حي «الاتحاد الأوروبي» في حلب

لا يُعرف على وجه اليقين، من أين أتت تسمية هذا الحيز من منطقة السكن العشوائي في أطراف حي الشيخ مقصود، أحد الأحياء الهامشية في الشمال الغربي لمدينة حلب، المتاخم لما كان يسمى في عقود خلت، «حقل الرمي»، وهو حقل واسع كلسي أجرد، أنشئ للتدرب على رمايات الأسلحة الخفيفة، استخدمته وحدات الجيش الشعبي الذي أنشأه الحزب القائد في أواسط الستينيات، ومضى إليه بعد ذلك طلبة الصف
2014-09-17

عزيز تبسي

كاتب من سوريا


شارك
| en


لا يُعرف على وجه اليقين، من أين أتت تسمية هذا الحيز من منطقة السكن العشوائي في أطراف حي الشيخ مقصود، أحد الأحياء الهامشية في الشمال الغربي لمدينة حلب، المتاخم لما كان يسمى في عقود خلت، «حقل الرمي»، وهو حقل واسع كلسي أجرد، أنشئ للتدرب على رمايات الأسلحة الخفيفة، استخدمته وحدات الجيش الشعبي الذي أنشأه الحزب القائد في أواسط الستينيات، ومضى إليه بعد ذلك طلبة الصف العاشر كخاتمة لمعسكراتهم التدريبية في الصيف، ليرموا خمس طلقات من بندقية بولونية نصف آلية، على صوى حجرية، خالوها الأعداء المتربصين بالبلاد. وربما أتت تسمية «الاتحاد الأوروبي»، من تلك الغرف التي تطل على أزقة الرمل والحصى، والتي أزيل أحد جدرانها لتغدو بعدها دكاكين مفتوحة، يتصدرها جهاز تلفاز مرفوع على طاولة بلاستيكية أو رف خشبي عال، تتوزع أمامه الكراسي والطاولات والنراجيل، وأضحت تستقطب الشبان المتابعين للدوري الأوروبي لكرة القدم، وتنظم رهاناتهم المالية على الفرق المتنافسة، وتلبي طلباتهم العلنية في النراجيل والمشروبات الساخنة والباردة، والسرية في الحبوب المخدرة والمهدئة.
شوارع عارية، لم تصلها الآلات الهندسية لتسوية تربتها، ورص حصاها ودحله، وتثبيته بالإسفلت. مياه المغاسل والمراحيض تتدفق من فتحات سفلية تحت جدران البيوت، وتسيل في الأزقة.. الأسلاك الكهربائية تصل من أعالي البيوت وتكاد لا تميَّز عن حبال الغسيل، أطباق الصحون اللاقطة ثابتة على زوايا الأسطح، الغسيل المنشور ينضح ماؤه كمزاريب لعجز النساء عن عصره..
لا دلائل على حضور الدولة، حيث تغيب المدرسة والمستوصف ومخفر الشرطة. يحضر دورياً رجال المخابرات على دراجتهم النارية، يحملون التقارير من أعوانهم ويمضون.
في الصباح، يمكن للسابلة متابعة تراشق كلمات النسوة من أعالي الأسطح والنوافذ الواطئة، تغلب عليها الكردية وتعقبها التركمانية والعربية. وسماع الأغاني النائحة لعلي طجو ومحمد شيخو وإبراهيم طالسيس وفؤاد غازي، ورؤية الشبان الناعسين بشعورهم المصقولة بـ«الجل» اللامع، يتبادلون إشعال لفافات التبغ والأحاديث التي ترشد إلى مكان عملهم الجديد، مسرعين حاملين أكياس نايلون تظهر محتوياتها الخجولة، حبة بندورة وبصلة يابسة ورغيف خبز مطوي على بقايا طعام المساء.. يتجهون جميعهم إلى حيث «الميكروات» البيضاء التي ستنقلهم إلى ورشات خياطة وتطريز، مغاسل سيارات، مطاعم، مقاه، والارصفة كباعة أوراق «اليانصيب».. ولمّا يزالوا يحسبون قولة «نام بكير وفيق بكير، وشوف الصحة كيف بتصير» بمثابة طرفة يقهقهون لها طويلاً، ضاغطين بأكفهم المفتوحة على خواصرهم، تاركين الدمع ينفر من عيونهم كما ينفر الدم من أعناق الديوك الذبيحة، ويتبعونها بـ«من طلب العُلا سهر الليالي» و«من جَدّ وَجد»، لا لقيمتها المعرفية بل ليستكملوا قهقهتهم. ولكن هل كانوا يقهقهون، أم يسخرون من رقائع كلام لم يعد كافياً لطرد البرد من عظامهم وتسكين جوعهم، وحملهم إلى نوافذ الأمل.
في أوائل المغيب، تنبعث روائح البرغل المكوي بزيته وبصله، وأزيز الزيوت المخنوقة في شرائح الباذنجان والبطاطا والفليفلة والبندورة.. جماعات تدخل التاريخ بلفائف رب البندورة المطلي على الأرغفة وأوجاع الأغاني الجبلية، وتخرج منه بجبائر وضمادات! ترى المتكئين على الجدران، ضاغطين قبضاتهم المغلقة على أفواه أكياس شفافة تظهر ما بداخلها من سائل ملون، هو خليط من مشروبات كحولية محلية مغشوشة، لمّا تزل تحافظ على أسمائها الأصلية: فودكا، جن، كونياك.. تمزج بمياه غازية بطعوم الفواكه، تُخرَج من أعلاه مصاصة بلاستيكية، يقربونها من شفاههم ويشفطونها بعجالة من يريد أن يتخلص من عبئها، وبين أصابع اليد الأخرى لفافة تبغ مشتعلة، يمجونها بشغف لاستكمال حريق أعماقهم المشتعلة، «يترنحون قبل الإجهاز عليها، كما كانوا يترنحون قبل أول رشفة منها». أولاد بألبسة خفيفة للفرق الرياضية على ظهرها أسماء لاعبيهم المفضلين، يهرعون لمائدة العشاء، قاذفين «شحاطاتهم» (النعل) ككرات إلى الأعالي.
شبان أكبر عمراً يتنشقون «السيكوتين» وهو من المواد التي تستخدم في لصق جلود الأحذية والحقائب، يستكملون ليلتهم بالتمدد على تراب الطرق، متحدثين عن نجوم فريقي برشلونة وريال مدريد... ومن يرفعون البزق على أكتافهم، كما كان آباؤهم يرفعون أدوات الفلاحة، ومن ينحنون عليه وهم مقرفصون أمام زوايا البيوت، لا ليعزفوا ألحاناً يجهلون قواعدها، بل ليستنشقوا رائحة خشب الصنوبر المنبعثة من جوفه. وهناك من يقود رجالا أو شبانا توضح ملابسهم أنهم من خارج هذا الحيز الجغرافي، يحملون أكياس أطعمة وزجاجات مشاريب كحولية، أتوا لقضاء ليلتهم في أحد البيوت. شبان يرفعون «موبيلاتهم» إلى الأعلى لتصوير جيرانهم وجارتهم، وحبال الغسيل وأطباق «الدشات» والقطط المتسلقة على حواف الأسطح.. وآخرون يصلون مع أكياس سوداء، يحملون فيها مرايا، ماسحات مطر، هوائيات.. منتزعة برعونة من سيارات فارهة مركونة أمام بيوت أصحابها، ليبادلوها بقليل من المال.
جماعات بشرية منهكة، ينظر إليها السادة القدامى والجدد، كما ينظر موظفو المطارات للحمولات الزائدة في حقائب المسافرين!!
في أوائل الخريف، يفرغ الحي من أهله العائدين إلى أريافهم لتوافر فرص عمل مجزية في جني الزيتون أو القطن. لكنهم يعودون ليتعقبوا الفصول الثلاثة الباقية، تاركين عضلاتهم رهائن في بازارات أعمال لا تأتي، أو تأتي بإذلالات عميقة. التواصل مع حيز «الاتحاد الأوروبي» يدفع لتبيّن الاحتمالية التوسعية لما بعد أحياء الصفيح، أي الهامش الاجتماعي المتولد من الهامش الاجتماعي، والإقرار كذلك بأنه بات بحيازة الهامش قوة توليد حقيقية، تنتج هامشاً أشد تهميشاً وهولاً.
ترد إلى البال العبارة التي كتبها الروائي المصري إبراهيم عبد المجيد (في رواية «عتبات البهجة»): «العشوائيات في كل مكان الآن، الناس تقيم المناطق العشوائية بعيداً عن أعين الدولة، والدولة تقيم المناطق الجديدة بعيداً عن عيون سكان العشوائيات».
سكان الحي من المهاجرين الجدد من القرى الكردية والتركمانية، وبعض القرى العربية، طردتهم حزمة متراصة من الأسباب المتجددة، الحدود المغلقة للتنمية الزراعية لأراض محددة ملكياتها من زمن بعيد، أكلت ريوعها وإنتاجيتها الزيادة السكانية العالية، يحتاج التوسع فيها إلى رأسمال عال بسبب من جبليتها وتربتها الصخرية ووعورتها، وغياب خطط تنموية تخص منطقتها، وهي سمات تشمل عموم الأرياف السورية.
- لماذا أتيتم إلى هنا؟
- لأننا لم نستطع البقاء هناك.
لم يكن وصف التفاوت الطبقي ومستتبعاته السلوكية يحتاج إلا إلى مبادرة للتجول بين طرفي المدينة، وفق الطريق الدائري الذي يطوّقها كسوار افتراضي توخى من رسمه، في زمن خلا من أواسط الثمانينيات من القرن المنصرم، تحديد التوسع العقاري ومستلزماته الخدمية، دون التنبه إلى أن هذا التوسع تجاوز الحدود المأمولة بمسافات، هي عينها المسافات التي يصنعها الفارق بين وهم المحددات العقارية وحقائق عجز الخطط التنموية وفشلها وانحيازها الطبقي، الذي وصل إلى حدود الاحتكارية الطبقية.
تعرّف الميكروباصات البيضاء الراكضة بسباق على ضفتي الطريق، باللافتات البلاستيكية المثبتة في أعلاها، بالدائري الشمالي والدائري الجنوبي، وهما عنوانان يحددان تحديدا أوليا ضفتي المدينة، والذي سيفصح عن نفسه بعد منتصف تموز/يوليو 2012 بين منطقتي سيطرة الجيش (الشمالي) والكتائب المقاتلة (الجنوبي). يبدأ مسار الدائري الجنوبي من أطراف حي صلاح الدين في الجنوب الغربي، مروراً بتل الزرازير وأعماق حي الفردوس، وبرية باب النيرب، وكرم الطراب، وكرم القاطرجي، والشعار، وطريق الباب، والصاخور، والشيخ خضر، وبستان الباشا، والهلك، وبعيدين، والشيخ مقصود، والأشرفية، وبني زيد...
- لماذا ذكر هذه الأحياء؟
- لأنه لم يعد فيها أحياء يا ماما!!
 

مقالات من حلب

للكاتب نفسه

إبرة وخيط.. في حلب

عزيز تبسي 2017-10-05

حلب مدينة النسيج المرموقة التي دمّر صناعتها الاستيراد المنفلت من تركيا، ثم أجهزت عليها وعلى الحياة نفسها سنوات الحرب. بورتريهات لنساء في مشغل خياطة حاليّ تكشف قدراتهن على التحمّل والمقاومة..

حلب: ليل يحيل إلى ليل

عزيز تبسي 2017-07-03

حلب لن تتحول إلى مدينة منسية مثل "قلب لوزة" و"البارة" و"سرجيلا". إرادات صلبة وعنيدة تعمل على ضخ الحياة في أوردتها والأمل في روحها، ولكن..