة كوستي، وتستفيد منها بعض مناطق جنوب السودان. وأثناء حفل افتتاح المحطة الجديدة في كوستي، أعلن البشير عن إعادة العمل بالنقل النهري لربط البلدين، وكان متوقفاً أيضا خلال السنوات المنصرمة.

نقلة نوعية

يلفت النظر في هذه التطورات الدور المحوري الذي لعبه الرئيسان البشير وكير على حساب مراكز قوى داخل منظومة البلدين كانت تسعى لتغيير الحكم في الدولة الأخرى. وكان لافتاً أن رد الفعل الأولي على طلب مراجعة رسوم عبور النفط جاء من قبل وزير المالية السوداني الذي رفض الاقتراح قائلاً إن الرسوم هي نتيجة اتفاقية موقعة ومعتمدة وعلى جوبا الالتزام بها، وانه إذا كانت هناك مراجعة فلا بد من إحضار بقية الاتفاقيات إلى طاولة النقاش لمعرفة ما نفذ منها وما لم ينفذ.. والإشارة بصورة خاصة إلى الملف الأمني وترسيم الحدود. على أن البشير تدخل وألغى كلام وزير ماليته، وهو ما اعتبر رسالة إضافية دأب البشير على إرسالها بصورة أو بأخرى في الآونة الأخيرة، وتقول إنه أصبح مركز القرار في الدولة، وإن الأمر لم يعد بيد الإسلاميين الذين حملوه إلى السلطة قبل أكثر من ربع قرن.

لكن بعيداً من صراعات كواليس السلطة في كل من الخرطوم وجوبا، فإن تبادل هذه الخطوات تمّ بقرارات من أعلى مستوى، الأمر الذي يشير إلى توفر قدر من الإرادة السياسية لم يظهر بهذا الشكل من قبل في علاقات البلدين. إضافة إلى هذا، فإن هذه التطورات تمت بدون تدخل خارجي. ويذكر أن اتفاقية السلام التي أفضت إلى انفصال جنوب السودان تمت بوساطة خارجية لعبت فيها الدول الغربية دوراً رئيسياً، وكذلك الاتفاقيات التسع ومحاولة تطبيع علاقات البلدين التي لقيت اهتماماً إقليمياً من دول الجوار، وخاصة إثيوبيا، ومن الاتحاد الأفريقي. التطورات الأخيرة تشير إذاً إلى توفر إرادة داخلية لتطبيع العلاقات بين البلدين وفتح آفاق التطوّر أمامها.

فسياسة الإغلاق للضغط على جنوب السودان كانت لها تبعاتها داخل السودان كذلك. ووفقا لوزير الدولة للخارجية السودانية، فإن السودان فقد نحو سبعة مليارات دولار بسبب إغلاق الحدود ومنع التجارة بين البلدين. وتشير بعض التقديرات الى أن هناك عشرات السلع التقليدية التي ليست لديها فرصة كبيرة للتسويق في الأسواق العالمية، مثل البلح والملح والبصل والذرة وغيرها.. لكنها تجد سوقاً رحبة في جنوب السودان ويمكن أن تعود على الخزينة بمبلغ ملياري دولار سنوياً في المتوسط.

وفي واقع الأمر، فإن المنطقة التي تمتد على جانبي الحدود بين البلدين تمثل ما يطلق عليه "مناطق التمازج"، إذ تضم نحو ثلث سكان الدولتين، وفيها موارد طبيعية ضخمة من النفط والمياه والأراضي القابلة للزراعة والثروة الحيوانية، الأمر الذي يوفر لها فرصة أن تصبح نقطة انطلاق لتحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية لمصلحة البلدين متى ما استقرت الأحوال أمنياً وأعطي مفهوم البناء والتنمية الأولوية.

تطبيع العلاقات بين الدولتين يعزز من وضعية السودان منفذاً لدولة جنوب السودان المغلقة. وإذا كان موضوع مرور نفط جنوب السودان عبر الأراضي والمرافق النفطية السودانية قد حظي بتركيز الأضواء، إلاّ أنّ جوبا تحتاج إلى الخرطوم لتصبح منفذها للحركة الاقتصادية من العالم الخارجي وإليه. وفي إعلان البشير عن إعادة تشغيل النقل النهري بين البلدين مؤشر على تعزيز هذا الاتجاه، علماً أن كلاً من إثيوبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى تعتبر دولاً مغلفة ويمكن للسودان الاستفادة من موقعه الجيوسياسي هذا.

الاقتصاد أولاً

إعلاء الجانب الاقتصادي في علاقات البلدين، رغم الخلافات، يعتبر حلقة في إطار سياسة انتهجتها الخرطوم مع جيران آخرين كانت علاقتها متوترة معهم، بل تجاوزت عمليات دعم المعارضات إلى مرحلة السعي بجد إلى تغيير الأنظمة. وخير مثال على ذلك العلاقة شرقاً مع إثيوبيا وغرباً مع تشاد التي أصبحت نموذجاً حياً يقول إن أفضل ضمانة للأمن تقوم على تبادل المنافع. وقد تطورت العلاقة مع تشاد وأفريقيا الوسطى إلى درجة تخصيص قوات مشتركة لحماية الحدود.

بعد انفصال جنوب السودان، تركز الهم الإقليمي والدولي من العواصم التي شاركت في الشأن السوداني في كيفية عيش الدولتين في سلام مع بعضهما البعض والعمل على حل القضايا العالقة بينهما عن طريق الحوار. ومع أهمية أن تظلل سحابات السلام علاقات البلدين، إلا أنه من الأهمية بمكان أن ينسحب ذلك على الداخل. فالعلاقات الخارجية في نهاية الأمر انعكاس لما يجري داخل كل بلد. وتكامل حلقات التعاون بين جيران السودان يفرض الالتفات إلى الجبهة الداخلية والتعامل مع حالة الاحتقان السياسي في البلدين، وذلك حتى يمكن تحقيق الأمل بأن تعيش الخرطوم وجوبا في سلام مع بعضهما البعض وفي سلام أيضاً داخل بلديهما. 

مقالات من السودان

للكاتب نفسه

أوبك وعودة مختلفة لأجواء السبعينات

في الخامس من الشهر الجاري، تشرين الأول/ أكتوبر، اجتمعت "أوبك بلس" وقررت تقليص الإنتاج بمقدار مليوني برميل يومياً، وهي الخطوة التي استفزت واشنطن ودفعت ببايدن إلى التهديد بأنه ستكون لها...