إعادة اكتشاف السودان

جرى اليوم الاعلان عن تصور متكامل للمرحلة الانتقالية المدنية في السودان، مع تفصيل ملامحها الدستورية، ليكون بديلاً عن الإطار الذي تفرضه وتتمسك به الشلة العسكرية من معاوني البشير وأذرعه اليمنى، الذين قرروا التضحية به لانقاذ أنفسهم ولانقاذ النظام نفسه.
2019-05-02

نهلة الشهال

أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"


شارك
غرافيتي من السودان

كنا نعرف السودان حين كانت المنطقة العربية متداخلة في شؤونها وشجونها، على الرغم من كل الاعطاب الملمّة بها. وكان البلد الجميل يشتهر بوداعة أهله ومرحهم، وتصالحهم مع بنية بلدهم هائل الأطراف ومتنوع التركيبات. كنا نعرفه حين تميّز الحزب الشيوعي السوداني بامتلاك حضور قوي وأصيل في البلد، لم يكن مقتصراً على بعض الأوساط من المثقفين، ولم يكن متغرّباً ولا متبرّماً من "تخلّف" البنية الاجتماعية.. حاضراً لدى العمال وفي نقاباتهم بمقدار حضوره لدى الطلبة، وفي الحلقات الصوفية التي كان مريدوها يتوزعون على طرق شتى، اشتهرت منها المهدية والختمية، ولكنها أحدثها وربما أكثرها ارتباطاً بالسياسة، بينما يقف في خلفية المشهد ما لا يُحصى من المزارات والأولياء والمعتقدات التي يصعب فرز إسلاميتها عن روحانياتٍ افريقيةٍ تقليدية..

وعلى الرغم مما عصف بالمنطقة كلها بعد ذاك، بقينا نعرفه حين تمكنت - في منتصف الثمانينات الفائتة - حركة جماهيرية هائلة من فرض انهاء حكم انقلابي عسكري.. ثم غاص السودان في أحداثه و"تنمّط" مقترباً حد التماهي مع الشكل المألوف في المنطقة من طرائق الحكم والتسلط والتقلب والفساد والبطش. فغاب عنا بمعنى فقدان تلك الخصوصيات التي كانت تستدعي الانتباه وتستحقه. وبما أن الوجوم كان سيد الموقف اجمالاً - إلا في واقعات معاكسة، صغيرة أو كبيرة، كانت تومض بين حين وآخر هنا وهناك - فقد انشغل كل واحد بحاله.

...

نقفز عن 2011، وهو الحدث الجلل الذي ما زال يحتاج - وبإلحاح "مصيري" - لقراءة وتفحص وتقييم لا تبدو إرهاصاته ماثلة حتى الآن، لنصل الى هذه الثورة الكاسحة الجارية منذ خمسة أشهر في السودان، بحيث أنه حتى أهالي دارفور، وقد ذاقوا الامرّين، وضعوا جانباً جراحهم وحضروا مشاركين فيها.. ولم يبق في البلد الشاسع من لم يشارك.

ولكن ليس هذا، وليس أنها تمكنت من الحفاظ على سلمية التحركات، وليس أن حضور النساء في المظاهرات كان هائلاً – حقاً، وليس أن الضبّاط الصغار والجنود يؤيدونها.. وليس كل ما يروى عن التعاضد الذي يبديه الناس حيال بعضهم بعضاً، وغيره كثير.

بل ما يدهش هو النضوج المتعاظم الذي يطبع من يمكن اعتبارهم ناطقين باسمها او ممثلين لها. فهم بالطبع متنوعون، ويختلفون ويتصارعون فيما بينهم، ويتناقضون مع سواهم من القوى السياسية الكثيرة التي يزخر بها البلد ولم يمكن تصفيتها (وإن جرى تدجين بعضها، كلياً أو بدرجات، سواء لمصلحة النظام او لمصلحة الحسابات الانتهازية التي تزدهر في مثل هذه الاحوال)، ولكنهم حرصوا حتى الآن على أمرين هما جوهر السياسة (بمعناها النبيل): السعي لإيجاد توافقات، والسعي لطرح مقترحات ملموسة وبدائل ممكنة. وهكذا فلم يطغَ هنا النزوع للاستئثار والتفرد، ولا طغت اللفظية التي تُخفي عادة انقطاع الصلة بالواقع... ولكل منهما ملحقاته الرثة.

مقالات ذات صلة

آخر الافعال اليوم: الاعلان عن تصور متكامل للمرحلة الانتقالية المدنية وملامحها الدستورية، بديلاً عن الاطار الذي تفرضه وتتمسك به الشلة العسكرية من معاوني البشير وأذرعه اليمنى، الذين قرروا التضحية به لانقاذ رؤوسهم ولانقاذ النظام نفسه: إعلان دستوري تفصيلي للفترة الانتقالية، صاغته "قوى إعلان الحرية والتغيير" وسلمته إلى المجلس العسكري الانتقالي، محدِّدة أنه "قابل للتفاوض وللتعديل".. ولكن يتوجب الرد عليه خلال 3 أيام!

قد لا يصل كل هذا الى مبتغاه، على الرغم من الجماهيرية ومن المثابرة ومن التضحية ومن الحكمة ومما يبدو كخبرة عميقة بالبلد وبالسياسة. قد يُحبط، قد يُقمع.. قد تتمكن مصر والسعودية ومعهما امبرطورية الامارات العظمى من التلاعب بالموقف، كما قد يتمكن سائر المتدخلين من ذلك. قد يفشل المسار المختار حتى الآن، وتجد القوى الثائرة نفسها أمام استعصاء التغيير بوسائل "ديمقراطية".. يبقى أن هناك لحظة منيرة خُطّت فعلاً، وقد تتحقق..

مقالات من السودان

للكاتب نفسه

ماذا الآن؟

وقعتْ إسرائيل في خانة المستعمِر، واهتزت بقوة "شرعيتها" المصنوعة بتوأدة. حدث ذلك بفعل مقدار منفلت تماماً من همجيتها في الميدان وصل إلى التسبب في الصدمة للناس، وكذلك بفعل التصريحات والخطب...