تعْريبٌ أم فَرْنسة؟ المدرسة المغربية حلبة صراع ايديولوجي

يختلف السياسيون المغاربة على لغة التدريس، وكل طرف يتهم الآخر بافتعال النقاش وأدلجته وتسييسه، بينما يغيب عن هذا النقاش القلب منه، أي بلورة تصور عام لوظيفة التعليم، كما تغيب المشكلات الفعلية التي تواجهه حالياً.
2019-05-07

سعيد ولفقير

كاتب وصحافي من المغرب


شارك
بشير بشير - سوريا

في إحدى الدورات التدريبية، يستفسر استاذ التعليم الابتدائي مفتشه التربوي عن جدوى "التناوب اللغوي" للمواد العلمية، بينما لا حاجة لشرح ظواهر علمية بلغتين مختلفتين. يوضّح المفتش بأن هذه الخطوة لم تحسم بعد، وأنها في مرحلة التجريب.

وفعلاً، لم يتم بعد إقرار مبدأ التناوب اللغوي في منظومة التعليم المغربي، الذي يهدف - كما جاء في مشروع قانون التربية (1) - إلى "تنويع لغات التدريس وذلك بتعليم بعض المضامين أو المجزوءات في بعض المواد باللغات الاجنبية قصد تحسين التحصيل الدراسي فيها".

وقد قوبل القانون بالسجال والنقاش بين فريقين،الأول يتمسك بالتعريب والثاني يعتبر اعتماد الفرنسية واللغات الأجنبية الأخرى مُجْدٍ.

سجال ايديولوجي وسياسي

يختلف السياسيون المغاربة على لغة التدريس، وكل طرف يتهم الآخر بافتعال النقاش وأدلجته وتسييسه. مؤيدو التعريب لديهم شك في "نوايا" وزارة التربية من اعتمادها للغات أجنبية في تدريس العلوم، إذ يرون بأن "التناوب اللغوي" وسيلة لتعود الفرنسية من جديد لتصبح لغة التدريس في مواد الرياضيات والعلوم الحية والتقنية. "حزب الاستقلال" (اليميني المحافظ) المعروف تاريخياً بتأييده وتبنيه لسياسة تعريب التعليم قال بأن "سياسة التعريب التي نهجتها بعض الحكومات، قبل التراجع عنها، لم تؤدِ سوى إلى ضياع أجيال من الطلاب الذين لم يتقنوا العربية ولم ينجحوا في امتلاك لغات أجنبية، بسبب التردد والتجريب الذي ظل يطبع التعامل مع قضايا إصلاح التعليم". ويتفق "حزب العدالة والتنمية" ذو المرجعية الاسلامية مع طرح حزب الاستقلال، و يؤكد على أن المشكل سياسي وايديولوجي، وأن "المغاربة ومنذ الاستعمار إلى حدود ثمانينات القرن الماضي، ظلوا يدرسون باللغة الفرنسية كلاً أو جزءاً، لكن ذلك لم يمنع من تسجيل اختلالات عميقة في منظومة التربية والتكوين"، كما يعتبر قرار العودة إلى التدريس باللغة الفرنسية بمثابة "نكوص لغوي وإهانة للغتين دستوريتين".

وعلى النقيض، تدافع احزاب مثل "الاصالة والمعاصرة" و"التجمع الوطني للاحرار" على ضرورة "ضمان انفتاح أبناء الفئات الشعبية على باقي اللغات الأجنبية، دون أن يعني ذلك التقليل من أهمية العربية التي يجب تعزيز مكانتها إلى جانب الأمازيغية".

وبالموازاة، أيدت التنسيقيات والجمعيات الأمازيغية العودة إلى تدريس المواد العلمية والتقنية باللغة الفرنسية باعتبارها "اللغة المعمول بها في مجال البحث العلمي بالمغرب، مع الانفتاح على اللغة الإنجليزية" التي هي "الرائدة في هذا المجال دولياً"، كما دعت إلى تدريس المواد الأدبية باللغتين الرسميتين، العربية والأمازيغية، و "الانكباب على إصلاح تعليمي جذري بروح وطنية، بعيداً عن الحسابات السياسوية الشعبوية".

في البداية كانت الفرنسية

كان التعليم المغربي إبان الحقبة الاستعمارية الفرنسية يدرّس - في جله - بلغة المستعمِر، وهذا الأخير شيّد المدارس والمؤسسات والمعاهد وفق النسق الأوروبي الحديث، هي لم تكن بغرض تدريس المغاربة الفقراء، بل كانت لصالح الأوروبي والمعمِّر الفرنسي أولاً، ثم لأبناء الأعيان المغاربة ثانياً، أما بقية المغاربة فتم تقسيمهم على أساس عرقي وطائفي. كان التعليم بالمغرب في هذه الحقبة طبقياً وتمييزياً، فقد اعُتمِدت مدارس سميت "المدرسة الفرنسية - البربرية"، خصصت للأمازيغ المغاربة في الأرياف والمناطق الجبلية، وثانية مخصصة لليهود. أما بقية المغاربة من الطبقة الشعبية الفقيرة فخصص لهم تعليم ذو طابع حرفي ومهني وآخر تقليدي محافِظ يدرّس في معظمه بالمساجد والمدارس العتيقة، دعمته سلطات الحماية الفرنسية مخافة أن يهجر المغاربة نحو المدارس المشرقية المتأثرة بخطابات السلفية الثورية.

وأمام استحواذ الفرنسية للمشهد التعليمي، صار لزاماً على النخبة المغربية المتعلمة والثرية، ممن يناهضون الاستعمار، أن تؤسس مدارس "حرة" تتبنى التعريب في جل المواد الدراسية.

ثم، إبان الاستقلال، تعالت الأصوات بتطوير التعليم وجعله مغربياً خالصاً، ينهل من الثقافة الأوروبية الحديثة ويحافظ على هويته الثقافية، والأهم، حسبهم، هو التعريب. أرست الحكومة أولى خطوات الاصلاح بغية "نهضة التعليم" وفق أربع أسس وركائز: التعميم، التوحيد، التعريب، ومغربة الأطر.

كان التعليم المغربي إبان الحقبة الاستعمارية الفرنسية يدرّس - في جله - بلغة المستعمِر، وهذا الأخير شيّد المدارس والمؤسسات والمعاهد وفق النسق الأوروبي الحديث، هي لم تكن بغرض تدريس المغاربة الفقراء، بل كانت لصالح الأوروبي والمعمِّر الفرنسي أولاً، ثم لأبناء الأعيان المغاربة ثانياً، أما بقية المغاربة فتم تقسيمهم على أساس عرقي وطائفي.

شرعت وزارة التربية في استغلال الأبنية التعليمية التي استلمتها من الاستعمار الفرنسي لتلقين الدروس، ووجهت نداءً لعموم المغاربة بغية تسجيل أبنائهم في المدارس العمومية، ووظفت كل حامل لشهادة التعليم الابتدائي، وأيضا كل من يحسن القراءة والكتابة كيفما كان مستواه الاجتماعي أو المعرفي، وتمّ تكوينهم على الأساليب التربوية في التدريس في اطار ما كان يسمى بـ"التكوين السريع" (2).

بيد أن هذا المخطط لم ينجح تماماً، إذ واجه مشاكل ومعيقات لتطبيقه، وكان أبرزها القلة في الأطر التعليمية المغربية القادرة على تعزيز اللغة العربية، ما جعل اللغة الفرنسية تبقى حاضرة بقوة في المناهج الدراسية. ينتقد المفكر المغربي محمد عابد الجابري الأسس الأربعة التي تبناها الاصلاح التعليمي خلال فترة تاريخية سجلت فيها البلاد صراعات ايديولوجية بين الفرقاء السياسيين، وفي ظل مناخ سياسي محلي مضطرب لبلد لم يحسم سؤال الهوية والانتماء.

يقول الجابري: "إنها مبادئ تكرس التعدد والازدواجية وتفسح المجال واسعاً للتراجع عن التعريب بدعوى مغربة الأطر أولاً، وعن التعميم بدعوى انخفاض المستوى بسبب التعريب، وعن التوحيد بدعوى فتح المجال أمام المدارس الحرة... مما يهيئ تعليمنا لأن يبقى دائراً في حلقة مفرغة، متخبطاَ ذات اليمين وذات الشمال، كما حدث بالفعل، ولا زال يحدث الآن" (3).

..ثم جاء التعريب

في عقد الستينات الفائتة، تمّ تعريب بعض مواد السنوات الأربع الأولى من الابتدائي، في اطار ما سمي آنذاك بالنظام المزدوِج بين اللغتين العربية والفرنسية. و مع مرور السنوات، بدأت العربية تشمل - على نحو تدريجي - مواد ومستويات دراسية أخرى، إلى أن أعلن المغرب بشكل رسمي تعريب التعليم عام 1977.

وكانت هذه الاستجابة لنداءات المحافظين والاسلاميين الراغبين في التعريب، بهدف تقويتهم وتعزيز حضورهم داخل النسق الاجتماعي والثقافي بالبلد بوجه اليساريين "المزعجين" و"المؤججين" للاحتجاجات. وكانت هذه الوصفة معروفة حينذاك إذ تلعب السلطة على التوازنات السياسية والايديولوجية.

اعُتمِدت مدارس سميت "المدرسة الفرنسية - البربرية"، خصصت للأمازيغ المغاربة في الأرياف والمناطق الجبلية، وثانية مخصصة لليهود. أما بقية المغاربة من الطبقة الشعبية الفقيرة فخُصص لهم تعليم ذو طابع حرفي ومهني وآخر تقليدي محافِظ يدرَّس في معظمه بالمساجد والمدارس العتيقة.

لم يكن لدى المغرب عدد كافٍ من الأساتذة، فكان مفروضاً عليه استيراد مدرسين من بلدان عربية (مصر،سوريا، العراق...) لتنفيذ قراره بشكل سريع وناجع. تمّ تعريب المناهج الدراسية من المستوى الأول ابتدائي إلى حدود البكالوريا ( ابتداء من تسعينات القرن الفائت)، لكن المتعلم وجد نفسه مضطرا لدراسة المواد العلمية والتقنية باللغة الفرنسية في الجامعات ومؤسسات التعليم العالي. هنا اكتشف المغرب بأن التعليم يمضي في السكة "الغلط"، و قرر ابتداءً من الموسم الدراسي 2015/2016 أن يعود للفرنسية عبر اعتماد بكالوريا دولية وتدريس المواد العلمية في الثانوي بالفرنسية، فدفن 30 سنة من التعريب ليعود من جديد للفَرْنَسَة.

ويبدو أن ما يسجله التعليم المغربي من تخبط اليوم، تنبأ به المفكر الجابري (المدافع عن التعريب) قبل عقود مضت، إذ وصف المشهد بـ"السوريالي والسيزيفي": " في كل مرة يتسلق فيها التعريب بعض الدرجات في سلم تعليمنا، إلا وكانت الخطوة التالية هي الرجوع للوراء بأسرع ما يمكن. إن أسطورة سيزيف الخيالية قد وجدت أخيرا تحقيقها الواقعي المشخص فيما يُدعى عندنا بمشكلة التعريب" (4).

ما العمل؟

يرى خط ثالث (لا يتمسك بالتعريب ولا بالفرنسة) أن الحل العملي يكمن في تدريس كل العلوم الحديثة والتقنية بالانجليزية، مع الحفاظ على اللغة العربية جنباً إلى جنب مع الأمازيغية، ومع عدم التفريط بالفرنسية، لكن ليس كمادة محورية تدرّس في كل المواد أو تعتمد في النظام الاقتصادي والاداري المعمول به حالياً.

بيد أن باحثين تربويين يرون بأن "التناوب اللغوي"، يعتبر حلاً وسطاً وتوافقياً بين التعريب والفرنسة، إذ لا يفرط في اللغات الأم كالعربية والأمازيغية ويعتمدها في المواد الأدبية واللغوية، ولا يستغني عن اللغات الأجنبية كالفرنسية والانجليزية على اعتبار أولويتهما في تدريسها للمواد العلمية والتقنية (خاصة الانجليزية).

لا يوجد تعليمٌ ناجع من دون توفر تعريف لغاياته، وهي ليست مجردة، ولا هي تقنية (فحسب)، بل تنطلق من تعيين "التصور عن الذات" أولاً، والذي تتداخل فيه بالطبع المصالح الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

بينما يبقى الإشكال حالياً في المزايدات السياسوية الضيقة، وهي أس المعضلات التي تمس التعليم بالبلد. فالمدرسة المغربية كانت وما زالت حلبة صراع ايديولوجي وسياسوي يهدف إلى الاستعراض الاعلامي وكسب النقاط الانتخابية. كما تطرح مشكلة استقلالية القرارات السياسية. فالمغرب "ابن بار" لفرنسا، وهذه الاخيرة لن تفرط في تكريس إرثها الاستعماري، الثقافي واللغوي، وتوظيف ذلك في توطيد علاقاتها مع نخبة نافذة تسيطر على معظم اقتصاد البلد.

وأمام هذا السجال الذي يوصف بـ"المفتعل"، ترى أصوات أخرى بأن التعليم المغربي مقبل على تحديات تمس بنيته الوظيفية والمهنية (مشاكل التعاقد، نظام الترقية والتقاعد والاجور...)، وأخرى تهدد استمرارية المدرسة العمومية، والاتجاه نحو تسليعها (5).

وتظل المعضلات البنيوية غائبة - أوشبه غائبة – عن النقاشات العمومية بالمغرب، من قبيل تناول الأنماط المعتمدة في التدريس التي ما زالت تتبنى الحشو والحفظ والتكرار الببغائي. وتكريس المناهج لقيم التنميط والتدجين والسطحية، دون إعمال ملكة الفهم والنقد والابداع.

______________
1- المادة 4 من مشروع القانون الاطار رقم 51.17 المتعلق بمنظومة التربية والتعليم والتكوين والبحث العلمي
2- محمد عابد الجابري، "أضواء على مشكل التعليم بالمغرب"، دار النشر المغربية بالدار البيضاء، الطبعة الثانية 1985
3- أضواء على مشكل التعليم بالمغرب، مرجع سابق
4- أضواء على مشكل التعليم بالمغرب، مرجع سابق
5- تنص المادتين 4 و45 من مشروع قانون الاطار رقم 51.17 المتعلق بمنظومة التربية والتعليم والتكوين والبحث العلمي على فرض رسوم مالية بشكل تدريجي في التعليم الجامعي ثم الثانوي والاعدادي لاحقا.

مقالات من المغرب

المغرب... مَن أثقلَ جيوب العيد؟

يبدو المشهد مثاليّاً، ولا شيء ينغصّه. فالملابس جديدة، والوجوه هانئة، كأن الحياة بهية والجو بديع. بل تتلوّن الجلابيب أكثر كل سنة، وتبدو أغلى تكلفة وأرفع جودة. فهل صار المغاربة أغنى،...

للكاتب نفسه