المهرجانات وثقافة المهرّجين في المغرب

بناء وتفكيك المسرح، تركيب الأضواء الكاشفة بكثرة، الضجيج حول الحدث، أو وبمعنى أكثر "مهنية"، الإعلام والدعاية المنفلتين من عقالهما، تلك هي اليوم مواصفات الفعل الثقافي في المغرب. وحين يمكن لأصحاب هذه النشاطات دفع تكاليف التجهيزات الأكثر جدة، ذات التأثيرات المعقدة، والمستوردة بأسعار باهظة لإرضاء النجوم الكبار، يسود الاقتناع بأن الأمر ناجح وتمام التمام.لماذا أصبحت التظاهرات "الثقافية" في المغرب
2012-08-08

محمد الناجي

مؤرّخ وأستاذ السوسيولوجيا الاقتصاديّة في جامعة محمد الخامس، الرباط


شارك

بناء وتفكيك المسرح، تركيب الأضواء الكاشفة بكثرة، الضجيج حول الحدث، أو وبمعنى أكثر "مهنية"، الإعلام والدعاية المنفلتين من عقالهما، تلك هي اليوم مواصفات الفعل الثقافي في المغرب. وحين يمكن لأصحاب هذه النشاطات دفع تكاليف التجهيزات الأكثر جدة، ذات التأثيرات المعقدة، والمستوردة بأسعار باهظة لإرضاء النجوم الكبار، يسود الاقتناع بأن الأمر ناجح وتمام التمام.
لماذا أصبحت التظاهرات "الثقافية" في المغرب عبارة عن مناسبة تحضر فيها السلطة بقوة، كذلك "الأشخاص المهمّين جداً" (VIP)، ولا ينعقد الأمر بلا مسارح كبيرة حيث الصوت والإضاءة القويين، والألعاب النارية، والفانتازيا، وكل عدّة الإبهار... كل شيء باستثناء الموهبة والإبداع. ألا يتعلق الأمر بمفاهيم متناقضة؟
إجابة أولى قد تتبادر إلى الذهن: إنّ معظم التظاهرات الثقافية تنظم بحكم الامر الواقع. أي أنها لا تولَد نتيجة حاجة ملحّة يفرضها التعبير الخلاق، بل هي بالأحرى نتيجة إرادة متسلّطة تريد تثبيت أسسها وتعزيز موقعها من خلال توسيع شبكتها العلائقية، وتحسين صورتها التجارية بفضل الوجود الجبار لوسائل الإعلام. تكتسب التظاهرة الثقافية إذاً أهميتها من مكانة عرّابها، وتُقاس درجة كرم رعاتها الماليين على ضوء قوّة ذلك العرَّاب وقربه من رئيس الدولة. بكلام آخر، فمناسبة الأحداث الثقافية، ومكانها الجغرافي، وتوقيتها، أمور باتت تحددها جميعها الاعتبارات السياسية.
الهدف ليس إذا ثقافياً. وهكذا يطغى عليها الطابع السطحي، وهو يُعلي من شأن الاستعراضي والمبهر. يفسّر الاستثمار الترويجي وفي العلاقات العامة تضخُّم فئة "الأشخاص المهمين جداً" VIP. وتأخذ التظاهرة مكانها في دورة الاجتماعيات وفقا للمكانة العائدة اليها. ويصبح العلائقي/الإعلامي ("الكوم" كما يقال له، بما بات اسم علم يخترق اللغات!) هو الملك في هذا العالم لأنه هو الهدف الاساسي لكل العملية. ولملاحظة ذلك يكفي الاطلاع على التقارير حول المناسبة حيث تطغى اخبار الشخصيات الشهيرة الحاضرة، وتلك من بينها الأكثر ملائمة للتصوير، ووسائل الإعلام التي اهتمت بالحدث. ونادراً ما يتمّ الاعتناء بمضمونه وبجدته. في ظل هذه الظروف، يطغى الشكل على المضمون، مثلما هي الحال في عدد كبير من مظاهر حياتنا اليومية. إنه أحد مؤشرات التخلُّف: هي تكنولوجيا غير مهضومة.
ليس الابتكار هدفاً بذاته إطلاقاً، وانعدام وجوده لا يجب أن يفاجئ. ومنطق الحدثي نفسه في المغرب يتجاهله في مساره. و"المروجون الثقافيون" المهيمنون حالياً على المشهد الحدثي لا يفقهون ولو كلمة واحدة عن ماهية الثقافة، وهم بعيدون عن معرفة أهميتها الجذرية في مسار التغيير الاجتماعي والاقتصادي. في الوقائع، نحن أمام مهرّجين أكثر من أي شيء آخر، بجهلهم الذي لا يعونه، كما بغاية فعلهم الذي يهدف إلى التسلية أكثر من أي شيء آخر. وهو ما يبدو أنه يروق لهم. أكثر من ذلك، إنهم مهرجون بالنظر إلى التحدّيات الحيوية التي تواجه البلد، والآفاق غير التفاؤلية، في حين أن آفاقهم الخاصة لا تتجاوز حدود الحسابات المالية للحدث، وحسن استقبال المحسنين إليهم.
هناك بالتأكيد اختلاف كبير بين دينامية التطور الاجتماعي من جهة، وتدخلات تدّعي الطابع الثقافي كتلك. قد يكون مفاجئ للبعض التأكيد على أن هناك تراجعاً على المستوى الثقافي في المغرب، بالمقارنة مع الماضي. فشئنا أم أبينا، أعجبنا ذلك أم لم يعجبنا، خسر المغرب الثقافي كثيراً من ناحية الجودة، حتى إذا ما قارنا وضعه اليوم مع حقبة الوصاية. أكثر من ذلك، وعلى صعيد مختلف، فهو خسر بالمقارنة مع المجتمع التقليدي.

فبالمقارنة مع هذا، يبدو التراجع واضحاً من نواحي الاتساق والنطاق الثقافيين. لقد خسر الفعل "الثقافي" في المغرب من معناه بالمقارنة مع الماضي. لم يكن "موسم" أيام زمان مجرد حدث يخترعه وجهاء القوم. كان موعداً لالتقاء القبيلة أو مجموعة قبائل، من المدينة أو القرية، بالتالي كان "الموسم" أحد المواعيد النادرة للاحتكاك السلمي، ومساحة للتجارة والتبادل بعد الحصاد ووصول القوافل، مثلما هو موعد للاتحاد والسلام وحل النزاعات. لم يكن اختيار المكان خاضعاً للصدفة أو لنزوة وجيه متنفذ مثلما هو حاصل اليوم. فجغرافية القداسة، والتدفقات التجارية، والقيود المتعلقة بالسكن، كانت التقاطعات التي تلتقي عندها هذه المحدِّدات، وهي جميعها ما كان يقرّر اختيار المكان. هي إذاً عقدٌ أساسية تتجاوز المعطى الثقافي والوسائط هامة في تنظيم الحيّزَين الاقتصادي والاجتماعي. فنحن هنا في صميم النظام الاجتماعي، ومنطقه العميق. كانت "المواسم" تندرج في هذا المنطق، وتؤدي وظيفةً حيوية في بلد كالمغرب حيث الثقافة بمثابة بنية تحتية.
ربما لا يجدر توقع أن يحذو مهرجان من مهرجانات زمننا الحاضر أو تظاهرة ثقافية أخرى كبيرة، حذو نموذج "مواسم" أيام زمان. لكن، وببساطة، فمن المشروع الشعور بالقلق بسبب انعدام معنى هذه النشاطات "الثقافية"، وبسبب فراغها واللاجدوى الذي تمثله بالنسبة لمستقبل المغرب. لهذه الأسباب، من الأهمية بمكان تناول أسس هذه النشاطات، لوعيها، وكي لا نسمح بأن يخبرنا البعض روايات وخزعبلات عن الأمر. لا تزال الثقافة في قلب حياتنا وفي صميم مستقبلنا الذي ما زال إشكالياً حتى الساعة. وليس المقصود بالثقافة المعنى الذي تعطيه إياه وزارة الثقافة. سيكون ذلك اختزالياً للغاية. بل المقصود الثقافة بمعناها المكين الذي يخترق مجموع الوزارات، الثقافة التي تطبع مضموناً لتمثيلاتنا ولطموحاتنا. إنّ الطموح بالتموضع في مثل هذا المستوى هو الذي يجب أن يسكن الأشخاص المهتمين بالثقافة. بكلام آخر، علينا أن نناضل من أجل ثقافة تغيير بدل ثقافة المهرّجين.
*************************
المهرجانات في المغرب كثيرة، أشهرها: مهرجان "موازين" في الرباط، ومهرجان مراكش السينمائي الدولي.

مقالات من المغرب

الناجح: لا أحد

نحتار ونحن نَطّلع على مؤشرات التعليم في المغرب خلال العقدين الأخيرين، بين مستوى المدارس والتعليم حسبَ ما نعاينه فعلياً من جهة، وما تقوله من جهة ثانية الإحصاءات الدّولية حول التعليم،...

للكاتب نفسه

فخّ الصورة بين الحقيقة والوهم

ما يجري أشبه بلعبة على الويب، وظيفتها امتصاص الحقيقة الاجتماعية الصعبة، التي تفرغ وتمتلئ بعيداً، وبشكل عميق، بفضل الشعارات، وبفضل انطباع القوة والشرعية الذي تعطيه التظاهرات الأكثر احتفالية من أي...

مغرب الورثة: الاصطفاء الطبيعي لا يحصل

كلمة السرّ في أيامنا هذه، "افتح يا سمسم" العالم الحديث، هي "الابتكار"، مصدر كلّ تقدم. وسرّها هو الإنسان. الإنسان المتعلّم والمتحرّر، المتمتع بكرامة مضمونة. يبدو أن المسؤولين في المغرب واعون...